لم يكن ما نشره موقع "
المصري اليوم" مؤخرا اكتشافا تاريخيا جديدا، بل هو تجميع لجملة من الطعون التي قيلت من قبل بحق الناصر
صلاح الدين الأيوبي، استنادا إلى روايات وحكايات أوردتها "مصادر مغرضة"، مع إغفالها لمصادر أخرى وفقا لدراسات وأبحاث تاريخية موثقة.
اعتمد تقرير الموقع أعلاه المعنون بـ"الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي: استولى على أموال الأزهر ورفض تحرير فلسطين وأحرق مكتبات الفاطميين" على كتاب "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين" لكاتبه حسن الأمين، والذي ضمنه "رؤيته" الكاشفة للوجه الآخر "المظلم" في حياة صلاح الدين.
فما هو ذاك الوجه الآخر لصلاح الدين الذي يتحدثون عنه؟ لعل تعقيب الباحث
محمد إبراهيم جواد، على جواب سؤال وجهه السائل لـ"مركز الأبحاث العقائدية"، يقول فيه: "هل حقا أنّ صلاح الدين الأيوبي ممّن يعادي الشيعة؟ وما الدليل على ذلك؟" يكشف النقاب عن معالم وطبيعة "الوجه الآخر" لصلاح الدين كما يتصوره المبغضون له، والطاعنون فيه.
بكل وضوح قدم جواد وصفا دقيقا بحسب تصوره للحالة التي كان عليها صلاح الدين، فقال واصفا إياه: "ما هو إلاّ طالب لسلطة وملك حازهما بكل خسّة ونذالة، وطامح لمجد شخصي ناله بالغدر والخيانة، ولم تكن الدواعي الإسلامية والدوافع القومية لتخطر على باله، أو لتحتل حّيزا ولو صغيرا في قلبه..".
ليس غريبا أن يكون جواد نفسه – كما فعل معدو تقرير المصري اليوم – قد اعتمد بالكلية على كتاب الباحث حسن الأمين، لأن المنصف إذا أبحر فيه، يمكن أن يصل إلى شاطئ فيه كثير من الصور واللوحات، التي تعبر إن لم يكن عن كل الحقيقة فعن أكثرها جلاء في حياة الرجل" على حد قول الكاتب جواد.
ولأن البحث التاريخي، في جانبيه الروائي والتحليلي، لا يُقابل إلا ببحث آخر يعزز ما جاء فيه ويعضده، أو ينقضه بإظهار ضعف رواياته الشاذة، وإبراز هشاشة تحليلاته واستنتاجاته، فإن المؤرخ السوري الدكتور شاكر مصطفى، تولى في كتابه "صلاح الدين الأيوبي الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه" تفنيد "نظرية" الأمين الطاعنة في صلاح الدين، عبر ادّعائها اكتشاف الوجه الآخر له.
أخطر تلك الطعون التي تحط من قدر صلاح الدين، وتُنزله من عليائه كرمز إسلامي مُلهم في ملاحم الفتح والتحرير، لتطوح به في الدرك الأسفل من مستنقعات الوضاعة، تلك التهمة الطاعنة في دينه وشرفه ومروءته، التي تصوره على أنه "خائن وغادر"، خذل خليفته "الناصر" بتحالفه مع الصليبيين، واستسلامه الكامل لهم.
صلاح الدين المفترى عليه
نقل التقرير عن الأمين قوله: "إن صلاح الدين عقب انتصاره في معركة حطين، وتحرير القدس، رفض طلب الخليفة الناصر، بإرسال جيشه للمشاركة في تحرير فلسطين كاملة، ونشر الرسائل التي بعثها الناصر إلى صلاح الدين نقلا عن كتاب الأصفهاني".
وتابع التقرير: أما عن سبب رفض "صلاح الدين" الاتحاد مع جيش "الناصر" لتحرير فلسطين، يقول (الأمين): "صلاح الدين أدرك أنه في حال تحرير فلسطين كاملة، ستصبح ولاية خاضعة للخلافة، وبالتالي سيصبح هو الآخر أحد الولاة التابعين للخليفة".
بين يدي تفنيده لنظرية الأمين الطاعنة في صلاح الدين، قدم الدكتور شاكر مصطفى عرضا مكثفا للحكاية التي نسج خيوطها الأمين، فنقل عنه قوله: "كان الخليفة الناصر قد بنى جيشا قويا، وعزم على أن يرسل جيشه إلى فلسطين، للتعاون مع جيش صلاح الدين في ذلك، ولكن صلاح الدين.. رفض قدوم جيش الخلافة لقتال الصليبيين والقضاء عليهم، لأنه اعتقد أنه سيصبح واليا من ولاة الخليفة تابعا له".
بعد إيراده لهذه الفقرة من كلام الأمين تساءل الدكتور شاكر: ألم يكن صلاح الدين بالفعل والعمل يعتبر نفسه واليا للخليفة وتابعا وخادما له؟ وإن لم يكن ذلك حقا، فما الذي يمنعه من التمرد عليه؟ أهو الخوف من جيش الـ120 ألف فارس، جيش الاستعراض الموهوم؟
وتابع المؤرخ شاكر طرح تساؤلاته الناقضة لحكاية الأمين من أصلها: ولماذا ظل صلاح الدين حتى وفاته مخلصا للخليفة، يكاتبه وينسب إليه أعماله وفتوحاته، وأنها تمّت ببركته؟ وهل كان صلاح الدين من الخداع الخفي بحيث يخفي حتى الموت خبيئة نفسه؟
ثم طالب الدكتور شاكر صاحب نظرية الوجه الآخر (حسن الأمين) بإبراز مستنده التاريخي لدعواه تلك موجها كلامه له: "إنا لا نطالب الأستاذ الباحث إلا بالنص التاريخي الحاسم، وإلا الإنصاف والرجوع إلى الحق"، ليخلص إلى القول: "إن نظريته كلها تتهافت عند هذه الدعوى: دعوى أن الخليفة الناصر أسس جيشا قويا، وعزم أن يرسل جيشه إلى فلسطين للتعاون مع جيش صلاح الدين، ورفض صلاح الدين لذلك..".
تفنيد "النظرية" ودحضها بالحقائق التاريخية
في سياق نقضه لنظرية الأمين القائمة على نسج حكاية متخيلة، زينها صاحبها ببعض الروايات التاريخية، مسلطا عليها سيف التأويل المتعسف لتتوافق مع نظريته، قدم الدكتور شاكر مصطفى جملة حقائق تاريخية تنقض النظرية، وتظهر مدى تهافتها وهشاشتها.
أولى تلك الحقائق التي أوردها الدكتور شاكر تقول: "لم يكن لدى الخليفة الناصر أبدا جيش قوي، بل شبه جيش سنة 583 هـ، سنة فتح القدس، ولا كان قد تخلص من السلاجقة (فذلك تم سنة 590 هـ بعد موت صلاح الدين بسنة)، وإنما قوي الخليفة بعض القوة حين أنفق بعض النفقات على جيش محدود مقلدا صلاح الدين، فلما توفي الرجل أهمل الجيش، كما أهمل غيره، واهتم بالطيور ورم البندق".
وحول ما حكاه الأمين عن أن الخليفة الناصر جنّد 120 ألف فارس، شكك الدكتور شاكر في هذا الرقم الضخم، مفصلا كلامه بقوله: "لم يكن المشرق العربي كله يستطيع تجنيد (120) ألف فارس ولا عشر هذا الرقم، مبينا أن صلاح الدين في منتهى جهوده لإقامة الجبهة الإسلامية لم يجمع مما بين مصر والشام والعراق أكثر من 12 ألف فارس، وجمعها بالجهد، بعد أن أنفق من أموال في سبيلها ما يعادل ارتفاعها جميعا خلال 12 سنة".
ووجه المؤرخ شاكر نقدا داخليا لقصة الـ(120) ألف فارس، بأن تجنيد هذا العدد "يحتاج إلى عدد يماثلهم من الخدم، وإلى إسطبلات تتسع للخيل أيضا، وكان في بغداد سنة 580 هـ، 17 محلة، ومعظمها خراب، فإذا افترضنا أن في كل محلة 30 ألفا (وهو رقم مبالغ فيه) فعدد سكان المدينة لا يزيد على نصف مليون، فهل كان أكثر من نصف بغداد مجرد سكن وإقامة لجيش الخليفة المزعوم؟".
ويبقى افتقار حكاية حسن الأمين للتوثيق التاريخي هو النقطة الفاصلة في إظهار تهافت حكايته من أصلها، ويقول الدكتور شاكر في تقرير ذلك وبيانه: "وأهم من كل هذا فإن أحدا من المؤرخين منذ 800 سنة إلى اليوم (بما فيهم ابن الأثير، الذي لا يطيق صلاح الدين – كان مواليا للجناح الزنكي - وابن أبي طي) لم يذكر خبر رغبة الخليفة في التعاون مع صلاح الدين ضد الصليبيين، ورفض السلطان ذلك، فمن أين تلقّف الأستاذ الباحث هذا الخبر المدهش بعد 800 سنة؟".
لماذا صالح صلاح الدين الصليبيين؟
تحدث تقرير "المصري اليوم"، استنادا إلى حكاية حسن الأمين في كتابه، عن أن "السبب الرئيس" لمصالحة صلاح الدين للصليبيين واستسلامه لهم، هو أن "صلاح الدين كان بحاجة لمقاومة جيش الخلافة، إذا أصر الخليفة الناصر على إرسال جيشه.."، فما حقيقة هذه الدعوى؟
أطال الدكتور شاكر في سرده لوقائع المفاوضات بين صلاح الدين والصليبيين، وذكر تفاصيل كثيرة جدا، وكان غرضه من ذلك كما أوضحه "قطع الطريق على من افترى على صلاح الدين وزعم أنه استسلم للفرنج لكي يمنع الخليفة الناصر من إنقاذ فلسطين؛ وهو افتراء تتضح صورته في استمرار المفاوضات مع الحرب للفرنج سنة وثلاثة أشهر، وفي 44 محاولة كانت كلها بمبادرة الفرنج".
وأوضح الدكتور شاكر أن "ما أجبر صلاح الدين على مصالحة الصليبيين ضعف قواته تارة بعد أخرى، وأن فرنسا وإنكلترا معا مع أوروبا كانت تنجد الفرنج باستمرار بالرجال والمال والسلاح".
وبحسب دراسة المؤرخ شاكر فإن "صلاح الدين رأى قبل موته مثَلَه الأعلى في تحرير هذه الأرض الإسلامية يتحطم، ولا أخشى أن أقول: مات محبطا"، مبينا أن صلح الرملة الذي عقده مع الصليبيين، لم يكن صلحا نهائيا، وإنما كان هدنة محدودة لاسترجاع القوى، وقد حددها بالفعل بثلاث سنوات وثلاثة أشهر من تاريخها في 22 شعبان سنة 588 هـ، ثم مات ولم يمضِ على الهدنة ستة أشهر.
كما أن صلاح الدين وفقا للدكتور شاكر "ساوم الفرنج على الأرض شبرا شبرا حتى التوقيع الأخير، وكم من مرة انتهز فرصة الرفض لشروطهم كي يعاود الحرب لهم، وكم حاربهم ورسلهم عنده".
وعن السبب الذي أجبر صلاح الدين على الصلح، قال الدكتور شاكر: "ما اضطره إلى الصلح إلا مصلحة المسلمين، فكما كان يحارب لمصلحتهم، هادن لمصلحتهم أيضا، والحرب لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وبعد ست سنوات من الحرب المتصلة كان عليه أن يريح المنتجين والمحاربين على السواء".
وخلاصة رؤية صلاح الدين للصراع مع الصليبيين يصورها الدكتور شاكر بقوله: "وأخيرا كانت الأرض هي التي تهمه لا البشر.. الأرض المسلمة يجب أن تبقى للمسلمين.. لا تباع ولا تجري عليها ملكية أخرى، وإذا تنازل عنها فلمدة محدودة، وإذا مات قبل أن يقضي من المدة سدسها، فهل الذنب ذنبه في أنّ من أتوا بعده لم يجددوا الجهاد الذي بدأه؟".
ثمة معالم أخرى "للوجه الآخر" لصلاح الدين الأيوبي، الذي رصده موقع "المصري اليوم" في ذكرى وفاته التي وافقت 4 آذار/ مارس 1193، تمثلت في قضائه على "الخلافة الفاطمية"، وحرقه لمكتباتهم بين يدي تحريره لبيت المقدس، و"سرقته لأموال الأزهر" وهو ما يمكن مناقشته وتحليله باستعراض دراسات تاريخية تناولت تلك القضايا بمنهجية مخالفة، وبزاوية نظر مغايرة.
* لمطالعة ما أورده مركز الأبحاث العقائدية من مغالطات حول صلاح الدين الأيوبي:
إضغط هنا