أطلق المناضل
التونسي جوهر بن مبارك، الناشط السياسي في جبهة الخلاص، حركة
الاحتجاج بالأمعاء الخاوية أو
إضراب الجوع، وحتى اللحظة لا يزال يصر على إضرابه والأخبار
تشير إلى قرب التدخل الطبي بعد أكثر من أسبوع. وقد
التحق به راشد الغنوشي معلنا
إضرابا تضامنيا بمدة محدودة، ويوم الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر التحقت كوكبة أخرى
من القيادات السياسية السجينة بإضراب الجوع، وهو ما يوحي بعمل تصعيدي من داخل
السجون ضد الانقلاب. وقد أعلن نشطاء من خارج السجون الدخول في
إضراب جوع تضامني
بنيّة إسناد واضحة لحركة الاحتجاج بالأمعاء الخاوية.
والسؤال الآن: هل يكون
هذا الإضراب إضراب تحرير السجناء أم يكون لتحريك وضع
راكد فحسب، ودفع الانقلاب إلى إكمال إجراءات المحاكمة المتوقفة قبل استكمال أي
مرحلة من مراحل التحقيق؟
الإضراب عنوان يأس
وصول المعارضين إلى مرحلة الاحتجاج بإضراب الجوع يُقرأ كعلامة على شجاعة
المضربين، وليس هذا محل نقاش لدى كل المتعاطفين معهم لكن أن يصل السجين إلى
استعمال جسده أو حصنه الأخير للاحتجاج هو أيضا علامة على يأسه من المتعاطفين الذين
يحبونه، وإضرابه وإن كان موجها بالدرجة الأولى ضد السجان (في هذه الحالة منظومة
الانقلاب) فإنه موجه أيضا إلى حزام المتعاطفين الذين دخلوا في مرحلة صمت غير
مفهومة لمن هو داخل السجن، رغم أن فئة من المحامين لم يتخلوا ولم يهنوا وظلوا
مرابطين أمام المحققين.
المعارضة لم تملك خطة بعيدة المدى لإنهاء الوضع الانقلابي على الديمقراطية. لقد اضطرب خط سيرها فهي تستعيد الأشكال النضالية التقليدية عبر التظاهر الدوري في الشارع، حتى استنزفت هذا الشكل وأيقنت أن النظام يفسح لها بعض الشارع ليستنزفها وقد استنزفت قدراتها. وكان واضحا منذ البداية أنه وإن كثرت الأسماء في موقع القيادة فإن جمهورا واحدا كان يخرج للتظاهر هو جمهور حزب النهضة
ما سر الصمت الذي ران على الأنصار أو المعارضة التي لا تزال خارج السجون؟
لا نجد مسوغا للمزايدة على أحد بالشجاعة، ولكن من الواضح الآن أن المعارضة لم تملك
خطة بعيدة المدى لإنهاء الوضع الانقلابي على الديمقراطية. لقد اضطرب خط سيرها فهي
تستعيد الأشكال النضالية التقليدية عبر التظاهر الدوري في الشارع، حتى استنزفت هذا
الشكل وأيقنت أن النظام يفسح لها بعض الشارع ليستنزفها وقد استنزفت قدراتها. وكان
واضحا منذ البداية أنه وإن كثرت الأسماء في موقع القيادة فإن جمهورا واحدا كان
يخرج للتظاهر هو جمهور حزب النهضة. فزعيم مثل نجيب الشابي لا يجد وراءه أحدا،
وجوهر نفسه الذي يصعد بإضراب الجوع مناضل فرد بلا قاعدة حزبية. ويمكن أن نعدد
الأسماء التي وقفت على حافة الفراغ عندما تخلف حزب النهضة عن الشارع.
هذا لجهة العدد، والعدد هنا مهم لبدء أشكال أخرى لم يسعَ إليها أحد،
ويمكننا أن نكتب بيقين أنه خلال الشهور الثمانية الماضية كانت المعارضة تعيش تحت
عنوان كبير الحيرة وغياب الخطة (ولا نظن أن الصمت كان خطة)، فهل يكون إضراب الجوع
إعلان الخروج من الحيرة واستئناف المعارضة للحسم مع الانقلاب؟
التحريك بدء التحرير
مرة أخرى نكتشف أن المعارضة بكل أطيافها ليس لها لسان إعلامي سوى الفيسبوك
الفقير، لذلك فإن إشهار إضراب الجوع وتحويله إلى حركة احتجاج واسعة تصل إلى كل
زاوية لن يكون يسيرا على المعارضة، لكن رغم ذلك فإن بدأه يشكل إحراجا كبيرا
للانقلاب ومنظومته.
حركة الانقلاب واضحة هذه الأيام، إنه يحشد لانتخابات المجالس المحلية
ومجالس الأقاليم بعد أن قام في غرفة مغلقة بتقسيم البلد إلى أقاليم ولم يستشر في
الأمر حتى برلمانه. وهذه الانتخابات بدورها خطوة في اتجاه انتخابات رئاسية لن
تتأخر عن الربيع القادم.
تأتي حركة إضراب الجوع في ظرف حساس، لتذكر الداخل والخارج بمقدار غياب
القانون في الاعتقالات وفي المحاكمات، ولتذكر أن البلد يقاد بلا دستور ولا نظام
قضائي مستقل. فدستور الانقلاب لا يزال نصا معلقا لم يصادق عليه برلمان ولا أقسم
عليه واضعه (قانونيا المنقلب لا يزال تحت القسم على الدستور الملغى، وهو وضع لم
يسبق أن عاشته دولة مما عرفنا عبر التاريخ).
مستويات التضامن مع المضربين لا تزال في تقديرنا محدودة كأنها تفتقد إلى الخطوة الموالية، بما يوشك أن يفرغ الحركة الإضرابية من مضمونها ويحولها إلى ضربة في الهواء، دون أن نغفل في الأثناء أن فئة أخرى من المتظاهرين بمعارضة الانقلاب يعيشون حرجا كبيرا في هذه اللحظة
حتى هذه اللحظة يقوم الإضراب بتحريك الوضع الراكد، لكن هل يتجاوز التحريك
إلى التحرير والحسم؟ مستويات التضامن مع المضربين لا تزال في تقديرنا محدودة كأنها
تفتقد إلى الخطوة الموالية، بما يوشك أن يفرغ الحركة الإضرابية من مضمونها ويحولها
إلى ضربة في الهواء، دون أن نغفل في الأثناء أن فئة أخرى من المتظاهرين بمعارضة
الانقلاب يعيشون حرجا كبيرا في هذه اللحظة.
فعودة جبهة الخلاص إلى المعارضة يعني عندهم عودة حزب النهضة إلى الظهور في
موقع سياسي وأخلاقي سليم (وهذا يعني عندهم مكاسب لحزب النهضة في المستقبل المنظور)،
وهم مرابطون عند موقفهم الاستئصالي الذي دفعهم إلى تفضيل الانقلاب وإسناده على
البقاء ضمن الديمقراطية، لذلك لم نسمع منهم كلمة أو موقفا مساندا للإضراب ولا
نتوقعهم يغيرون موقفهم ما دام حزب النهضة في المشهد المعارض؛ لأن مشكلتهم مع
النهضة لا مع الانقلاب، وخطابهم المعارض كذبة نعرفها.
نتوقع أن الإضراب يُحرج القضاء أيضا وسيقوم بخطوة لرفع الحرج عن المنقلب
ببدء التحقيق مع
المعتقلين، والذين بالمناسبة أعلنوا رفضهم للمثول أمام التحقيق، بما
يوضح عناصر المشهد الذي حركه الإضراب؛ إما محاكمة علنية بملفات قوية وهنا سيحاكم
النظام نفسه ويكشف خواءه لأن الملفات فارغة، أو الحسم بقوة الأجهزة وردم المعارضين
إلى الأبد في سجونهم ولهم في السيسي أمثولة يقتدون بها.
رمزية الإضراب
لن تتضح لنا النتائج المقصودة من الإضراب سريعا لأننا نكتب من خارج كواليس
المعارضة (التي قد لا تكون لها كواليس أصلا ولكننا نشقى بحسن الظن)، ولكن مواجهة
النظام ببقية الخلايا الجسدية الحية خاصة لشخص في عمر راشد
الغنوشي تحمل رمزية
ومعنى، ونفضل الانحياز لها والدفاع عنها بالنصح.
الإضراب هو أبلغ عبارات الاعتماد على الذات والتعويل على الإمكانيات الأخيرة المتاحة (إنها الهجوم الانتحاري الأخير)، لذلك نقرأه كقطع عملي مع انتظار نصرة خارجية ظنت أطياف معارضة أن ستقف معها من أجل الديمقراطية. إن إضراب الجوع يقطع مع الانتظارية الكسولة
إن الإضراب هو أبلغ عبارات الاعتماد على الذات والتعويل على الإمكانيات
الأخيرة المتاحة (إنها الهجوم الانتحاري الأخير)، لذلك نقرأه كقطع عملي مع انتظار
نصرة خارجية ظنت أطياف معارضة أن ستقف معها من أجل الديمقراطية. إن إضراب الجوع
يقطع مع الانتظارية الكسولة.
لن تقف أوروبا ولا الولايات المتحدة ولا غيرها مع تونس لاستعادة
الديمقراطية، وكان هذا يقينا قديما تتجدد الأدلة عليه كل يوم، وآخرها الغزوة
الفردية التي رغب في خوضها برلمانيون أوروبيون مدفوعين بما لا نعلم، فتم منعهم من
القدوم بما وفّر للانقلاب مفردات إضافية للظهور بمظهر المدافع عن السيادة الوطنية
فأدت الغزوة المتعاطفة نتيجة عكسية تماما.
ولأننا نفهم الأوروبيين منذ زمن بورقيبة بل مما قبله، فإننا نميل إلى
الاعتقاد بأن حديثهم عن استعادة الديمقراطية تلهية يقبضون منها هناك ويتطهرون بها
أمام شعوبهم، وكثير من شعوبهم لا يعرف تونس إلا كمنتجع سياحي يوفر شمسا صافية
وبحرا نظيفا خاليا من البق ويحتاجون فيه إلى الأمن فقط. وقد وفّر بن علي الأمن فلم
يزعجوه بحديث الديمقراطية لربع قرن، والأمر جار على عادته، لذلك وجب القطع مع
انتظار نجدة أصدقائنا في الغرب. هؤلاء هم الغول والعنقاء.
في نهاية الأسبوع الثاني من بدء إضراب الجوع ستكون الصورة أوضح، ونعرف أين
بلغ صداه خارج السجون.