عزيز مصر!

في "مَكْلَمَة" ليس لها "أي تلاتين لازمة" ككل "مَكْلَماتِه"، اتجه المنقلب ياسر جلال إلى خشبة المسرح مهرولا في "سهوكة" ظاهرة نحو الممثلة المعمرة سميحة أيوب (92 عاما) التي قدمت (في شبابها) دور "المومس الفاضلة" في مسرحية تحمل الاسم نفسه، لتستقبله مُرحِّبة بصوتها الجهوري الذي لم تُرخ حِبالَه السنون: "شكرا يا ريس.. شكرا يا ريس.. يا عزيز مصر.. كلنا بنحبك".. ثم استطردت بعد قُبلة طبعها على رأسها "عزيز مصر": "شعبك بيحبك يا ريس.. وشكرا على الأمن والأمان اللي إحنا عايشين فيه.. أشكرك جدا يا ريس.. الشعب كله حاسس بكل الإنجازات.. حاسس بكل حاجة.. شكرا.. شكرا"!

هذا المشهد المسرحي (وقبله مشاهد كثيرة لآخرين) يكشف عن مستوى "الابتذال" الذي وصلت إليه مصر، حتى في المجاملات!

فالفنانة القديرة تنتمي لجيل الفنانين "العمالقة الجادين المثقفين"، بحسب النقاد، وهي أرملة كاتب مسرحي كبير اسمه سعد الدين وهبة، ولها أن تشكر "عزيزها" الذي حظيت بالتكريم في عهده "الميمون"؛ بعد تسمية إحدى قاعات المسرح القومي باسمها، ناهيك عن الرعاية التي تتمتع بها.. أما أن تخلع عليه وصف "عزيز مصر" فهذا إما جهل، أو استبلاه، أو كذب، أو "سب علني"!

لكي يستقيم وصف أيوب لياسر جلال، علينا التسليم بأن مصر (ككل بلاد أمتنا المنكوبة) محكومة بوكيل، أو ممثل، أو مندوب لقوة عظمى، يعني "وزير أول"، وإن حمل لقب رئيس أو ملك، باستثناء الرئيس محمد مرسي (حمه الله) الذي جاء به الشعب رئيسا، ولم يقبل أن يكون وكيلا، ولا ممثلا، ولا مندوبا لأي كان سوى الشعب المصري

ولأن أيوب "مثقفة" كما يقولون، فمن المنطق أن نستبعد "الجهل"، ولأنها "عملاقة وجادة" فمن اللياقة استبعاد احتمال "الاستبلاه"، وبذلك لا يتبقى من الاحتمالات الأربع إلا "الكذب" و"السب العلني"، وهما (للأسف) الأكثر توافقا مع الحقائق القرآنية الدامغة، وليس للواقع المعاش فحسب!

فالقرآن الكريم يخبرنا أن عزيز مصر كان "وزير مصر الأول"، ولم يكن ملكها ولا رئيسها.. ولكي يستقيم وصف أيوب لياسر جلال، علينا التسليم بأن مصر (ككل بلاد أمتنا المنكوبة) محكومة بوكيل، أو ممثل، أو مندوب لقوة عظمى، يعني "وزير أول"، وإن حمل لقب رئيس أو ملك، باستثناء الرئيس محمد مرسي (رحمه الله) الذي جاء به الشعب رئيسا، ولم يقبل أن يكون وكيلا، ولا ممثلا، ولا مندوبا لأي كان سوى الشعب المصري.

أما إذا كانت الفنانة القديرة تقصد بـ"عزيز مصر" يوسف عليه السلام، فقد كذبت أيوب، وتحرَّت الكذب.. فلا وجه للمقارنة بين ياسر جلال "بائع مصر" الذي خان رئيسه (المسلم)، ويوسف عليه السلام "منقذ مصر" الذي أخلص لملكه (الكافر)، ولا وجه للمقارنة بين نبي من أنبياء الله، ومشعوذ دجال يكذب على الله ليل نهار، ويعلم أنه يكذب، والناس يعلمون أنه يكذب، حتى باتت أكاذيبه مثار سخرية وتندر!

في عهد منقذها، ضرب مصر الجفاف سبع سنين، وما أدراك ما الجفاف.. غير أن يوسف (الحفيظ العليم بحق) تجاوز هذا النازلة بـ"العلم" الذي علمه الله تعالى إياه؛ فشرع في بناء صوامع تخزين الغلال، وقدَّر ما ستجود به الأرض من محاصيل، وأحصى عدد السكان، كما أنه قدَّر حجم الاستهلاك وما يجب تخزينه من ناتج كل عام، ووضع احتمال لجوء آخرين من البلاد المجاورة، وقد حدث، ووضع نظاما للتوزيع، حتى لا يبقى سائل ولا محروم ولا جائع، وربما زاد من رقعة الأرض الزراعية مستغلا وفرة المياه في السبع السمان.. إلى آخر ما يمكن أن يتصوره (اليوم) علماء التخطيط الاستراتيجي والإدارة من خطط ووسائل وإجراءات..

هكذا كان أداء يوسف (عليه السلام) عزيز مصر المؤمن ومنقذها، قبل آلاف السنين، قبل الجامعات، والبحوث والدراسات، والدرجات العلمية، والوقوف على تجارب الشعوب الأخرى في ظروف مماثلة.. فماذا عن أداء ياسر جلال؛ عسكري مصر المنقلب وبائعها، الذي لا يؤمن بدراسات الجدوى ويعتبرها من المعوقات! والذي يحاضر الاختصاصيين في كل الاختصاصات: اقتصاد، استثمار، طاقة، صناعة، زراعة، تربية مواشي.. إلخ!

حنثٌ بالقسم ومجازر مروعة ومشاريع فنكوش!

أول ما قام به ياسر جلال هو الحنث بيمينه، والانقلاب على قائده الأعلى ورئيسه الشرعي المنتخب؛ وزاد فعلل هذه "الخيانة العظمى" بأسباب لم نعد بحاجة إلى إثبات تهافتها وتفاهتها، فضلا عن انتفائها بالكلية، غير أن قطاعا عريضا من الشعب صدقها أو تقبلها (في حينه) متأثرا بأبواق الثورة المضادة

أول ما قام به ياسر جلال هو الحنث بيمينه، والانقلاب على قائده الأعلى ورئيسه الشرعي المنتخب؛ وزاد فعلل هذه "الخيانة العظمى" بأسباب لم نعد بحاجة إلى إثبات تهافتها وتفاهتها، فضلا عن انتفائها بالكلية، غير أن قطاعا عريضا من الشعب صدقها أو تقبلها (في حينه) متأثرا بأبواق الثورة المضادة..

أقسَم بالله كاذبا ومخاتلا (بصوت متهدج يثير العواطف) أن ليست لديه رغبة ولا طمع في السلطة..

لم يلبث إلا قليلا حتى حنث بهذا القسم، وأعلن عزمه الترشح لتولي السلطة، أو الاستيلاء عليها فعليا ونهائيا؛ لأن "شعب مصر الغنية بمواردها، يستحق أن يعيش حياة أفضل من تلك التي يعيشها".. قال هذا في إعلانه المشؤوم.. أي أن مصر لم تكن على موعد مع الجفاف، ولا مع سبع عجاف!

بدأ ياسر جلال مشواره بارتكاب سلسلة من المجازر بحق المتظاهرين السلميين الذين كانوا ينادون بعودة الشرعية التي يمثلها الرئيس المنتخب الذي تم اختطافه، ثم حبسه انفراديا، ومحاكمته على "جرائم" لم يرتكبها.. كانت أكثرَ هذه المجازر دموية مجزرتا رابعة العدوية وميدان النهضة اللتان راح ضحيتهما نحو ستة آلاف معتصم سلمي، على أقل تقدير، خلال اثنتي عشرة ساعة فقط، أي بمعدل خمسمئة شهيد في الساعة، أي ثمانية شهداء في الدقيقة الواحدة!

على إثر مجزرتي رابعة والنهضة (حدثتا بالتزامن في وقت واحد) قام بملاحقة آلاف آخرين من مناهضي الانقلاب على الشرعية الدستورية، وتمكن من حبس مئة ألف منهم، في ظروف احتجاز غير آدمية، مات منهم بضع مئات (حتى اليوم) تحت التعذيب، أو بسبب الإهمال الطبي المتعمد، ودفع آلافا آخرين إلى الهجرة من مصر!

تفاهم مع "المناضل" الناصري حمدين صباحي؛ ليقوم بدور "الكومبارس" أو المنافس في الانتخابات "الرئاسية"، فكافأه بأن جعله في المرتبة الثالثة، بعد الأصوات الباطلة التي احتلت المرتبة الثانية، واستحوذ هو (ياسر جلال) على نسبة 97 في المئة من الأصوات!

بعد تنصيب نفسه "رئيسا" مطعونا في شرعيته، شرع في التفريط في كل شيء لا يمكن التفريط فيه؛ مقابل الحصول على "شرعية" لم يحصل عليها حتى اليوم، فتنازل عن حصة مصر التاريخية في مياه النيل بالتوقيع مع إثيوبيا على اتفاقية 2015 التي لم يعلم بها الشعب في حينه، كما أنه تنازل عن مساحات شاسعة من مياه مصر الاقتصادية في شرق المتوسط، ترتب عليها التنازل عن حقول غاز لصالح العدو الصهيوني وقبرص اليونانية، وتنازل عن (أو باع) جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة السعودية.. وما خفي أعظم!

على التوازي بدأ في إطلاق مشاريعه "الفنكوشية" التي بدأت بتفريعة قناة السويس؛ لرفع روح المصريين المعنوية، حسب قوله، أثناء تبريره فشل المشروع اقتصاديا، وعدم تحقيقه أي زيادة في عائدات قناة السويس، مرورا بالعاصمة الإدارية، وما احتوته من مرافق حمل عدد منها وصف الأكبر والأطول والأوسع، وإنشاء "صندوق تحيا مصر" و"صندوق مصر السيادي" اللذين لا يخضعان لأي صورة من صور الرقابة، ولا يعرف أحد عن حركة أموالهما شيئا سوى ياسر جلال شخصيا، وانتهاءً بسلسلة الفلل والاستراحات والقصور الرئاسية، فضلا عن ملكة السماء (طائرة رئاسية) التي هي "الأضخم" في العالم، و"الأعلى" كلفة في التشغيل، ولا يملك مثلها إلا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. ذلك؛ لأنه زاهد، ومتواضع، ويعيش كما يعيش الناس، فضلا عن أنه "أمين، وشريف، وصادق أوي إن شاء الله"!

العلم الحقيقي والعلم اللدُنِّي والبركة!

أما عن "العلم الحقيقي"، فله تعريف لدى ياسر جلال، لم يصل إليه قبله أحد، ولن يجرؤ على قول مثله بعده أحد.. فقد وقف (بكل ثقة) ذات يوم ليشرح للمصريين معنى "العِلم" فقال: "شوفوا.. أنا بتكلم بعد أكتر من خمسين سنة، مَحَدِّش [لا أحد] قال الكلام ده بشكل علني.. عشان نبني منطق، وموضوعية، وعلم حقيقي لدى اللي بيسمعنا.. لازم نعلمهم الحقيقة.. العلم.. العلم الحقيقي.. إن الحكاية كانت كده، واحنا كنا كده، وبالرغم من كده، عملنا كده، ودي المعجزة".

بهذا الكلام الخالي من أي دلالة أو معني يُبنى المنطق والمعنى، ويُعرَّف العلم الحقيقي.. أيُعقل أن يكون مثل هذا الشخص على رأس دولة بحجم مصر، ويوصف بعزيز مصر (نسخة يوسف عليه السلام)؟!

قال في موضع آخر متباهيا بعلمه "اللدُنِّي" الذي اختصه الله تعالى به: "ففهَّمناها سليمان".. فمن يجرؤ على الكلام في حضرة "سليمان"، أو توجيه "سليمان"، فضلا عن انتقاد "سليمان"؟! يعني: كل قرد يلزم شجرته ويخرس ويبطل "تنطيط".. أنا بس اللي أتكلم، وأنا اللي أعطي الإذن بالكلام!

وقال في موضع ثالث مطمئنا المصريين بأن الله منحه البركة التي لا فقر ولا عوَز معها: ".. جِه ربنا قال لي: طيب.. أنا هخللي [سأعطيك] أكتر من الفلوس.. أنا هخللي معاك البركة.. [ثم أعادها بصوت مرتفع للتوكيد واستجداء التصفيق] هخللي معاك البركة.. وريني [أرني] هتعمل إيه في بلدك؟ هتعمل إيه لناسك؟ هتغير صحيح؟ هتصلح أحوال صحيح؟ هتراضي الناس صحيح؟ هتسعد الناس صحيح؟ يا رب أقدر"..

رأى المصريون (لأول مرة) خبراء الاقتصاد عاجزين عن إيجاد حل لهذه الكارثة التي ستعصف بمصر لا محالة، طال الوقت أو قصر، وأظنه لن يطول.. تلك الكارثة التي أعتقد جازما بأنها "مدبرة" والشواهد على ذلك كثيرة، وليست ناجمة عن "سوء إدارة" كما يردد كثيرون!

وقال في موضع رابع: "اصبروا، وستروا العَجب العُجاب".. وصبر المصريون.. حتى رأوا "العجب العجاب" رأي العين!

رأى المصريون (لأول مرة) سعر صرف الدولار يصل إلى 75 جنيها، بعد أن كان سبع جنيهات ونصف الجنيه في 2013، أي أن الجنيه انخفضت قيمته أمام الدولار عشرة أضعاف في عشر سنوات، بفعل "البركة" اللي معاه!

ورأى المصريون (لأول مرة) الناتج القومي لبلادهم لا يكفي لسداد أقساط الديون السنوية وفوائدها، وهذا من مظاهر "البركة"!

ورأي المصريون (لأول مرة) ثلاثة أرباعهم يعيشون تحت خط الفقر (متوسط الدخل الشهري للموظف حوالي 90 دولارا في الشهر، أي 3 دولارات في اليوم).. إنها "البركة" التي لا يراها المصريون!

ورأى المصريون (لأول مرة) حاكما يبيع أصول بلادهم؛ لشراء مواد استهلاكية! كما رأى المصريون (لأول مرة) خبراء الاقتصاد عاجزين عن إيجاد حل لهذه الكارثة التي ستعصف بمصر لا محالة، طال الوقت أو قصر، وأظنه لن يطول.. تلك الكارثة التي أعتقد جازما بأنها "مدبرة" والشواهد على ذلك كثيرة، وليست ناجمة عن "سوء إدارة" كما يردد كثيرون!

هذا غيض من فيض "الإنجازات" التي تحققت على يد ياسر جلال (بائع مصر) بفضل تعريفه الفريد لـ"العلم الحقيقي"، وتمتعه بحظ وافر من "العلم اللدني" اختصه الله به، والبركة اللي ربنا خلاها معاه!

فأين هذا من يوسف (عليه السلام) عزيز مصر ومنقذها؟ مع العلم أن هناك من يقول بأن مصر القرآن ليست هي مصر اليوم التي نعرفها، وهذا موضوع آخر.

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com