تفعيلا للمادة 99 من ميثاق
الأمم المتحدة، أرسل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خطابا شديدا لمجلس الأمن، حول الوضع في
فلسطين وإسرائيل، باعتباره تهديدا للسلم والأمن الدوليين. وقال في رسالته التي أرسلت لرئيس مجلس الأمن الدولي لهذا الشهر سفير الإكوادور خوسيه خافيير دي لا غاسكا لوبز دومينيغيز؛ إنه «نظرا لفداحة الخسائر في الأرواح البشرية في
غزة وإسرائيل في غضون فترة وجيزة، فإنه مضطر لتفعيل المادة 99 من الميثاق، التي تخول الأمين العام أن يلفت نظر مجلس الأمن الدولي إلى ما يهدد الأمن والسلم الدوليين».
وحذر الأمين العام في رسالته من الأخطار الجسيمة التي تهدد انهيار النظام الإنساني في غزة، وحث مجلس الأمن على المساعدة في تجنب وقوع كارثة إنسانية، وناشد المجلس بإعلان وقف إنساني لإطلاق النار. وحذر من أن الوضع في غزة قد يصبح أسوأ مع انتشار أوبئة وزيادة الضغط لتحركات جماعية نحو البلدان المجاورة. وأشار إلى أنه في حين أن المساعدات الإنسانية التي تمر عبر معبر رفح غير كافية، «نحن ببساطة غير قادرين على الوصول إلى من يحتاج إلى المساعدات داخل غزة». هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الأمين العام بتفعيل المادة 99، منذ أن أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة عام 2017.
ما هي المادة 99؟
يشير ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الخامس عشر، إلى دور الأمين العام وكيفية تعيينه من الجمعية العامة بناء على توصية من مجلس الأمن، أي إن الأمين العام لا يمكن أن يصل إلى هذا الموقع إلا بتوافق الدول الخمس الكبرى المتمتعة بحق النقض (الفيتو)، ونذكر في هذا الصدد الفيتو الأمريكي ضد تجديد ولاية بطرس غالي لدورة ثانية في كانون الأول/ديسمبر 2006. يصف الميثاق الأمين العام بأنه الموظف الإداري الأكبر في الأمانة العامة للمنظمة، وكي لا يتصرف الأمين العام على أنه مجرد موظف، فوضه الميثاق في المادة 99 بأن يكون فاعلا في مسألة الأمن والسلم الدوليين، حيث تنص المادة على: «للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين»، أما بقية مواد الفصل فتتعلق بوظائفه الإدارية. المسألة إذن يجب أن نضعها في إطارها الصحيح: تنبيه مجلس الأمن في حالة تغافل مجلس الأمن، أو عجز عن القيام بمهماته الموكلة إليه من الميثاق، وأولها حفظ الأمن والسلم الدوليين، وهو ما نراه الآن بكل وضوح.
إن تفعيل المادة يعني أن الأمين العام استخدم صلاحياته الدستورية والمحصورة في بند واحد وحيد وهو التنبيه، والتنبيه هنا مهم ويعفي الأمين العام من وضع اللوم عليه في حالة نشوب أزمة سياسية، أو إنسانية تهدد الأمن والسلم العالميين. وقد يكون هذا التنبيه متأخرا. ولكثرة ما تعرض غوتيريش لانتقادات في تعامله الناعم مع حرب الإبادة في غزة، يبدو أنه انحنى أمام العاصفة قليلا، وأراد أن يبعد اللوم عن نفسه.
والانتقادات التي أتكلم عنها تأتي أساسا من أسئلة الصحفيين المعتمدين في الأمم المتحدة بشكل يومي، وأضرب أمثلة لما يتعرض له الأمين العام بشكل يومي:
– تجنب الأمين العام إدانة صريحة وواضحة لا لبس فيها، إسرائيل لهذا العدد من الضحايا المدنيين.
– تجنب الأمين العام استخدام مصطلحات سليمة في وصف ما يجري مثل: حرب الإبادة، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، العقوبات الجماعية، التجويع، الترحيل القسري، استهداف المستشفيات ودور العبادة ومؤسسات الأمم المتحدة، ووصفها جرائم حرب. لقد قتل أكثر من 111 موظفا تابعين للأمم المتحدة، ولم يشر بإصبعه إلى القاتل. وقد سألت مرة المتحدث الرسمي: «تذكرون أعداد الضحايا دون ذكر القاتل، هل هؤلاء سقطوا بسبب زلزال؟». وسألت زميلة لي: «هل يتعرض الأمين العام لضغوط من البعثة الإسرائيلية؟»، وسأل آخر: أليس قتل الصحفيين المتعمد جريمة حرب؟ الأجوبة غامضة ومخادعة وغير مقنعة.
في كل بيانات الأمين العام منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر ولغاية هذه اللحظة، يبدأ بإدانة حركة حماس (الإرهابية)، ويصف ما قامت به بالعمل الإرهابي، ويذكر أعداد القتلى ثم يعيد الرواية الإسرائيلية الكاذبة في موضوع الاغتصاب، وهو يعرف أنها كاذبة (إلا إذا جرى تحقيق مستقل وأثبت العكس)، واستخدام المدنيين كدروع بشرية. لكن الأمين العام لم يسلم من الهجومات الكاسحة من إسرائيل، عندما تجرأ وذكر يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر جملة حول خلفية أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر التي «لم تأت من فراغ» فطالبه السفير الإسرائيلي بالاستقالة. وهذه المرة، ولأنه استخدم صلاحياته حسب المادة 99 لتنبيه مجلس الأمن فقط حول خطر محدق بالأمن والسلم الدوليين، وبما أن إسرائيل تعد الأمن حصريا لها فقط، شنّ وزير الخارجية الصهيوني إيلي كوهين، حملة قاسية ضد الأمين العام واتهمه بتأييد حماس، وطالب باستقالته، وندد بفترة ولايته ووصفها بأنها «خطر على السلام العالمي».
تفعيل المادة 99 في السابق
لقد استخدم الأمناء العامون السابقون هذه المادة عندما استشعروا خطرا داهما يهدد السلم والأمن الدوليين. وكان أول من استخدمها الأمين العام الأسبق داغ همرشولد عام 1960 في أثناء نشوب حرب أهلية في الكونغو، بسبب التدخلات الاستعمارية، التي كانت تنوي فصل جزء من البلاد عن الوطن، وطلب اجتماعا طارئا لمجلس الأمن. ذهب بنفسه إلى منطقة النزاع فتعرضت طائرته لصاروخ فجرها وقتل فيها. هناك لجنة للتحقيق في مقتل همرشولد ما زالت قائمة حتى اليوم، دون أن تتوصل إلى حسم في مسألة القاتل، وكذلك نبه الأمين العام الأسبق يوثانت مجلس الأمن حول خطر اندلاع الحرب بين الهند وباكستان عام 1971، وحذر كورت فالدهايم مجلس الأمن حول احتجاز الرهائن الأمريكيين في إيران عام 1979، وحذر بيريس دي كويار مجلس الأمن عام 1989 حول الأوضاع في لبنان.
هل من قيمة مضافة لهذه الصرخة؟
الحقيقة التي لا جدال فيها أن تفعيل هذه المادة تعكس وضعا نفسيا مريعا للأمين العام، وأنه وصل إلى حافة اليأس من إنقاذ المدنيين في غزة، الذين قد يهلكون ليس فقط بسبب القنابل والصواريخ التي تنزل على رؤوسهم وعلى بيوتهم، بل بسبب الأوبئة والجوع والعطش ونقص الدواء وانعدام القدرة على معالجة الجرحى وتوفير الحواضن للأطفال الخدخ، وتأمين المحروقات لتشغيل المستشفيات وسيارات الإسعاف. الأمين العام يبرئ نفسه ويريد أن يلقي اللوم على مجلس الأمن، وهو مصيب تماما في ذلك؛ لأن المجلس يستطيع أن يوقف الحرب اليوم قبل غد، لو اعتمد قرارا تحت الفصل السابع وطلب من إسرائيل بالاسم، وقف الأعمال العدائية كافة فورا، وإلا فالمجلس سينعقد مرة أخرى لفرض رزمة من العقوبات القاسية، كما فعل مع العراق في القرار 660 في 2 آب/أغسطس 1990، الذي طالب بالانسحاب فورا، وعندما لم ينسحب اعتمد مجلس الأمن القرار 661 يوم 6 آب/أغسطس وفرض رزمة عقوبات قاسية، دمرت العراق من الداخل قبل أن تدمره قوات «عملية حرية العراق» 2003. الصرخة تزيد الضغط على مجلس الأمن، وتحمل وزنا معنويا كبيرا وتضع إسرائيل في قفص الاتهام الواضح والصريح، وتحملها مسؤولية المجازر والمآسي المقبلة، لكن إذا لم يتحرك مجلس الأمن ويعتمد قرارا قويا، وإذا لم تستجب إسرائيل وظلت تتمتع بحماية شريكها الأمريكي في حرب الإبادة، فماذا ستنفع صرخة قهر وألم صادرة عن الأمين العام؟
(القدس العربي)