تعرض
المغرب في 8 أيلول/ سبتمبر 2023 ليلا لزلزال عنيف، ضرب أحد أقاليمه
التابعة لمحافظة مراكش، ويضم فوق ترابه قرابة أربعين مدينة وبلدة، والمسمى، بحسب
التقسيم الترابي للمملكة المغربية، "الحوز"، يمتد على مساحة 6212 كلم
مربع، بكتلة سكانية يصل عددها 600 ألف نسمة، نصفهم نساء، وأغلبهم شباب. يحدُه غربا
إقليم شيشاوة، وجنوبا إقليم تارودانت، وشرقا إقليم ورزازات، وشمالا إقليم السراغنة.
وتنتسب في عمومها إلى المغرب العميق، الذي يجر وراءه آلاف السنين، وقرونا من
التاريخ المكتوب، وتجمع بين سكانه لحمة بشرية مكونة من العرب والأمازيغ، صقلها
الإسلام، وأمدها بالهوية التي جعلت من السكان، كما هو حال كل بلاد المغرب، كتلة واحدة
متراصة ومتماسكة.
يُعد استحداث إقليم الحوز حديثا، حيث يعود تاريخه إلى التقسيم الإداري لعام
1991، أما بنيته الاقتصادية، فتتركز أساسا في القطاعين الزراعي والصناعة
التقليدية، الموجهين تحديدا للاستهلاك المحلي، وإلى حد ما السوق الوطنية. كما
يختزن الإقليم معالم وآثار حضارية وتاريخية بالغة الأهمية، أبرزها منطقة أغمات، ومَعْلَم
مسجد "تينمل"، الذي تعرضت أجزاء منه لأضرار
الزلزال. جدير بالتأكيد أن
المسجد الأعظم "تينمل"، الذي بناه الموحدون عام 1148م، ظل مَعْلَما
حضاريا بارزا، وشاهدا على الإرث الموحدي الذي شيّد الغرب الإسلامي بكامل أرجائه،
من السلوم على الحدود المصرية الليبية إلى الأندلس، مرورا ببلاد المغرب قاطبة.
الآن وقد وقع الزلزال، وهو ظاهرة طبيعية عجز العلم عن التنبؤ بحدوثها على
وجه اليقين، ما الممكن استخلاصه من طرق تدبير هذه الفاجعة بالنسبة للمغرب دولة ومؤسسات،
والمغاربة شعبا ومجتمعا؟
لم تكن ستة عقود من التنمية كافية لإحداث تغيير جذري في واقع البوادي في المغرب، وإقليم الحوز بمدنه الصغيرة وقراه وبلداته يقع في قلب البوادي المغربية، فنمط العيش بقي في جوهره ثابتا، ولم يعرف إلا استثناءات محدودة، والبُنى التحتية، وإن بذلت الدولة جهودا في الإنفاق على التعليم ظلت غير كافية لإحداث نقلة نوعية في حياة الناس. أما الصحة فاستمرت مشكلة المشاكل
سيكون من السابق لأوانه اعتماد لغة الجزم والوثوقية في الكتابة عن دروس
مستخلصة من زلزال ما زالت ارتداداته مستمرة، وآثاره لم تنكشف بعد، بل لم ينته
المتضررون من فاجعته من تضميد آلامهم، وإحصاء خسائرهم، واسترجاع الثقة الكاملة في مستقبل
وجودهم. كل ما يمكن التشديد عليه أن الزلزال الذي ضرب بلدنا أماط اللثام عن جزء
عزيز من مغربنا، ظل صامدا صمود الجبال الشامخة المحيطة به، يعيش بالكفاف، وبما
تنتج سواعد أبنائه، من النساء والرجال، ولا يطالب الدولة أو يطلب منها أكثر مما
أتاحت له -وهو غير كاف في كل الأحوال- من إمكانيات، ووفرت له من فرص، للاستفادة من
نتائج الاندماج الوطني.
لم تكن ستة عقود من
التنمية كافية لإحداث تغيير جذري في واقع البوادي في
المغرب، وإقليم الحوز بمدنه الصغيرة وقراه وبلداته يقع في قلب البوادي المغربية،
فنمط العيش بقي في جوهره ثابتا، ولم يعرف إلا استثناءات محدودة، والبُنى التحتية،
وإن بذلت الدولة جهودا في الإنفاق على التعليم ظلت غير كافية لإحداث نقلة نوعية في
حياة الناس. أما الصحة فاستمرت مشكلة المشاكل، خصوصا في البوادي والمناطق النائية.
والملاحظة نفسها تنسحب على السكن، حيث اقتضت السياسات العمرانية المحافظة
على النمط التقليدي، أي البناء المكون من الطين أساسا، والخالي تقريبا من الحديد
والإسمنت، احتراما لجمالية الإرث المعماري لهذه المناطق، والحال أن زلزالا عنيفا
من درجة زلزال 8 أيلول/ سبتمبر 2023، لا تصمد معه بيوتات ومساكن من هذا النوع.
بيد أن الزلزال كشف في المقابل، عن همّة الدولة وأصالة المغاربة، الذين هبّوا
من كل جهات البلاد، فرادى وجماعات، لتلبية النداء لإغاثة بني جلدهم، ومؤازرتهم في
محنتهم، ورفع المعاناة عنهم.. والحقيقة أن صورا كثرة من التضحية والتضامن ونكران الذات،
عبّر عنها المغاربة من كل الفئات الاجتماعية والأعمار والمواقع الجغرافية. وسيسجل
التاريخ، دون شك، عظمة هذا التلاحم والتآزر في المحن، ويمد المؤرخين والباحثين من
مختلف اهتماماتهم بما يجعلهم يكتبون عن ملحمة التضامن الوطني المغرب لرفع تحدي
الزلزال.
لعل من المنتظر من هذه الهبة التي عبر عنها المغاربة، والمسؤولية التي أبانت عنها الدولة ومؤسساتها، أن تبقى جذوتها مستمرة ومضيئة، وأن تفتح الباب أمام حلول جذرية للبوادي المغربية، عبر سياسات تعيد هيكلة البوادي والقرى في فضاءات سكنية تتوفر فيها شروط العيش الكريم
تتجلى همّة الدولة في الطابع الاستعجالي للمبادرات التي أقدمت عليها، تحت
التوجيه الرسمي لعاهل البلاد، وهي مبادرات محكومة في جوهرها بقدر عال من
العقلانية، والمسؤولية، وعمق التفكير، ووضوح الأبعاد والمقاصد، حيث في أقل من
أسبوع على حدوث الزلزال، وجد المغرب نفسه أمام خطة متكاملة، لاستكمال إنقاذ أبنائه،
وإيوائهم مؤقتا، والشروع في توفير الإمكانيات المالية لإعادة إعمار مناطقهم، بما
لا ينتزعهم من جذورهم، ويقطع الصلة بينهم وبين قراهم وبلداتهم.
ثم إن الزلزال بقدر ما كشف معدن المغاربة، ودرجة مسؤولية الدولة، بالقدر
نفسه كشف التعاطف الدولي مع المملكة المغربية، حيث تجاوز عدد الدول المستعدة لمؤازرة
المغرب في محنته التسعين دولة، من ضمنها الدول العربية الشقيقة، حيث تصدرتها دولتا
قطر والإمارات العربية المتحدة، وبلدان تجمعها بالمغرب شراكات حقيقة ومثمرة، من
قبيل إسبانيا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا.
لعل من المنتظر من هذه الهبة التي عبر عنها المغاربة، والمسؤولية التي أبانت
عنها الدولة ومؤسساتها، أن تبقى جذوتها مستمرة ومضيئة، وأن تفتح الباب أمام حلول
جذرية للبوادي المغربية، عبر سياسات تعيد هيكلة البوادي والقرى في فضاءات سكنية تتوفر
فيها شروط العيش الكريم في مجالات التعلم والتعليم، والصحة، والسكن، والبنيات
التحتية اللازمة، ومجالات الشغل والعمل.. إن الأمل كل الأمل أن يقع استثمار هذه
الهبة المجتمعية، وهذه المسؤولية العالية للدولة، لتحويل فاجعة الزلزال ومآسيه إلى
لحظات فرح جماعي للإشادة بتحويل البوادي إلى فضاء للعيش الكريم.