هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
القرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعو إلى التعلم عن طريق القراءة والكتابة، وبالآيات التي تبين شمولية العلم وسعته في المنظور الإسلامي وعدم قصوره على الماديات وما يخضع للمس والمشاهدة كما تبين أنه ليس قاصرا على معرفة الشريعة وما يعلم عن طريق الأنبياء والمرسلين .
إن كل الانبياء والرسل كانت معجزاتهم لقومهم فقط، ولا تلزم غيرهم بأن يؤمنوا بها دون أن يروها وبأن يفهموها، إلا النبي الخاتم الذي يتميز بمعجزة خالدة قائمة حية بعده، تخاطب كل العقول في كل العصور.. وكلما تقدم الإنسان في علمه، وجد القرآن أمامه مثل ظله، وكأن الرسول الخاتم جالس معه بلحمه ودمه، ومن ثم كان الإسلام جامعا ومانعا وصالحا لكل زمان ومكان، ويبقى القرآن مهيمنا على كل الأديان؛ لأنه يخاطب كل إنسان في كل زمان ومكان، كما سنحاول أن نبين ذلك بأمثلة واضحة في هذه السطور، إن شاء الله. وأن من جنود الله الذين يخدمون دينه الحق دون أن يشعروا بذلك، بل ربما هم يقصدون عكس ذلك، وينطبق عليهم قوله تعالى: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" (النجم /31).
تداول ناشطون فلسطينيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، اليوم السبت، صور ومقاطع فيديو لعدد من الفلسطينيات بمدينة غزة يجتمعن لسرد القرآن الكريم كاملا غيبا في يوم عرفة..
قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، إن "جنديا إسرائيليا في غزة وثَّق نفسه وهو يرمي القرآن في النار"، ونشرت في حسابها على منصة "إكس"، المقطع المصور ومدته ثلاث ثوان، ولم تحدد موقع الحادث ولا تاريخه..
وثق مقطع مصور متداول على منصات التواصل الاجتماعي لحظات إقدام امرأة تحمل الصليب وآخر يرفع علم الاحتلال الإسرائيلي وهما يضرمان النار بنسخة من القرآن، وسط حماية من رجال الشرطة.
الكثير من نخب الغرب وشبابه المنددين بالاستعمار أعدهم أقرب إلى قيم الإسلام من جل من يدعون النقد الديني بدعوى التحديث وهم في خدمة عملاء الاستعمار وحكامنا الذين نصبهم ومن يدعون الدفاع عن الإسلام بدعوى التأصيل وهم في خدمة عملاء الاستعمار والنوع الثاني من حكامنا وعلمائهم في دار الإسلام..
وصلنا الآن إلى غاية النقد الموجه إلى الإسلام بصورة جذرية، وهو التشكيك الرابع المترتب على كل ما تقدم، وهو يراوح بين اتهام الرسول الخاتم بكونه ناطقا باسم الشيطان، قدحا في أخلاقه إن سلمنا بوجوده، وبين نفي وجوده قدحا في قدرته على تحقيق ما حقق ونسبته إلى غيره: والحصيلة هي الذهاب إلى حد نفي وجود الرسول فيكون شخصية خرافية.
لنشرع الآن في فحص التشكيك الثالث أي "نفي تاريخ نزول القرآن عند أهله والقبول بوجوده مع وصفه بالانتحال أو على الأقل بالتناص ولكن بتاريخ متأخر يذهب البعض إلى جعله مثل الحديث قد كتب في عهد الدولة العباسية فيكون تاريخ النزول غير الذي يؤمن به أصحابه. وقد لا يكتفي أصحاب هذه الدعوى فيضاعفوا تغيير التاريخ بتغيير المكان فيجعمون أنه نشأ في سوريا أو في اليمن.
القرآن لم يكتف بذلك بل هو حدد طبيعة الآيات التي يريها الله للإنسان في الآفاق وفي الأنفس دون أن يقدمها له جاهزة لأن طلبها بالبحث العلمي هو ما سيريه حقيقة القرآن ولن يجدها في القرآن بل في الآفاق وفي الأنفس ما يجعل القرآن موجها إلى البحث فيها في محلها وليس في آيات الرسالة
صنفت أصحاب الحمق الأكبر فميزت فيهم في الفصل السابق خمسة أصناف بمقتضى ما ينكرونه على القرآن فيجعلونه نقدا جذريا. وسأبدأ بأول صنف: "النوع الأول يتعلق بنفي أصله أي الوحي: وهو نوعان نفيه عن الإسلام وليس بصورة مطلقة ونفيه بصورة مطلقة عن كل الأديان".
يغلب على كل المتكلمين في الحضارة الإسلامية أو "ديماغوحيا الإسلامولوجيا" من باعة فريق الآداب عندما تعجز عن وظيفة الأداب أي علم اللسان وعلم وظائفه التواصلية والذوقية. ذلك أن اللسان بحد ذاته لا يتضمن علما معينا بل هو من أدوات الترجمة التواصلية والذوق الأدبية حولهما إذا حصلا عند الجماعة: ولا يمكن أن يكون ما في الدلالات المعجمية للكلام علم أو ذوق لأن المحتوى المعرفي والذوقي يحصلان في مجالين من خارجه فيضمان إليه في الثقافة العامة والفلكلور.
يمكن بعد جمع الأحاديث أن نميز فيها بين ما له مؤيدات كالمطابقة مع ما يوجد في القرآن من ترجمة لحياة الرسول نفسه أو ما يوجد في ممارسات الأمة وخاصة في العبادات الفعلية. فهذا يستثنى من التشكيك فيه وفي رواته. فلا يبقى إلا ما ليس له ما يؤيده في القرآن أو في عام الممارسة التعبدية.
لما بدأت الفلسفة تؤسس نظرية التاريخ بتردد بين ما بعد الأخلاق الروحية (هيغل) وما بعد الطبيعة المادية (ماركس) نكصت الفلسفة بالتخلي عن رؤية كنط النقدية (إلغاء مفهوم الشيء في ذاته بوصفه مفهوما حدا لقدرات العلم) التي ألغت إبستمولوجية المطابقة بين العلم الإنساني والأشياء في ذاتها فاقتضت وجود ما وراء الظاهرات التي لا يستطيع العلم تجاوزها وذلك لتأسيس الإيمان بالمسلمات وتأسيس شروط الأخلاق..
الميتافزيقا وظيفتها تحديد بنية الفنون العلمية وتأسيسها. والدين وخاصة من منظور القرآن يؤدي نفس الوظيفة تماما لكن بكيف مغاير هو ما أطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق. فموضوعه الرئيس هو العلاقة بين التاريخي بوصفه عمل الإنسان الخلقي السياسي والديني بوصفه تأسيسا للقيم التي ينبغي أن تحكم هذا العمل الإنساني..
استنادا إلى مطلوبي الذي حددته في الفصل الأول سأقتصر على العائق الإبستمولوجي أي أنني لن أتكلم على الموقف الإيديولوجي الذي يدفع أصحاب هذا النوع من النقد إلى اعتبار القرآن مصنفا تلفيقيا شكله الظرف الاجتماعي والتاريخي لينتحل ما انتحله من النصوص السابقة عليه فغلب عليه التناص مثل أي نص مرتهن بظرفياته.
النزعة الأيديولوجية رغم الدور الذي تؤديه في هذه الخصومات ليست ما يعنيني كثيرا في هذه المحاولة. فلعلها ليست إلا من آثار خصومات القرون الوسطى بين أصحاب الأديان الكتابية المتنافسة بل ما أهتم به هو بالأساس انبعاث الخصومات التي تستند إلى رؤية ما بعد هيجلية وماركسية ضد الدين عامة وعندنا خاصة ضد الإسلام ونص القرآن..