التقى نحو 700
فلسطيني وفلسطينية من أنحاء الأرض كافة، في منتدى فلسطين الثاني بالدوحة لمدة ثلاثة أيام، الذي ينظمه كل من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. ومع أن الطابع الأكاديمي كان الأكثر حضوراً في المنتدى، لكن الجلسات العامة خصصت أساساً لمناقشة الأوضاع التي تمر بها القضية الوطنية الفلسطينية، على ضوء حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني وأعوانه عرباً وأجانب، منذ أكثر من 133 يوماً، والذي أدى إلى مجازر غير مسبوقة وتدمير منهجي لكل البنى التحتية في
غزة، بحيث تصبح إمكانية عودة الحياة الطبيعية وإعادة الإعمار أمرين في غاية الصعوبة، ويتطلبان وقتا طويلاً على فرض أن العمليات العسكرية توقفت غداً وهو أمر مستبعد.
جرت نقاشات مستفيضة شارك فيها عدد من المتخصصين والخبراء وذوي الخبرة والمواقع القيادية والتجارب العميقة والأسرى المحررين، حول مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، القائم على التحرر والانعتاق من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي النافي لوجود الشعب الفلسطيني، والساعي لتدميره جسديا منذ البداية باستخدام القوة المفرطة في عمليات إبادة متواصلة حلقاتها منذ أكثر من 100 عام.
حجم المؤامرة الآن بدأ يتضح على المستويات جميعها، فلسطينيا وعربيا ودوليا. والكلام الإنشائي حول التضامن مع الشعب الفلسطيني، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وتجنب استهداف المدنيين، أصبح رغاء أقرب إلى زبد السيل بعد أن نشرت القنوات الصهيونية والصحف الأمريكية حقيقة تلك المواقف الداعمة للعمليات العسكرية في رفح، ورصدت الكاميرات قوافل الإغائة العابرة للحدود العربية الطويلة، ليس لشعب غزة المحاصر المجوع النازف المنكوب، بل لآلة البطش النازية. وتجلت فصول المؤامرة بعد أن اصطفت أكثر من 17 دولة غربية لتعاقب الأونروا، شريان الدعم الإنساني الوحيد في القطاع، بناء على تهمة غير محققة من مصدر صهيوني رسمي، لستة موظفين، بعد أن كانوا اثني عشر من مجموع 13 ألفاً، ثم يرفض تسليم الدليل. ولا عجب أن تبخر الحديث عن التدابير المستعجلة التي صدرت عن محكمة العدل الدولية يوم 26 يناير، وهي مُلزمة لا تحتمل التأجيل، وكأن القرارات لم تصدر. ولولا تصريحات متواصلة من رئيس ووزيرة خارجية جنوب افريقيا، لنسي الناس حتى اسم المحكمة. أما مواقف المسؤولين الدوليين فهي إما وصفية للوضع القائم، دون ذكر المتسبب في هذه الأوضاع، أو غياب تام ومشبوه يقف الإنسان حائراً أمامه. فكيف لمسؤولة أممية، اسمها أليس وايريمو نديريتو، تتعلق ولايتها بمنع جريمة الإبادة الجماعية، والتنبيه لاحتمال وقوعها وجمع المعلومات عن مرتكبيها، لا تنطق بكلمة واحدة حول ما يجري في غزة؟ وهي ليست الوحيدة المختفية عن الأنظار، بل هناك مجموعة من المسؤولين الدوليين دفنوا رؤوسهم في الرمال، رغم أن عوراتهم بائنة، مثل ممثلة الأمين العام للأطفال والنزاعات المسلحة، وممثلة الأمين العام للانتهاكات الجنسية في الصراعات، ورئيسة هيئة المرأة، والمديرة العامة لليونسكو ومنسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط وغيرهم الكثير.
أمام هذه المؤامرة الكبرى والأعقد مما كنا نتخيل، ما هو دور الفلسطينيين الآن، الذي لا يحتمل التأجيل؟ سأحاول هنا أن أضع بعض النقاط الأساسية التي أرى أنها عاجلة، كثير منها طرح أو نوقش بإسهاب أو على عجالة خلال المنتدى، ودعني أضع بعض المقترحات لعلها تجذب بعض النقاشات الهادفة:
* ليس المطلوب الآن وحدة وطنية على أرضية اتفاقيات أوسلو الكارثية الموقعة مع الكيان، فقد كانت تلك الاتفاقيات السبب المباشر لوصول المشروع الوطني إلى طريق مسدود، وسهل عمليات التطبيع العربي مع الكيان وأوجد طبقة فلسطينية طفيلية فاسدة تعتاش على العلاقات مع الكيان والتنسيق الأمني معه، وقمع حركات المقاومة في الضفة المحتلة، وتسمين الأجهزة الأمنية على حساب لقمة عيش الشرفاء والأسرى المحررين وعائلاتهم. الوحدة الوطنية لا تكون بدعم دخول ممثلين عن حركتي حماس والجهاد في منظمة التحرير الفلسطينية، بل بإعادة النظر تماما بموضوع الوحدة الوطنية على أرضية النضال ودعم برنامج المقاومة.
* المطلوب الآن تشكيل قيادة وطنية انتقالية شاملة، وليست حكومة تكنوقراط لتسلم أموال إعادة الإعمار، كما يطرح جماعة رام الله، الذين لم يخفوا معارضتهم لبرنامج المواجهة والتصدي للعدوان ووقفوا على السياج ينتظرون هزيمة المقاومة، ليجنوا ثمارها كما يحلمون، ولا يعرفون أن انكسار ظهر المقاومة في غزة سينهي وجود أي كيان فلسطيني في الضفة، حتى لو كان عميلاً. وجماعة رام الله يعرفون تماما أنهم فقدوا أي تأييد من الشعب الفلسطيني، واستطلاعات الرأي المتكررة تؤكد ذلك، واختباؤهم بعيداً عن عيون الناس يؤكد ذلك، وتصريحات بعض رموز السلطة حول توزيع شهادات الإرهاب تؤكد انفصالهم تماما عن الشعب الفلسطيني وتحولهم إلى ظاهرة لحدية بامتياز.
* تحضّر هذه القيادة الانتقالية إلى عقد مؤتمر وطني عام لشرائح الشعب الفلسطيني الفاعلة والناشطة والملتزمة، التي تمثل بحق الشعب الفلسطيني سياسياً وجغرافياً ومهنياً وعقائدياً وعمرياً وجنسانياً، بهدف إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، على أسس تشاركية حقيقية بعيداً عن المحاصصة الفصائلية. ويدعى إلى المؤتمر جميع ممثلي الفصائل كأفراد بمن فيهم ممثلو فتح وحماس والجهاد والكتائب، وممثلو المجتمع المدني. وهذا المؤتمر الشعبي العام ينتخب «قيادة إنقاذ وطني» مهمتها التعامل مع مرحلة ما بعد حرب الإبادة، خاصة إعادة التأهيل والإعمار. قيادة تتمتع بالوطنية والصدقية والالتزام والحكمة والاستعداد. تبدأ تحضر لعقد مجلس وطني شامل يمثل مناطق وجود الشعب الفلسطيني كافة لانتخاب قيادة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية تمتلك الشرعية الدستورية لتقود المشروع الوطني في مرحلته المقبلة. إن قرار التعامل مع مرحلة ما بعد حرب الإبادة يجب ألا يكون في يد المتآمرين والخانعين والمستسلمين، بل في يد الشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة الملتفة حول المقاومة، التي أعادت القضية إلى بؤرة الاهتمام العالمي، بعد أن تبجح رئيس وزراء الكيان في 24 سبتمبر الماضي أمام الجمعية العامة بخريطة الكيان، التي التهمت كل فلسطين وهضبة الجولان بينما كان رئيس السطة يستجدي الحماية.
* من مهمات القيادة الوطنية الانتقالية العاجلة جدا، حماية الشعب الفلسطيني من التهجير القسري أو الطوعي، خاصة أن معالم هذا التهجير أصبحت ظاهرة على الملأ. ولا يغرنّ أحد التصريحات الباهتة حول رفض التهجير، فمن يوافق على عمليات المجازر الجماعية، لا يؤنبه ضمير ولا يردعه دين لقبول التهجير إذا كان الثمن المدفوع عالياً. ومن لا يعرف أن هناك مستفيدين مالياً من مأساة الغزيين على المعبر الوحيد، فليتابع التقارير التي وثقتها وسائل الإعلام الأجنبية.
* لقد بلورت هذه الحرب تياراً عالمياً واسعاً مؤيداً للقضية الفلسطينية وعدالتها، وكاشفاً زيف الرواية الصهيونية التي تلعب فيه دور الضحية دائماً. يجب أن نستثمر ذلك بسرعة ونسعى إلى تأطير هذا التيار ضمن جمعيات ومؤسسات عريضة، كي لا نخسر هذا الجيل الشاب، الذي قلب موازين القوى على مستوى الرأي العام لصالح القضية. إن إنشاء لوبي فلسطيني واسع في الولايات المتحدة وأوروبا يقوم على جمع الأصوات المؤيدة والمؤثرة مع أصوات الشباب المتمرسين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى رؤوس الأموال الفلسطينية مهمة عاجلة لا تحتمل التأجيل.
* لقد أثبتت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS) أنها فاعلة ومؤثرة، ولا عجب أن تصدر تشريعات في نحو 30 ولاية أمريكية وبعض الدول الأوروبية النائمة في سرير الصهاينة بتجريمها، واعتبارها معاداة للسامية. خلال حرب الإبادة أثبتت هذه الآلية فعاليتها عندما شملت المقاطعة الشركات المؤيدة للكيان، مثل زارا وماكدونالدز وستاربوكس وغيرها، ما دعا بعضها إلى الاستسلام أو التراجع أو تحمل الخسائر الجسيمة. يجب متابعة البرنامج وتوسيعه وتحويله إلى ثقافة شعبية عامة ومسلكية يومية، تطال كل من يقف مع الكيان أو يدعمه أو يحميه، أفرادا وشركات وكيانات ودولاً.
الخطر الداهم الذي نشهده في رفح، بتواطؤ دولي وعربي ومحلي، يشير إلى أن مخطط التهجير يتهادى على الطريق في أذهان أحفاد جابوتنسكي. التصدي للمشروع لا يحتمل التأجيل كذلك، لنضم الجهود جميعها لتشكيل سد منيع مع شرفاء العرب والمسلمين والعالم لإفشال مخطط التصفية فنحن الآن أقرب إلى التحرر الوطني من أي وقت مضى، إن أحسنا استثمار صمود المقاومة الأسطوري، وليس على طريقة استثمار الانتفاضة الأولى في اتفاقيات أوسلو.
(القدس العربي)