ملاحظات منهجية وأساسية
لا بد من تسجيلها والانتباه إليها في مقاربة نجاح
جنوب أفريقيا بجلب
إسرائيل مخفورة
وموصومة ومهانة إلى قفص الاتهام في محكمة
العدل الدولية؛ بتهمة ارتكاب جريمة إبادة
جماعية متعمدة وممنهجة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع
غزة.
ثمة زوايا نظر وأبعاد
عديدة في هذا التطور اللافت وغير المسبوق تتعلق بجنوب أفريقيا نفسها، كما بإسرائيل،
وبالطبع بمحكمة العدل الدولية بوصفها الإطار والمنبر القضائي المرموق والأعلى في العالم؛
والتابع مباشرة للأمم المتحدة التي لا تستطيع هذه الأخيرة قول "لا" في مواجهته
أو الاستئناف على أحكامه غير القابلة للنقض.
بداية، يتعلق الأمر
بجنوب أفريقيا المدنية الديمقراطية لكل مواطنيها، صاحبة التراث والاحترام الكبير أخلاقيا
وسياسيا والتي تتمتع بمناقبية عالية مع تاريخها النضالي الطويل والظافر بمواجهة نظام
الفصل العنصري، رغم تراجع الأمر نسبيا إثر رحيل الزعيم التاريخي القائد نيلسون مانديلا
وخليفته ورفيقه تابو إيمبيكي، والخلافات وشبهات الفساد داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم
منذ الاستقلال، وتأسيس الجمهورية الجديدة والعجز والفشل في مواجهة الأزمات المتفاقمة
بالقارة السمراء، والتي لا تجد فيها جنوب أفريقيا العون من قوى ودول كبرى مأزومة بأنظمتها
الاستبدادية مثل مصر والجزائر ، بينما تبدو نيجيريا الديمقراطية أيضا مشغولة بأزماتها
الداخلية التي لا تكاد تنتهي.
يجب الانتباه دائما إلى هذا العامل المدني الديمقراطي الذي يمثل القاعدة الجوهرية والمهمة لقضية جنوب أفريقيا أمام المحكمة الدولية، ومقولة أن الديمقراطيات لا تتقاتل بالطبع صحيحة وهي تلجأ إلى الوسائل السلمية لحلّ خلافاتها، وتذهب إلى المحاكم الدولية صحيحة أيضا، وفي المقابل الطغاة والغزاة لا يذهبون إلى ساحات العدل الدولية ويخشون حتى نطق اسم المحكمة التي تذكرهم بالقوانين والمواثيق الدولية
مع ذلك مثلت القضية
الفلسطينية وهول الجرائم والفظائع الإسرائيلية في حرب غزة مناسبة لاستعادة الاحترام
والزخم وشد العصب داخليا والهيبة والاحترام خارجيا، خاصة مع انتباه بريتوريا المبكر
لنظام الفصل العنصري الذي أسسته إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين، والذي تعتبره أسوأ
وأشد بشاعة وبطشا مما عاشته هي نفسها القرن الماضي.
يجب الانتباه دائما
إلى هذا العامل المدني الديمقراطي الذي يمثل القاعدة الجوهرية والمهمة لقضية جنوب أفريقيا
أمام المحكمة الدولية، ومقولة أن الديمقراطيات لا تتقاتل بالطبع صحيحة وهي تلجأ إلى
الوسائل السلمية لحلّ خلافاتها، وتذهب إلى المحاكم الدولية صحيحة أيضا، وفي المقابل
الطغاة والغزاة لا يذهبون إلى ساحات العدل الدولية ويخشون حتى نطق اسم المحكمة التي
تذكرهم بالقوانين والمواثيق الدولية.
هذا العامل مهم وجوهري
جدا أيضا كونه يتعلق بالربط بين الأخلاق والسياسة، وهو يفضح بالطبع المعايير الغربية
المزدوجة، ويفسر من جهة أخرى الغياب العربي الرسمي عن القضية والمشهد القضائي الأممي،
كما غياب السلطة الفلسطينية باعتبارها استبدادية فاقدة للشرعية والمصداقية، وكانت فرّطت
بفتوى المحكمة الشهيرة حول الجدار الفاصل 2004 بتجاهلها وعدم وضعها على جدول الأعمال
السياسي القانوني بشكل جدي، كما بقبولها بفكرة تبادل الأراضي مع الاحتلال؛ التي نقضت
نظريا قرار المحكمة باعتبار الجدار الفاصل غير شرعي ومقاما على أراض فلسطينية محتلة،
علما أن المحكمة نظرت بقضية أخرى تتعلق بوضع الاحتلال نفسه في شباط/ فبراير الماضي،
لإصدار فتوى عما إذا تحول الاحتلال الى دائم مع سعي إسرائيل لتأبيده عبر ممارسات التهويد
والاستيطان وخلق الوقائع في الضفة الغربية، وهي قضية وصلت متأخرة جدا وسيستغرق النظر
فيها سنوات والسلطة غير أمينة عليها؛ كما كانت كذلك تجاه فتوى الجدار الفاصل.
وفيما يخص إسرائيل،
فهي ولا شك ديمقراطية لليهود ويهودية وعنصرية للعرب، تماما كما نظام الفصل العنصري
الساقط في جنوب أفريقيا الذي كان ديمقراطيا للبيض وعنصريا للسود، مع الانتباه الى أن
الدولة العبرية موقّعة على اتفاقية منع
الإبادة الجماعية وحرصت دوما على تقديم نفسها
كممثلة لضحايا الهولوكوست والإبادة الجماعية في ألمانيا.
اختارت جنوب أفريقيا
صاحبة التراث المدني الديمقراطي والنضالي فريقا مهنيا خبيرا ومنسجما؛ أعدّ وقدّم مرافعات
مبهرة متماسكة ومثيرة للإعجاب أكدت ارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان
في غزة، عبر استهداف البشر والحجر وكافة مناحي الحياة بما في ذلك المدارس والمستشفيات
والمصانع والمزارع والمساجد والكنائس، مع تدمير 70 في المائة من قطاع غزة تقريبا، وقتل
وإصابة 100 ألف من مواطنيه، وتهجير مليونين أي قرابة 90 في المائة من أهل غزة.
وإن لم تكن هذه الإبادة
الجماعية فما هي؟ خاصة مع التصريحات العلنية ليس فقط من الوزراء المتطرفين المهووسين
-لم يعودوا هامشيين- مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وعميحاي إلياهو، وإنما من
وزير الزراعة وقائد جهاز الشاباك السابق الجنرال أفي ديختر؛ الذي هو من متن الطبقة
السياسية والأمنية الإسرائيلية، وعندما سئل عما إذا ما كانت الحرب ستنتهي بنكبة 2023
للفلسطينيين أجاب بنعم مرتين، معتبرا ذلك أحد أهدافها غير المعلنة رسميا. وإثر ذلك
تعرض لتوبيخ من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تماما مثل المتطرّف المهووس عميحاي إلياهو
الذي دعا إلى استخدام القنبلة النووية ضد غزة.
ردّ فعل الفريق القانوني
الإسرائيلي كان مقبولا من الناحية التقنية والإجرائية، فقط لكن مع البقاء في دائرة
الاتهام التي وضعته فيها جنوب أفريقيا شكلا ومضمونا، في ظل الافتقاد إلى ردود واضحة
وجوهرية على البراهين والأدلة والقرائن التي قدّمها الفريق الجنوب أفريقي، حيث جاءت
الدفوع الإسرائيلية شكلية بالتركيز على طوفان الأقصى وما شابه من أخطاء لا تبرر بأي
حال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بغزة، مع تهويل غياب حركة حماس عن المحكمة واتهام
جنوب أفريقيا بالدفاع عنها وتمثيلها، بينما ردت هذه الأخيرة بثقة وحزم أنها تدافع عن
القضية الفلسطينية والعدالة واحترام المواثيق والمعاهدات الدولية والقضية الفلسطينية
كما عن جنوب أفريقيا وقناعاتها ومبادئها وتاريخها.
من المهم المواصلة والمراكمة وعدم الخشية من الذهاب إلى ساحات القضاء الدولية سواء العدل أو الجنائية، حيث بالتوازي أو بالإضافة قامت ديمقراطيات أخرى بالتوجه إلى المحكمة الجنائية لمحاسبة إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية بغزة، وهي قضايا لا تدخل ضمن صلاحيات العدل
منذ اللحظة الأولى
بدا قبول المحكمة دعوى جنوب أفريقيا أكيدا حتى لو طالت المداولات حولها لسنوات، كما
هو معتاد في عمل المحكمة المرموقة. ورغم رفض طلب وقف النار الاحترازي، إلا أن الدولة
العبرية بدت مدانة بالجريمة أمام الرأي العام العالمي الذي أصدر الحكم فعلا في حواضر
العالم وميادينه الكبرى، بغض النظر عن حكم لاهاي.
ورغم عدم إصدار قرار
بوقف النار، إلا أن المحكمة طلبت من إسرائيل اتخاذ إجراءات احترازية خلال شهر لمنع
أفعال جرائم الإبادة أو حتى التحريض عليها وتقديم المساعدات الإنسانية الى الفلسطينيين،
مع رفض طلب تل أبيب بعدم اختصاص المحكمة وبالتالي رد الدعوى، ليتم المضي قدما بها حتى
لو استغرق الأمر زمنا طويلا.
وعليه اضطرت إسرائيل
للتعاطي والرد حتى لو شكلا، ولكن مع التلاعب والتذاكي عبر استمرار السياسة نفسها حتى
بعد جلسة كانون الثاني/ يناير الماضي، ما يؤكد التهمة والوصمة عليها سياسيا وإعلاميا
وجماهيريا ويجعل الإدانة القضائية مسألة وقت فقط.
قرار المحكمة التمهيدي
والأولي زاد ولا شك منسوب الضغط والإحراج على الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة
لإسرائيل؛ التي هربت إلى الأمام عبر تضخيم قصة الأونروا، ما يمثل تحايلا وتهربا من
مواجهة قرار المحكمة الذي يؤكد بالجوهر تهمة ارتكاب اسرائيل جريمة إبادة بحق الفلسطينيين
في غزة.
من المهم المواصلة
والمراكمة وعدم الخشية من الذهاب إلى ساحات القضاء الدولية سواء العدل أو الجنائية،
حيث بالتوازي أو بالإضافة قامت ديمقراطيات أخرى بالتوجه إلى المحكمة الجنائية لمحاسبة
إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية بغزة، وهي قضايا لا تدخل ضمن صلاحيات
العدل.
يفترض أن تمهد المرافعات والحيثيات أمام محكمة العدل الدولية- ستستغرق القضايا شهورا طويلة سواء في تهمة الابادة أو تداعيات الاحتلال- الطريق أمام الجنائية لمحاسبة قادة إسرائيليين وغربيين أيضا على جرائم الحصار والتجويع والتهجير القسري، والاستهداف المتعمد للمدارس والمستشفيات وأماكن الإيواء والصحفيين والأطباء والأكاديميين والمحامين ومختلف فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني في غزة
بينما بدا مشهد جلسة
محكمة العدل الخاصة للنظر في التداعيات والتبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي
الفلسطينية -نهاية شباط/ فبراير الماضي- معبرا وملخصا الواقع الدولي الراهن، حيث قدمت
أكثر من 50 دولة ومنظمة وهيئة أممية مرافعاتها دعما للحق الفلسطيني في مواجهة أمريكا،
وقلة قليلة معها، رغم أن واشنطن نفسها لم تنكر الاحتلال بحد ذاته ولكنها رفضت إصدار
المحكمة قرارا بإنهائه فورا ودون شروط؛ في سياق انحيازها ونفاقها وازدواجية معاييرها
تجاه القضية الفلسطينية.
وبالعموم يفترض أن
تمهد المرافعات والحيثيات أمام محكمة العدل الدولية- ستستغرق القضايا شهورا طويلة سواء
في تهمة الابادة أو تداعيات الاحتلال- الطريق أمام الجنائية لمحاسبة قادة إسرائيليين
وغربيين أيضا على جرائم الحصار والتجويع والتهجير القسري، والاستهداف المتعمد للمدارس
والمستشفيات وأماكن الإيواء والصحفيين والأطباء والأكاديميين والمحامين ومختلف فئات
وشرائح المجتمع الفلسطيني في غزة.
أخيرا، ثمة ملاحظة
مؤلمة ولكنها مهمة ولا بد منها، حيث كانت الدول العربية لحظة الاستقلال قبل 8 عقود
تقريبا (مثل جنوب أفريقيا) مدنية ديمقراطية وناهضة، لكن للأسف حولتها أنظمة الاستبداد
العسكرية خاصة بحواضرنا العربية الكبرى إلى مدمرة أو مدمرة ومحروقة، بينما كانت إسرائيل
منذ تأسيسها موصومة ومنبوذة ومدانة بارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية بحق الشعب
الفلسطيني، وبعد عقود من التطبيع والتبييض واتفاقات السلام مع الأنظمة العربية الفاشلة
أعادتها حرب غزة وجنوب أفريقيا إلى قفص الاتهام وسيرتها الأولى.