مع دخول طوفان الأقصى أسبوعه الثالث ومع
تضاعف الانتهاكات والمجازر المروعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين
العزل في مختلف مناطق قطاع غزة وأحيائها، ما تسبب في ارتقاء زهاء أربعة آلاف شهيد،
في خرق فاضح لقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، ما يجعل من الضرورة بمكان حدوث تحرك حقوقي دولي عاجل يضع المنظمات الأممية أمام مسؤولياتها القانونيّة
والأخلاقيّة في اتجاه وقف العدوان الجديد للاحتلال.
وفي ظلّ التضليل الإعلامي المتواصل على
حقيقة الجرائم المرتكبة ومحاولات فرض هجرة قسرية جديدة تعيد إلى الأذهان جرائم
التهجير الأولى والتطهير العرقي التي ارتكبت في حق الفلسطينيين بداية من سنة 1948، فإنه يكون من واجب العرب والمسلمين وقواهم الحيّة اليوم بذل ما في وسعهم من أجل فضح ما
يتعرض له الفلسطينيون ووقف الغطرسة الجديدة.
الصحفي والكاتب الحسين بن عمر كان التقى
الدكتور محمّد منصف المرزوقي، الرئيس التونسي الأسبق ورئيس المجلس العربي، وأجرى
معه الحوار الآتي خصيصا لـ "عربي21"، حول المواقف الدّوليّة المطلوبة
والأدوار المنوطة بعهدة الحقوقيين العرب في سبيل رصّ الدّعم للشعب الفلسطيني في ما
يتعرّض له من عدوان وتشويه متواصل من قبل الاحتلال الإسرائيلي وآلة دعايته
الإعلاميّة.
وجدير بالتذكير أن الدّكتور محمّد منصف المرزوقي،
طبيب جامعي وهو أبرز الحقوقيين العرب خلال العقود الأربعة الماضية، ترأّس الرابطة
التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، وهي أول جمعية من نوعها تظهر في أفريقيا والوطن
العربي، بين سنتي 1989 و1994، كما أنه كان ضمن سفينة ماريان أولى سفن أسطول الحرية
الثالث المتوجه نحو غزة سنة 2015 والتي سيطرت عليها قوات البحرية الإسرائيلية
ومنعتها من الوصول إلى شواطئ غزة، ثم اقتادتها إلى ميناء أسدود. وتمّ على إثرها
ترحيل الدكتور محمّد المنصف المرزوقي ورفاق الرحلة إلى باريس وعمّان.
س ـ كيف تتابعون تطوّر الأوضاع المأساويّة في
غزّة، خاصّة جريمة قصف مستشفى المعمداني؟
ـ ما
يرعبني في هذه الجريمة ليس فقط عدد الضحايا وأنهم قتلوا في مستشفى وأن بين الضحايا
أطباء وممرضون ولكن المرعب هو انهيار كل القيم الإنسانية أي محاولة وضع مسؤوليتها
على الضحايا لا على مرتكبي الجريمة.
س ـ كيف تقيمون المواقف الغربيّة من الحرب
الجارية: الموقف الأوروبي والأمريكي؟
ـ بصفتي
طبيبا وحقوقيّا بالدّرجة الأولى، فإنّي أدين العنف والحرب والقتل والتهجير... لكن
للجميع إذ لا فرق بين دموع البشر أيان كان العرق والدين ...برأيي معالجة مرض
كالعنف يتطلّب معالجة الأسباب التي أدت اليه. لكن للأسف لا أحد يصغي لهذا فيستمرّ
العبث.
إن ما يجرى تسويقه وكأن العنف بدأ في 7
أكتوبر من قبل من أسموهم بالـ '' الوحوش '' الآدمية التي قامت بقطع رؤوس رضّع. لقد
اتضح سريعا حجم المغالطة وتبيّن أن المقاومة لم تقم بقطع الرؤوس. في خضمّ ذلك لا
يمكن أن ننسى أو نتناسى من مهّد لعنف غير مسبوق ضد المدنيين الفلسطينيين، وما
يعانيه مليونا سجين فلسطيني محاصرين في سجنهم الكبير غزة منذ أربعة عشر سنة، مما
يعانيه عشرات الآلاف من المساجين في السجون الإسرائيلية، من اضطهاد المستوطنين، من
ومن ومن.. يتمّ التغاضي عن كلّ هذا العنف الإسرائيلي وفي الآن نفسه تشتغل آلة
الدّعاية المضادّة على عنف الفلسطينيين وما يسمّونه بـ "الإرهاب الفلسطيني".
إنّا أمام حائط من غياب المنطق والعقل.
ومؤسف جدّا أن صار الكلام عبثا في مثل هذه الحالة التي تقطعت فيها كل وسائل الحوار
مع الغربيين. هم في سرديتهم ونحن في سرديتنا، ولا أرى في الوقت الحاضر كيف سنعيد
قنوات التواصل في اتجاه الخروج من المآزق الذي صرنا إليه. وبرأيي إذا لم يفسح
المجال للغة العقل فإنّ الوضع مرجّح للذّهاب إلى ما هو أخطر وأنّ آثاره ستكون
فادحة على الجميع على حدّ السّواء.
س ـ كيف هي المواقف العربيّة، والموقف الرسمي
التونسي على وجه الخصوص؟
ـ ما
نلاحظه من مواقف الشعوب وردّة فعلها يبيّن سلامتها. وهي على كلّ حال متوقعة وصفعة
لكل المطبعين ومن اشتروا بضاعتهم الفاسدة. لقد تابعت باستغراب موقف الرئيس المصري
عبد الفتّاح السيسي في ندوته الصّحفيّة مع المستشار الألماني وهو يقترح على
الإسرائيليين ترحيل الفلسطينيين إلى صحراء النّقب إلى حين إكمال
"المجزرة" وبعدها يرجعوهم إن أرادوا. هل يتصوّر عبد الفتّاح السيسي
الفلسطينيين من جنس الماعز ليقترح على إسرائيل ذاك الموقف الغريب! الفلسطينيون هم
أسود العرب، فكيف يتجرّأ على البوح بتلك الوقاحة.
أمّا بخصوص الموقف التونسي، فإنّي أعتبر
أنّه لا يوجد رئيس له الحد الأدنى من الحس السياسي الذي يستطيع مواجهة الرأي العام
التونسي الذي يظلّ فلسطيني الروح والعقل. يبقى أن هذه المأساة ستغطي على قضايانا
الداخلية ومنها انهيار الدولة ومؤسساتها وانهيار الاقتصاد ناهيك عن وضع المساجين
السياسيين. برأيي الوضع الذي تعيشه غزّة هو مهلة للمنقلب في تونس على حساب الدم
الفلسطيني، وإنّي أدعو الله ألا تطول.
س ـ ماهي المطالب الآنيّة الملحّة اليوم،
خاصّة بعد أن وصل الوضع في غزة حدّ تهديد المنشآت الإغاثيّة الأمميّة، وسكّان غزة
يتعرّضون لتهجير جديد يعيد لأذهاننا مآسي التطهير العرقي الذي حدث منذ 1948؟
ـ يجب
أن تسير المظاهرات في كل أصقاع العالم لفرض وقف إطلاق النار واسعاف مليوني سجين
بالحد الأدنى من ظروف العيش الإنساني ومنع كارثة صحية بدأت تلوح على الأبواب
وبالطبع يجب على كل الدول العربية رفض القبول بأي تهجير سيكون هو الآخر نهائيا.
يجب أن تبقى شعوبنا مستنفرة لأن المخطط هو إطالة الحرب.
س ـ ماهي المواقف الدّوليّة الدّنيا
المطلوبة لوقف هذا الجرح النازف في ظلّ اختلال موازين القوى لصالح المحتل
الإسرائيلي؟
ـ هذه
الحرب ليست فقط كارثة إنسانية. هي كارثة قيمية وقد أظهرت أن قيم حقوق الانسان تحسب
بمقياسين فآلام العربي لا قيمة لها أمام آلام الإسرائيلي.
هي كارثة سياسية لأن الديمقراطية تلقت ضربة
أتمنى ألا تكون قاضية حيث أصبح الرأي والتظاهر في البلدان الغربية كما هو الحال في
النظم الاستبدادية مسموح به لكن في اتجاه واحد.
أيضا أبانت الحرب على غزّة الصعود الصاروخي
لخطاب اليمين المتطرف في أوروبا لبث الكراهية ضد العرب والمسلمين.
نحن إذن أمام أزمة عالمية رهاناتها
الديمقراطية في عقر بلدانها، وأيضا نحن أمام أزمة تعمق الفجوة بين الشعوب الغربية
والشعوب العربية والإسلامية. هذه الفجوة قد ترجعنا لمقولة صراع الحضارات وهو ما لا
يجب أن نصل له أبدا.
س ـ أنهيتم يومي 7 و8 أكتوبر/ تشرين الأوّل
بمدينة سراييفو البوسنيّة المؤتمر الثاني للمجلس العربي، وكنتم أكّدتم في أكثر من
مداخلة أثناء المؤتمر على متانة الرّبط بين مكافحة الاستبداد ومقاومة الاحتلال: هل
من توضيح؟
ـ تخيل
لو كانت مصر دولة ديمقراطية. هل كانت تسمح بحصار غزة؟ من المؤسف أن يكون الحصار
المطبق على غزّة ليس إسرائيليّا فقط، بل هو بالأساس حصار مصري. تصور لو كانت كل
البلدان العربية ديمقراطية هل كانت وهي تتبع بالضرورة رأيها العام تقبل بالتطبيع؟
طبعا لا. برأيي لو كانت مثل هذه الدول ديمقراطيّة، فإنها كانت ستكون قادرة على فرض
منطق آخر على إسرائيل، لكن الوضع للأسف كما تعرف هكذا ذهبنا وذهب الشعب الفلسطيني
ضحية فشل قيام دول المواطنية والديمقراطية لنخلق هذه الدول الموصوفة كذبا بالوطنية.
س ـ ما هي رسالتكم للفعاليات العربيّة والإسلاميّة
المناصرة لخطّ المقاومة الفلسطينيّة وسبل إنضاج أنشطتها؟
ـ ندائي
الملح للعقلاء في بلادنا ألا ينخرطوا في الرد على خطاب الكراهية بخطاب مماثل وأن
يمنعوا بكل الوسائل أي هجمات على أهداف يهودية أو غربية. لا شيء يريده اليمين
المتطرف في الغرب قدر هجومات على مدنيين او كنائس لتزداد وتيرة صعوده. علينا نحن
العرب في هذه الكارثة التي تذهب بالعقل والقيم أن نكون من يحرس هذه القيم اليتيمة
اليوم. أملي أن أهلنا في جربة مثلا
يتطوعون لحراسة "الغريبة"، الكنيس اليهودي. ولنترك لهم قصف المشافي
والكنائس. في نفس الوقت يجب أن تتواصل المظاهرات عربيا ودوليا لإيقاف الحرب وإعادة
إعمار غزة ومنع التهجير. وإنّي على يقين تام بأنّ شعوبنا التي استيقظت قادرة على
الضغط.