الكتاب: "مظاهر التيسير في القرآن الكريم"
المؤلف: فوزي جادالله
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2022
"وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ". آية مفتاحية ينطلق منها، الطبيب المهتم بعلوم القرآن، فوزي
جادلله في بحثه هذا حول مظاهر التيسير في القرآن الكريم، في الفهم والحفظ
والالتزام بالتشريعات التي حملها، الذي يتجلى في أبواب عديدة منها ترابط معانيه
وترابط المواضيع التي تناولتها السور، وغياب أي تناقض بين آياته التي تتناول
أحداثا تاريخية أو كونية وبين ما هو مدون ومعروف للقارىء في أي زمن كان.
كما يُلمس
هذا التيسير، على سبيل المثال، في أسلوب القرآن القصصي الذي يجعل قراءته سلسة
قريبة للنفس، وفي لغته العربية التي تحتوي الكثير من المحسنات اللفظية والبديعية
ما ييسر حفظه وفهمه، دليله في ذلك الأعداد الكبيرة من الحفّاظ، وأحيانا يكونون من
غير العرب، وأولئك الذين يفرغون أوقاتا عظيمة لقراءته في المساجد والبيوت لا
يملّون صحبته وتدبره. هذه العاطفة الجياشة من المسلمين تجاه كتابهم الكريم صالحة
لأن تكون تفسيرا لهذا التيسير، بحسب ما يقول جادالله.
يشرح جادالله كيف أن ترابط المعاني والمواضيع في سور القرآن هو واحد
من مظاهر التيسير القوية، التي تسهل قراءته وفهمه وحفظه. ويذكر أن الأمثلة كثيرة
على أنه لم يأت حرف ولا كلمة ولا آية ولا فكرة إلا لخدمة موضوع السورة. كما أنه لم
يرد ذكر لحيوان أو حشرة أو مخلوق في السور إلا وكان خدمة للوحدة الموضوعية لها،
وهو جانب مهم تناوله بالبحث العديد من الدارسين للقرآن، مثل الشيخ محمد الغزالي في
كتابه "التفسير الموضوعي" للقرآن.
ويضرب جادالله مثلا على ذلك من سورة النمل، ففي السورة عندما اقترب
جيش سليمان عليه السلام من النمل حذرت نملة فريقها من أن يبيدهم سليمان وجنوده دون
أن يشعروا بذلك، ففهم سلمان كلامها وتأثر بمنطقها وكان رحيما بها. وعندما تأتي قصة
بلقيس تذكر السورة كيف أنها توجست خيفة من رسالة سليمان عليه السلام، فكان توجسها
وخوفها مشابها لتوجس وخوف النملة.هذا مع العلم أن الله جعل الرئاسة في مجتمع النمل
للملكة، كما هي الحال في بلقيس ملكة سبأ.
إعجاز علمي وتاريخي
في باب آخر يلفت جادالله إلى جانب من جوانب التيسير يتمثل في أن
القرآن الكريم لم يورد حقيقة علمية تصطدم بالعلم الحديث، ولو حدث ذلك، جدلا، لنفر
منه علماء العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والفلك والجيولوجيا والأحياء. فليس في
القرآن شيء من الخرافات وغير المعقول الذي يأباه العقل والقلب ويصعب ترديده وحفظه
والعمل به. كذلك فإن ما ورد من حقائق تاريخية في القرآن يضفي عليه الإقناع اللازم
واليسر، فلا يجد فيه القارىء الملم بالتاريخ ما يعارض أو يناقض ما ثبت من الأحداث
التاريخية.
رسخ القرآن التوحيد والعقيدة على مدى ثلاثة عشر عاما مدة القرآن المكي، فكان من معاني العبادة: الطاعة في التشريع. وقبل فرض الجهاد ومنازلة الأعداء نزلت الآيات التي تهيىء النفوس لقبول التشريعات ولمجاهدة النفس.
من جهة أخرى فقد وافق القرآن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وتفاصيل الأحداث من البعثة إلى الهجرة إلى فتح مكة، فمن علم القرآن عرف السيرة ومن
علم السيرة سهل عليه القرآن، حتى خرج علم أسباب النزول الذي يربط بين أحداث السيرة
وآيات القرآن الكريم، وفيه أخبار عن بدايات التنزيل في سورتي المزمل والمدثر،
وتثبيت لفترة الوحي أي توقفه وعودته على النبي صلى الله عليه وسلم كما في سورة
الضحى، وتبيان لخصائص فترة العهد المكي في الآيات التي نزلت قبل الهجرة، وهي تربية
الصحابة على معاني التوحيد وتبيان حقيقته، ومعاني اليوم الآخر، والإيمان بالغيب،
وبالكتب السماوية والرسل السابقين..الخ. لتواكب الآيات المدنية بعد ذلك تحولات
المجتمع وحاجاته المتصلة بالعقيدة والعبادة وأحكامها، وتنظيم علاقاته مع غير
المسلمين. وكل ذلك يجعل من قراءة القرآن وتدبره وفهمه أمرا ميسرا، بحسب جادالله.
يرى جادالله أن أحكام الفقه في القرآن الكريم تحمل في ثناياها الكثير
من مظاهر التيسير أيضا، رغم أن عددها(500 آية) محدود بالنسبة لعدد آيات القرآن
التي تبلغ (6236) آية. فقد بدأ التشريع بترسيخ معاني: لا إله إلا الله. حيث رسخ
القرآن التوحيد والعقيدة على مدى ثلاثة عشر عاما مدة القرآن المكي، فكان من معاني
العبادة: الطاعة في التشريع. وقبل فرض الجهاد ومنازلة الأعداء نزلت الآيات التي
تهيىء النفوس لقبول التشريعات ولمجاهدة النفس. إضافة إلى ذلك فقد نزل القرآن
منجما، أي مفرقا على الوقائع والأحداث، الأمر الذي سهّل العمل بالأحكام، إذ لو
نزلت جملة واحدة لما طاقها الناس. وقد ربط القرآن التكاليف بالتقوى.
فالتقوى ثمرة
الطاعة، ومعها يأتي الفرج، وأداء التكاليف هو معنى العبادة، ومع الالتزام بها
تتحقق السعادة والفلاح. وهذا كله تشرحه وتؤكد عليه آيات القرآن. لكن هذه التكاليف
أيضا جاءت متدرجة وبما يناسب الوسع والطاقة للبشر، والتي قد تسقط أحيانا، أو تخفف
تبعا للحالة التي يكون عليها المسلم، فالأصل في التكاليف الشرعية هو التيسير لا
التعسير.
العربية وجه من وجوه التيسير
من التيسير أيضا، بحسب ما يرى جادالله، نزول القرآن باللغة العربية،
فهي لغة شاعرة تمتلىء بالمحسنات اللفظية والبيانية، جزلة وواضحة، تعبر عن المراد
بأفضل صورة وبأقل لفظ، كثيرة المفردات غنية بالأوصاف الدقيقة، واسعة ومرنة،
وأساليبها متنوعة. فضلا عن أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فالأمة التي نزل القرآن
بلغتها ذات قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات والأصوات وطرق الأداء. ولو
أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد لشق الأمر عليها، والشريعة مبناها ومجراها على
رفع الحرج والتخفيف على العباد.
كذلك فإن قبول تحسين الصوت في قراءة القرآن وجه من وجوه التيسير ،
وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني أنه "لا شك أن النفوس تميل إلى سماع
القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم ، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب
وإجراء الدمع". كما أن قراءة القرآن بأحكام ترتيله وتجويده ميزة تظهر جماله،
ومن ثم تيسر حفظه. ومن أساليب التيسير وإضفاء الجمال عند قراءته مناسبة ترتيب
السور، فخواتيم السورة السابقة تناسب فواتح السورة اللاحقة. وهذا مضطرد في كل
القرآن وكتب حوله السيوطي وغيره من العلماء. فعلم المناسبات علم عظيم أودعت فيه
أكثر لطائف القرآن وروائعه.
حفل القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة والرسل الكرام، وفيها تصديق لما جاء في قصص الرسل السابقة، وتصحيح لما رود فيها من أخطاء بشرية في النقل والتحريف في الكتب السابقة، وتفصيل لكل ما يحتاجه المؤمن، وهداية لمواطن الحق للاتباع، ومواطن الباطل للامتناع، ورحمة لأن القصص محببة للنفس البشرية وهذا من التيسير.
كذلك فإن تكرار الآيات أو جزء منها في السورة الواحدة شكل من أشكال
التيسير، إذ يؤكد على المعنى ويثبته ويسهل حفظه، وهو ما ينطبق أيضا على تكرار
الكلمة في الآية أو الآيتين المتتاليتين. والقرآن ممتلىء بمثل هذا، فكأن الآيات
يتكرر فيها اللفظ أو المصدر، ويتكرر فيما تبعها من آيات، لتبيان ترابط المعاني،
وللتيسير في الحفظ والتلاوة، ولتثبيت هذه المعاني بنقاط ارتكاز، بحسب جادالله.
أما في القصص القرآني فيظهر التيسير في ما تحمله هذه القصص من عبرة
وأسوة تفعل فعلها في التثبيت والمواساة. وقد حفل القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة
والرسل الكرام، وفيها تصديق لما جاء في قصص الرسل السابقة، وتصحيح لما رود فيها من
أخطاء بشرية في النقل والتحريف في الكتب السابقة، وتفصيل لكل ما يحتاجه المؤمن،
وهداية لمواطن الحق للاتباع، ومواطن الباطل للامتناع، ورحمة لأن القصص محببة للنفس البشرية وهذا من
التيسير.
وفي سورة يوسف مثل عظيم على ذلك. فهي كأنها بحث متكامل له مقدمة
وموضوع وخاتمة، وفيها من الابتلاءات التي ابتلي بها يوسف عليه السلام، وتفريج الله
عنه في جميع الابتلاءات مع إخوته في محنة الجب، وفي محنته مع امرأة العزيز، وفي
السجن. وقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه القصة بأحسن القصص في المقدمة، وختم بأنها
عبرة لأولي الألباب، وأنها حديث صدق وتصديق للكتب السابقة. يقول جادالله أنه في كل
آية من هذه السورة محطات وعبر كما في كل القرآن، وقلما تجد قارئا للقرآن لا يحفظ
هذه السورة أو جزءا منها، لتيسيرها وترابط أحداثها وقربها من القارىء والمتدبر،
وحتى أنه أصبحت أجزاء منها أقوالا مأثورة أو أمثلة أو تكاد.