هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا غرابة في ذلك أن تجد الفرق بين أبناء باديس وأبناء باريس حرف واحد، بل وبين التعريب والتغريب نقطة واحدة قد تمثل وقفة ذبابة عابرة على صفحة كتاب أو خطاب، ولكنَّ وراء تلك النقطة في واقع الأمر قرونا من البناء الحضاري وبحارا من الدماء وجبالا من الأشلاء والشهداء!
لقد استعمل الفرنسيون طوال الحرب العالمية الثانية كل وسائل الخداع والمناورة والمماطلة إلى حين انتصارهم، فظهروا على حقيقتهم إثرها ليرتكبوا أضخم مجزرة في تاريخ الاستعمار، عاش أحداثها ملايين الأطفال والشباب، ومن هؤلاء الشبان مؤسسو "جبهة التحرير الوطني" الذين كانوا يتقدون حماسة ووطنية في ريعان شبابهم..
إذا كانت أيام الشباب لدى الكائن الإنساني تمثل أقوى وأغلى أيام عمره المديد، إذ بها وفيها يتقرر مصيره، وعليها يتوقف ـ غالبا ـ نجاح أو فشل حياته المستقبلية، فإن الشبيبة من الأمة هي بمنزلة فترة الشباب بالنسبة لحياة الفرد، فهي عصبها الحساس، وطاقتها المحركة والدافعة إلى تحقيق الأهداف المأمولة لها في الوجود بين الأمم.
من الطرائف التي وقعت له مع ابن خدة في إحدى زياراتهما الرسمية للصين فيقول: "وكاد ابن خدة أن يختنق من الضحك، وكان هذا في مأدبة عشاء عند وزير الدفاع الصيني المارشال بن تاخاي. كان الحديث حادّا وجادّا، فلم نكن نهمل أي كلمة من حديث المارشال، حيث كان يروي لنا عن حرب كوريا، فقد كان هو قائد فرقة المتطوعين الصينيين، وقد أورد في كلامه: "كان عندي "مليون جندي" وفي الأخير رفع كأسه مناديا بانتصارنا، وصداقة شعبينا وسقوط الأمبريالية، وختم كلامه متنهدا: "للأسف لو كان عندنا حدود مشتركة مع الجزائر! لبعثنا لكم بالكثير من المتطوعين".. وعلى إثر هذه الكلمة صحت باللغة العربية الدارجة وقلت لابن خدة: حمدا لله أن هذا لم يكن..! فالفرنسيون يذهبون حتما يوما، ولكن من يستطيع إخراج الصينيين إذا ما انغرسوا عندنا!؟".
سنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وإن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..
يصف المجاهد حسين دالي المعاملة الحسنة التي كان يتلقاها الطلبة المجندون في جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة فيقول: "كنا نحن المتعلمين، نُعامل معاملة خاصّة من المجاهدين، فكان السي سليمان، رحمه الله (مسؤول الناحية)، يأمر أحد الجنود بأن يحملني على ظهره عندما نمر عبر واد، حتى لا أتبلل، ويقول له عني، وآخرين مثلي؛ إنهم إطارات الوطن في المستقبل".
إنّ الإسلام غرس اليقين في أناس لا يملكون شيئا من متاع الدنيا، بأنّهم سينتصرون على آخرين قد ملكوا كلّ متاعها، فاندفعوا إلى المواجهة، تحدوهم الرغبة إلى ملاقاة ربّهم و ما أعد لهم قبل رغبتهم في غلبة عدوّهم.
لا نقبل أن يتحول الاستثناء إلى قاعدة، والقاعدة إلى استثناء، فذلك من أقدس مهمات الباحثين والحريصين على كتابة تاريخ ثورة الجهاد للأولاد والأحفاد... وهناك تصريح آخر لأحد قادة الثورة في شهر أفريل من هذه السنة (1982) في أثناء محاضرة ألقاها في اتحاد الكتاب الجزائريين(*) (وقد كنت من بين الحاضرين).
بعد العرض الموجز لموضوع المحاضرة في الجزء الأول من هذا المقال وأهم نتائجها أدعو القارئ أن يتبين معي الأسباب التي أدت إلى "الانتقاص الخطير" كما قرأنا في التعليق على المحاضرة في جريدة "المجاهد"..
إن لكل مذهب من المذاهب الفلسفية منطلقات، وحججا معتبرة لا يمكن دحضها بسهولة، ومن ثمة تكون المسألة في الإيمان بالحقائق الميتافيزيقية مسألة استدلال واقتناع، أكثر مما هي مسألة إقناع، والعقول درجات وأنواع، ولكل طرف حججه المقنعة له على الأقل!!