بعد نحو 11 عاما
من انقلاب قائد الجيش المصري، عبد الفتاح
السيسي، على الرئيس الراحل، محمد مرسي،
مستخدما
الغضب الشعبي من
انقطاع الكهرباء كإحدى الذرائع لإطاحته بأول رئيس مصري
منتخب ديمقراطيا في العصر الحديث؛ عاد ملف انقطاع الكهرباء ليؤرق المصريين ويدفعهم
لصبّ لعناتهم على رأس النظام.
ولا يخلو بيت من
الشكوى من تأثير انقطاع التيار الكهربائي على حياتهم وأعمالهم ومستقبل أبنائهم،
بعد قرار حكومي تنفذه إدارات الكهرباء منذ الاثنين الماضي، وفق جدول يومي بتخفيف
الأحمال بجميع أنحاء البلاد، ما عدا بعض المدن والمناطق السياحية والاستثمارية.
"متضررون في صمت"
قطاع كبير من
المصريين يتعرّضون لخسائر يومية هائلة، ويتمثلون في صغار المصنّعين والتجار، كأصحاب
الورش، ومصانع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتجار التجزئة، وتجار المواد
الغذائية، ومحلات الألبان ومنتجاتها، والسوبر ماركت، والمصالح الحكومية كالشهر
العقاري، ومكاتب التأمينات، والسجل المدني، وغيرها من الخدمات المقدمة للجمهور.
صاحب مجزر
دواجن، يقول لـ"عربي21": "لم نعد نستطيع مجاراة قرارات الحكومة أو
التأقلم معها، أو وضع الحلول لها، نظرا لارتباطهم هم والعاملون بأسرة وأبناء قد
يتعرضون للجوع وعدم الوفاء بالتزام المعيشة ".
وأضاف:
"نعاني كثيرا مع انقطاع الكهرباء، وبينما ندخل على فصل الصيف، أحتاج في محل عملي
إلى تشغيل المراوح والمكيفات حيث تتحمل الدواجن درجة الحرارة العالية،
وانقطاع الكهرباء ساعتين وسط النهار، يؤدي إلى موت آلاف الكتاكيت والفراخ".
وأوضح أن "انقطاع
الكهرباء لمدد طويلة مثل ساعتين، تؤثر على ثلاجات المجمدات، وتعرضه إلى كارثة صحية
وفساد تلك الدواجن، وبالإضافة إلى خسارة مالية كبيرة لي".
وبالحديث إلى
بعض أصحاب السوبر ماركت، أكدوا أن خسارتهم ستكون كبيرة، مع استمرار انقطاع
الكهرباء، خاصة من منتجات الألبان والزبادي، مشيرين إلى تقليل حجم ما يطلبونه من
الموزعين من المثلجات ومنتجات الألبان.
الأمر الأكثر
مأساوية لسيدة مسنّة تُدعى "أم متولي"، تتلقى معاشا شهريا، وذهبت إلى إحدى
ماكينات الصراف الآلي بقريتها، لصرف معاشها، لتنقطع الكهرباء دون اكتمال العملية، أو حتّى رجوع كارت المعاش، لتظل السيدة في أزمة ومعاناة، مدة يومين كاملين حتى تستعيد
الكارت وتصرف المعاش.
"خدمة ندفعها"
تداول
نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، الانتقادات، لشركة توزيع الكهرباء وسوء الخدمة، يوما بعد الآخر، حيث انتشر وسم "#لالقطع #الكهرباء"، وسط طرح السؤال:
"ليه (لماذا) تقطع عنا خدمة نقوم بدفع ثمنها؟"؛ والخميس، أعلن نشطاء عن
واقعة مؤسفة بوفاة صاحب شركة سياحية (40 عاما) بعد حبسه داخل أسانسير إثر انقطاع
الكهرباء.
"من الفائض إلى التخفيف"
وسبق وأن أعلن
رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، عن انتهاء عصر انقطاع الكهرباء، وافتتح
محطات لإنتاجها في تموز/ يوليو 2018، عرفت بمحطات "سيمنز" وهي الشركة
الألمانية المنفذة، لثلاث محطات في العاصمة الإدارية الجديدة، والفيوم (جنوبا)،
والبرلس (شمالا)، بقدرة إجمالية تبلغ 14.4 غيغاواط، وبنسبة 27 بالمئة من إنتاج
البلاد الكهربائي.
بالفعل، تلك
المحطات منحت مصر فائضا في إنتاج الكهرباء يفوق استهلاك البلاد، ما دفع حكومات
السيسي، للحديث عن ربط كهربائي مع دول عربية منها الأردن ولبنان وسوريا والعراق
والسعودية والسودان بل والتفكير في تصدير فائض الكهرباء إلى تركيا وقبرص واليونان
ومنها إلى أوروبا.
وفي تشرين
الثاني/ نوفمبر الماضي، كشفت وكالة أنباء العالم العربي (AWP) عن مفاوضات بين مصر والاتحاد الأوروبي
للربط الكهربائي مع أوروبا ضمن مشروع تقدر تكلفته بـ5.5 مليارات يورو، وذلك عقب
اتفاق مصري مع اليونان وقبرص للربط الكهربائي بكابل بحري.
لكنه وفي تحول دراماتيكي
بملف الكهرباء، ولأن تكلفة تلك المحطات ناهزت 6 مليارات يورو، من ضمنها تمويلات
بحوالي 4.1 مليارات يورو من بنوك "التعمير الألماني" و"دويتشة
بنك" و"إتش إس بي سي"، فقد لجأت مصر في أيار/ مايو الماضي، إلى
خيار عرض محطة "الفيوم" للبيع لسداد أقساط وفوائد الديون.
وخفّفت حكومات
السيسي، من دعم الكهرباء، حتى بلغ دعم الكهرباء في الموازنة المصرية رقم صفر،
وزادت أسعار استهلاك الكهرباء نحو 10 مرات منذ تولي السيسي رسميا الحكم منتصف 2014،
فيما كان آخر تلك القرارات زيادة تعريفة الاستهلاك في كانون الثاني/ يناير الماضي
بنسبة بين 16 و26 بالمئة.
وخلال صيف 2022،
بدأت نبرة حديث الحكومة المصرية تتغيّر في ملف الكهرباء، بحث المواطنين لتخفيف
استهلاك الكهرباء، وعمدت إلى تنفيذ التوقيت الصيفي في نيسان/ أبريل 2023، رغم
إلغائه مدة 6 سنوات، وتقوم بتنفيذه هذا العام في 26 نيسان/ أبريل الجاري، بدعوى
تخفيف الاستهلاك.
لكن شركات توزيع
الكهرباء، بدأت فعليا تخفيف أحمال الكهرباء بقطع التيار عن المصريين في تموز/
يوليو الماضي، وهو ما توافق مع الذكرى العاشرة لانقلاب السيسي، وبرغم توقف تخفيف
الأحمال خلال شهر رمضان الماضي، إلا أن الحكومة صدمت المصريين بعودة انقطاع
الكهرباء بعد إجازة عيد الفطر، وذلك بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة.
"ماذا وراء التخفيف؟"
وتسعى حكومة
السيسي، عبر تخفيف أحمال الكهرباء إلى توفير 35 مليون دولار شهريا، لترشيد استهلاك
الغاز وتصديره إلى الخارج، بهدف توفير العملة الصعبة لاستيراد الوقود المخصص
لتشغيل المحطات، بحسب تصريح لوزارة الكهرباء 2 كانون الثاني/ يناير 2024.
كما أن السيسي،
ذاته، قد اعترف في أيلول/ سبتمبر الماضي، أن "شوية الكهربا اللي بيتقطعوا
بيوفروا 300 مليون دولار"، مضيفا: "طب مش عاوزين الكهربا تقطع مين يدفع
الـ300 مليون دولار نجيبهم منين؟".
"180 مليار جنيه خسائر سنوية"
وحول حجم خسارة
المصريين والاقتصاد المصري، قال الخبير الاقتصادي، عبد النبي عبد المطلب،
لـ"عربي21": "لا توجد إحصائيات تتحدث عن تأثير انقطاع الكهرباء
بشكل كمي أو بشكل قياسي، على دخول المصريين".
وأضاف:
"لكن بحسبة بسيطة نقول إن التيار ينقطع بمعدل ساعتين يوميا ما يوازي 25
بالمئة من عدد ساعات العمل الرسمية، ولو قلنا إن الحد الأدنى للأجور في حدود 6
آلاف جنيه، فهنا نتحدث عن خسائر شهرية في حدود 1500 جنيه، ولو تكلمنا عن حوالي 10
ملايين مواطن في المتوسط تتعرض أعمالهم ودخولهم للانخفاض نتيجة انقطاع الكهرباء،
فتكون النتيجة خسائر حوالي 15 مليار جنيه بشكل شهري".
وأوضح أنه
"بذلك تخسر مصر بحد أدنى شهريا هذا الرقم، نتيجة الانقطاع الذي ينتج عنه توقف
الآلات وهذا شيء مؤكد؛ وانقطاع الخدمات (أون لاين)، وتتوقف الطلبات من المحلات،
وعمل التجارة الإليكترونية، والمراسلات بين الشركات وبعضها وبين الأفراد والحكومة،
لذا فرقم 15 مليار جنيه شهريا أو 180 مليار جنيه سنويا هو تقدير أولي للحد الأدنى
من الخسائر".
ولفت الخبير
المصري ووكيل وزارة التجارة الخارجية للبحوث سابقا، إلى أننا أمام معضلة أخرى وهي
"جذب الاستثمار"، مبينا أنه "من الصعب جدا أن يكون هناك اقتصاد
تنقطع فيه الكهرباء وتتأثر فيه الخدمات وخاصة الانترنت، فيكون صعبا أن يحظى
بتنافسية المناخ الجاذب للاستثمار، ومن هنا فقطع الكهرباء يحمل رسالة سيئة إلى
الاستثمار المحلي والعالمي".
واستدرك بالقول:
"لكن ربما وعت الحكومة بهذه النقطة، وأشارت بدون أن تعلن إلى أن هناك محافظات
لن تخضع لتخفيف الأحمال، من المحافظات ذات الأولوية السياحية أو الموضوعة بمقدمة
المحافظات الجاذبة للاستثمار والساحلية، والمدن المهمة مثل شرم الشيخ والعلمين".
وفي رؤيته أكّد
أنه "ليس لدينا مشكلة كهرباء وما يحدث هو سوء إدارة للملف"، مشيرا إلى
أننا "لا نعاني نقص غاز ولا نقصا بمحطات توليد الكهرباء بعد تدشين محطات سيمنز
الثلاث، وأثناء أزمة (كورونا) كان لدينا إنتاج ضعف الاستهلاك".
وألمح إلى أن
"أحد صناع الحديد كان يتفاخر قائلا إنه (لولا استمرار العمل بمصانع الحديد
والصلب 24 ساعة لأحرقت قوة الكهرباء المولدة مدينة القاهرة)، بمعنى أنه كانت هناك
قوة هائلة في الطاقة الكهربية نتيجة التوليد الكبير والجهد الكهربائي الذي يفوق
الاستهلاك".
وأشار أيضا إلى
أنه "كان هناك إنتاج كبير وحديث عن تصدير الكهرباء للبنان، وعن الربط
الكهربائي مع السعودية وتركيا وأوروبا، وتفكير مع ما لدينا من فائض كهرباء توصيله
للسودان ومنه لإثيوبيا لصناعة تفاهمات بأزمة (سد النهضة)، ولذا نقول إنه ليس لدينا
مشكلة إنتاج كهرباء لكن مشكلة بإدارة الملف".
أما بخصوص الحلول، طرح عبد
المطلب، رؤيته مؤكدا على ضرورة أن يكون هناك ما يسمى بـ“المرونة السعرية لسعر
الكيلووات ساعة"، مضيفا: "إذا شعرت الحكومة بزيادة التكاليف تزيد من
الفاتورة لكن بشرط وجود شفافية كاملة ووجود منافسة نقدر بها أن نقارن بين إنتاج
الحكومة من الكهرباء وإنتاج القطاع الخاص".
وتابع:
"عندما يكون هناك ارتفاع بأسعار الخامات البترولية المستخدمة لتوليد الكهرباء
وارتفاع بدرجات الحرارة يستلزم زيادة المواد البترولية المطلوبة لتوليد واحد
كيلووات ساعة، يمكن رفع الأسعار، وهنا يقبل الناس الأمر بدفع تكلفة أعلى لأجل
استمرار الخدمة، لكن عندما تنخفض التكاليف، فلا بد أيضا من خفض الأسعار".
وأكد أن
"الحاصل أن الدولة وضعت سعرا ثابتا للكهرباء، بغض النظر عن تكلفة الإنتاج
زادت أم قلت، وهذا سوء بإدارة الملف"، ملمحا إلى أن "هذا يحتاج إلى
تشريعات، وإلى رؤية وفكر لإدارة الأزمات".
"20 بالمئة من الناتج المحلي"
وفي رؤيته، قال
الخبير الاقتصادي، أحمد ذكر الله، إن "عودة تخفيف الأحمال وانقطاع
الكهرباء مرة أخرى هو خطأ حكومي نتيجة لتسارع تصدير الغاز من حقل (ظُهر) للخارج،
وانكشاف المخزون المصري دون الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الفعلية للشعب من هذا
الغاز".
الأكاديمي
المصري، وخبير واستشاري دراسات الجدوى، أوضح في حديثه لـ“عربي21"، أن "هذا كله
كان تحت ضغط من الدولة، وأنها تريد توفير أكبر قدر ممكن من النقد الأجنبي لكي تسدد
أقساط وفوائد الديون التي تراكمت عليها الفترة الماضية، -نحو 168 مليار دولار
نهاية 2023-".
وأكد أنه
"سرعان ما انكشف هذا الاحتياطي، واضطرت الدولة إلى الرجوع إلى ما يسمى بتخفيف
الأحمال"، مشيرا إلى أنه "لم توجد هناك أية حلول على الإطلاق، ومن
الواضح أن الدولة استسهلت قطع الكهرباء عن المواطن".
ووفق تقديره،
فإن "انقطاع الكهرباء له أضرار اقتصادية كبيرة، خاصة وأنه يمتد لنحو ساعتين
وسط النهار، وبالتأكيد سيكون لهما تأثير كبير في خفض الإنتاج السلعي أو الخدمي،
مما يكون له بالتأكيد الأثر السلبي على معدل النمو في النهاية ومعدل الاستفادة من
الأنشطة المختلفة".
وأكد ذكر الله،
أنه "لا توجد تقديرات حقيقية منشورة بشأن حجم الخسائر الواقعة على الاقتصاد
المصري بسبب قطع الكهرباء؛ ولكن يمكن القول إنه لو كان مقدار ساعات العمل اليومي
10 ساعات ويتم قطع الكهرباء مدة ساعتين يوميا فبالتالي نتكلم عن 20 بالمئة من عدد
ساعات العمل الرسمية يتم قطع الكهرباء فيها".
وخلص بالقول:
"وبالتالي فإن هناك نحو 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يتضرر
بسبب هذا الانقطاع"، معتقدا أنه "لا توجد للحكومة أية رؤية خلال الفترة
القادمة حول تخفيف هذا الانقطاع، إلا إذا جاءت بمقدار كبير من النقد الأجنبي".
وفي نهاية حديثه
ألمح إلى "بيع مشروعات جديدة مثل (رأس الحكمة) للإمارات في شباط/ فبراير
الماضي، أو الاقتراض مجددا أو أي مصدر للنقد الأجنبي"، مؤكدا أنه "غير
ذلك فالأزمات متراكبة ومتشابكة ومن الصعب التملص منها، ومنها أزمة الكهرباء".