رغم الموت والجوع والعطش.. رغم الحصار والدمار.. رغم الوجع الصعب.. رغم
الخذلان والصمت الرسمي العربي.. رغم المؤامرات التي حيكت بليل، لتُطبِق على أعناق
الأطفال والأجنة، والنساء الوُلَّد.. رغم شلال الدماء الزكي الذي ينزف غزيرا في
شوارع
غزة وأزقتها.. رغم كل هذا المسلك الصهيوني الهمجي الذي يمارس الإبادة
الجماعية لشعب فلسطين الصامد في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.. رغم كل هذه
المجازر وهذا الإجرام النازي، إلا أن غزة نار تحرقهم، وتبدد جمعهم، وتوجعهم على
صعد كثيرة..
لقد قلبت غزة العالم رأسا على عقب، ومزقت قلب الكيان المحتل وبعثرت أحشاءه،
وأوقعت فيه هزائم مادية ومعنوية أكبر مما يتخيل كثيرون.. الكيان المحتل يعاني
اليوم من تشتت كبير وخلافات لا حصر لها؛ حتى باتت العداوة بين طوائفه وطبقاته
ظاهرة للعيان في أكثر من صورة ومشهد.
على صعيد جيش الاحتلال ثمة هروب من الخدمة أو تهرب منها من قبل عدد لا بأس
به من الجنود، وتذمر آخرين من الإرهاق الذي يصيبهم أثناء مواجهة المقاومين، والخوف
الذي يسيطر عليهم جراء ذلك، ناهيك عن عدد القتلى والمصابين بإصابات خطيرة والتي
تجاوزت الـ3000 إصابة،
قلبت غزة العالم رأسا على عقب، ومزقت قلب الكيان المحتل وبعثرت أحشاءه، وأوقعت فيه هزائم مادية ومعنوية أكبر مما يتخيل كثيرون.. الكيان المحتل يعاني اليوم من تشتت كبير وخلافات لا حصر لها
وعشرات القتلى والمصابين من الضباط. وبلغ مجموع قتلاه حتى
الآن نحو 600 قتيل، وهذا بعض ما يعترف به جيش الاحتلال، إلا أنه يخفي الأعداد الحقيقية
لقتلاه ومصابيه في سبيل رفع الروح المعنوية للجنود، لكنّ كثيرين يتوقعون أن العدد
أكبر بكثير، والقادم من الأيام سيكشف الحقائق.
وثمة خلافات بين القادة الميدانيين والقيادة المركزية، وذلك بسبب مجموعة
الأخطاء التي يرتكبها القادة الميدانيون في العدوان على القطاع، ومن أبرزها قتل
الأسرى الصهاينة في موقعتين تشكلان فضيحة كبرى تتعلق بفشل الجنود في تنفيذ
العمليات القتالية، واستيعاب التعليمات، وذلك بسبب الخوف الذي يعتريهم عند مواجهة
مقاتلي المقاومة. كذلك ثمة خلافات كبرى بين قيادات الجيش والطبقة السياسية، وعلى
رأس هؤلاء نتنياهو الذي وصلت الأمور بينه وبين رئيس هيئة الأركان العامة وعضو مجلس الحرب بيني غانتس
إلى ما يشبه القطيعة، على إثر رحلة الأخير إلى الولايات المتحدة، والتي ينهيها بزيارة بريطانيا، بدون موافقة نتنياهو.
ولا تخفى مشكلات الأخير المتصاعدة مع وزير الأمن الداخلي يوآف غالانت، كذلك
الخلافات الدائرة بين أعضاء حكومة نتنياهو و"كابينت الحرب"، والخلافات
وتعالي الأصوات في الكنيست الذي يقف على فوهة بركان يكاد ينفجر.
ولا يسعني أن أمر بكل أوجه الخلافات بين أطراف القيادتين العسكرية
والسياسية في الكيان، إلا أن الأخير يمر بحالة تخبط لم يشهدها من قبل، في ظل
محاولات أمريكية لاستمالة السياسيين الصهاينة إلى خططها بمعزل عن نتنياهو الذي
يحتكم إلى مصلحته الشخصية من جهة وإلى ضغوط اليمين المتطرف من جهة أخرى، بعيدا عن
مصلحة الشعب اليهودي الذي يطالب جزء منه بوقف الحرب لاستعادة الأسرى، وجزء آخر
يطالب بوقفها لوقف نزيف الدم الفلسطيني والصهيوني أو أحدهما.
أما على الصعيد الشعبي، فلا نود أن نكرر ما كنا قلناه سابقا عن النزوح
الكبير لأعداد كبيرة من مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة، وما سبّبه هذا النزوح
من مشكلات اقتصادية ونفسية وفوضى عارمة، وما سببه ذلك من اضطرابات سياسية
واجتماعية في عقر الكيان؛ إلا أنه لا بد من الحديث عن مئات الآلاف الذين يتظاهرون
بشكل شبه يومي من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى جنوبها ضد حكومة نتنياهو وسياساتها؛
التي يرى المتظاهرون أنها لن تحقق أية مصلحة حقيقية لهم ولكيانهم المحتل، بل ستؤدي
إلى مزيد من القتل والخوف وفقدان الأمل برجوع الأسرى سالمين.
وتزداد وتيرة العنف بين المتظاهرين وقوات الأمن من جهة، وبينهم وبين
متظاهرين آخرين مؤيدين لسياسات نتنياهو، وخصوصا من اليمين المتشدد؛ ولم تتوقف
التظاهرات أمام الكنيست، وأمام مقر إقامة نتنياهو، مطالبة بإسقاط الحكومة وإيقاف
الحرب، وإنقاذ الأسرى.
لقد وصلت الاحتجاجات والتظاهرات أكثر من مرة إلى حد تصريح كبار الضباط في
المؤسسة الأمنية بأنهم فقدوا السيطرة على الشارع، ووصل الأمر إلى تصريح أحد مسؤولي
الأمن بالقول: "إن
إسرائيل تنزف".. الشارع الصهيوني يغلي والحرب الأهلية
ربما تنتظر خلف الأبواب المغلقة، وهو ما يقوله ساسة الكيان وليس نحن.
إلى ذلك فقد استطاعت غزة أن تقلب موازين السياسة الأمريكية، وتربكها، وتجعل
البيت البيض في حالة تناقض وتخبط وعجز عن تقديم نفسه بشكل مقنع للجمهور الأمريكي
الذي فقدت أعداد كبيرة منه الثقة ببايدن وحكومته التي لم تستطع إيقاف العدوان، ولم
تتمكن من إقناع نتنياهو بأيّ من أطروحاتها حول مجريات الحرب ونهايتها،
استطاعت غزة أن تثوّر مئات الملايين من البشر حول العالم على الكيان المحتل، أو عليه وعلى دولهم في آن معا، وأن تغير المعادلات التقليدية التي كانت تحكم المشهد العالمي في نظرته للقضية الفلسطينية؛ فقد أصبحت شعوب العالم التي كانت مخدرة بالإعلام الغربي المدعوم بإمبراطورية ميردوخ الإعلامية قادرة على وعي ما يجري في فلسطين
حتى لكأنك
تحس بأن بايدن رهين لإرادة نتنياهو، وليس العكس، مما دفع بايدن إلى التعامل مع أشخاص
آخرين في حكومة نتنياهو ومجلس الحرب في محاولاته لزحزحة الأمور والخروج من هذه
الحرب المدمرة التي هيجت الشعب الأمريكي عليه وعلى سياساته المنحازة، وفتحت عيونه
على أمور ظلت خافية عليه لسنوات طويلة، مما جعل الولايات المتحدة أحد أكبر
الخاسرين في هذه الحرب الهمجية.
ولا تخفى على أحد المشاهد اليومية التي تعصف ببايدن كلما اعتلى منصة ليتحدث
للجماهير في الانتخابات التمهيدية؛ فيخرج له من يبهته ويصرخ في وجهه، فقد كان
نتنياهو لعنة ناجزة على بايدن، وذات الأمر ينطبق على دول أخرى مثل كندا وبريطانيا
وفرنسا وألمانيا بدرجة أساسية، إضافة إلى بعض دول
أوروبا.
واستكمالا لما تم ذكره؛ فقد استطاعت غزة أن تثوّر مئات الملايين من البشر
حول العالم على الكيان المحتل، أو عليه وعلى دولهم في آن معا، وأن تغير المعادلات
التقليدية التي كانت تحكم المشهد العالمي في نظرته للقضية الفلسطينية؛ فقد أصبحت
شعوب العالم التي كانت مخدرة بالإعلام الغربي المدعوم بإمبراطورية ميردوخ
الإعلامية قادرة على وعي ما يجري في فلسطين، بعد أن نجحت قناة الجزيرة وقنوات أخرى
إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي في فضح جرائم الإبادة التي ارتكبتها قوات
الاحتلال في حق المدنيين بدون تمييز؛ فلا يمر يوم من دون أن نرى عشرات التظاهرات
في الكثير من دول العالم، وخصوصا في أمريكا وأوروبا..
ولا يغيب عن المشهد تغير موقف كل من الصين وروسيا تجاه ما يحدث، فقد كانتا
في السنوات الأخيرة تتعاملان مع القضية الفلسطينية بشيء من الحياد الواضح، إلا
أنهما باتتا منحازتين للجانب الفلسطيني، وتطالبان بوقف الحرب، وتجرّمان الفيتو
الأمريكي الذي يعفي الكيان من العقاب الأممي الذي طالما أوقعته أمريكا على دول
أخرى طبقا لمصالحها..
الحكومات الغربية، ظلت تسمح بممارسة الحريات العامة وتدعو لممارستها إلى أن وصل الأمر لكشف عورة الكيان المحتل؛ لتتخلى عن ثوابتها ومقدساتها
كذلك فقد كشفت غزة عن كذب أنظمة الغرب في مسألة الحرية والديمقراطية، فهذه
الحرية تطبق حيث المصالح السياسية، وتلجم حيث المصالح ذاتها. فالحكومات الغربية
علمتها للأجيال في المناهج الدراسية، وأُشربوها كالماء، لكن هذه الحكومات لم تكن
تتخيل أنه سيأتي اليوم الذي تتضرر فيه مصالحها ومصالح صنيعها، الكيان الصهيوني.
واللافت هنا أن الحكومات الغربية، ظلت تسمح بممارسة الحريات العامة وتدعو
لممارستها إلى أن وصل الأمر لكشف عورة الكيان المحتل؛ لتتخلى عن ثوابتها ومقدساتها
للأسف.
وأخيرا فقد كشفت غزة عن الوجه القميء للأنظمة الرسمية العربية، وفضحت
الخيانة والتواطؤ والارتهان والهشاشة والتفاهة التي لم تسلم دولة عربية منها جميعا
أو من بعضها. وهو ما فتح عيون الشعوب على الحالة البائسة لحكام المنطقة العربية، فارتفعت
وتيرة النقمة عليهم والرغبة في التخلص منهم، خصوصا أولئك الذين بدت خيانتهم وتواطؤهم
ظاهرين للعيان بشكل سافر.
غزة أحدثت زلزالا أصاب كل بقعة على وجه الأرض، وهز كل ضمير حي في هذا
العالم، لكن لم يهز ضمائر أبت إلا أن تظل راسفة في مستنقع الذل والعار من جيراننا
وأبناء جلدتنا أو هكذا يفترض.. لكن كما قلبت غزة الطاولة على رؤوسهم، ستعيد ترتيب
أوراقهم، ووضعها في المكان المناسب..