التحية التي وجّهها حسن روحاني -2، إلى الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الممنوع من الظهور والكلام رسميا، تؤشر إلى بداية جديدة في إيران، تتطلب لإنجاحها الكثير من الإرادات والقرارات والمواقف الدقيقة والصعبة والحاسمة في المرحلة القادمة. لا شك أن المصاعب بدأت الآن. الفوز الكاسح للمرشح حسن روحاني، على منافسه إبراهيم رئيسي، لم يكن أمرا عاديا ولا حتى متوقعا من الدورة الأولى، خصوصا للذين يرون في الانتخابات الإيرانية مجرد «مسرحية» لا تُنتج سوى حق الاختيار بين «عمامة سوداء» و«عمامة بيضاء»، أما النتيجة فالحال يبقى على حاله، لأنّ السلطة ليست بيد الرئيس، وإنما بيد المرشد آية الله علي خامنئي لأنّه الولي الفقيه صاحب الولاية المُطلقة.
«التسونامي» الشعبي على صناديق الاقتراع، الذي منح الرئيس محمد روحاني هذا الفوز الكاسح المتكامل مع الفوز بالبلديات خصوصا بلدية طهران، لم يكن بأمر من الولي الفقيه وإنما بسبب
الوقائع اليومية والرغبة بالتغيير، الذي لم يسمح لصوته بالعبور إلى القرارات المصيرية وحتى اليومية طوال 12 سنة، وقبلها عندما فاز محمد خاتمي وأراد التغيير جرت «تعريته» سياسيا وإداريا وتنفيذيا، حتى تحوّل إلى «صوت فلسفي» يغرّد ويطرب وحده.
السلطة في الجمهورية الإسلامية في إيران «شاخت». كثيرون لا يرضون بهذا الوصف على أساس أنّ إيران في عزّ قوّتها فكيف تكون شاخت وهي ترسم مستقبل منطقة الشرق الأوسط؟ المجتمع الإيراني، مجتمع شاب. سبعون بالمئة من الثمانين مليون نسمة تحت 35 سنة أي أنهم لم يعرفوا بدايات الثورة ولا إرهاصاتها. فقط دفع عشرات لا بل مئات الألوف منهم الثمن من دمائهم سواء في الحرب مع العراق أو «الحروب» الحالية في المنطقة التي تكاد تكون متطابقة مع «الحروب الكاستروية» عندما أرسل كاسترو الكوبيين إلى المناطق المشتعلة أو المتخلّفة لتثويرها ضد الإمبريالية.
هذا الشعب «الشاب»، تحكمه طبقة من السياسيين تراوح أعمارهم بين 60 و70 سنة. أي أنّهم لا يعرفون احتياجاتهم وتطلعاتهم نحو الاتصال والتواصل مع العالم المختلف كليا عما عاشوه ويعيشونه.
هذا المجتمع يريد الخروج من البطالة والفساد والتمتع بحق الحياة المتماشي مع العصر. باختصار مثلهم مثل «الشعب السوفياتي» قبل الانهيار، أي أنهم سعوا لتكون بلادهم قوية.. ولكن قبل الصعود إلى القمر كان عليهم ترتيب البيت الداخلي بكل حاجاته العصرية.
أما الذين يرون أنّ إيران يحكمها «الحرس الثوري» على قاعدة «عنزة ولو طارت»، فقد أثبتت الصناديق أنّ «الحرس» «صخرة» في كل القرارات الاستراتيجية، لكنه يتمتع بحق الاختيار في القضايا اليومية تبعا لالتزامات كل فرد منه على قاعدة حرية «التقليد» والالتزام.
الرئيس حسن روحاني -2، لن يلغي «الحرس» ولن يناكفه ولن يُضعفه عسكريا. لكن لا بدّ أنّه سيُكمل وبوتيرة أسرع ما بدأه بصمت ووراء الجدران في إعادة «الحرس» إلى الثكنات مع كل واجبات الاحترام والاهتمام. لا شك أن شعار المرشد بأنّ إيران «دولة المقاومة يجب أن تكون واسعة النفوذ في محيطها الجغرافي» قد فتح كل الأبواب أمام تضخم سلطات الحرس وتمدّده إلى مراكز القرار، خصوصا الاقتصادية. أصبح الآن معروفا أن روحاني نجح في حالتين بارزتين: الأولى وقف اندفاع «الحرس» نحو الإمساك بالقرار مستخدما في ذلك الحاجة إلى المال لمواجهة الأعباء اليومية، وهو عندما يقول إنّ «حكومتي هي التي حالت دون وقوع الحرب»، فلأنّه منع «الحرس» واضطر المرشد للقبول بموقف روحاني وفي معارضة أي عملية خارجية (خصوصا الثأر لاغتيال القائد عماد مغنية وأيضا اغتيال العلماء الإيرانيين) حتى لا تتقوّض المفاوضات حول الملف النووي.
الثانية، أنّ الرئيس روحاني الذي لم يكن مفوضا شعبيا كما هو الآن، عارض عام 2016 زيادة المبلغ المُقتطع للنظام السوري وهو مليارا دولار في السنة. أيضا فإنه لم يعد سرا أن الرئيس حسن روحاني طالب وأحيانا نجح في ذلك بخفض ميزانية «حزب الله» التي تراوح حسب مصادر متقاطعة بين 800 مليون ومليار دولار، وأنّه يصر من دون التصريح على أنّ مهمة «حزب الله» هي الدفاع عن لبنان في وجه إسرائيل، ولذلك يجب تخفيف مهماته الخارجية من سوريا إلى اليمن.
لا يعني كل هذا أنّ الرئيس روحاني الذي اقترع له الشعب الإيراني بكثافة لأنّه يحمل وعودا بالتغيير وليس لأنه زعيم يتمتع بالشرعية التاريخية أو الجماهيرية، سيقوم بالتغيير من خلال عملية انقلابية. لا يمكن لروحاني سوى احترام خصوصية تركيبة النظام الإيراني المعقّدة عكس ما يعتقد الكثيرون أنها مختصرة بصلاحيات الولي الفقيه. وهو أيضا لا بد أن يتعامل مع الواقع بواقعية حتى ينجح. يعرف روحاني أنه يعتمد في تحركه على جبهة واسعة تضم كلا من: الرئيس محمد خاتمي ومير حسين موسوي ومهدي كروبي وحسن الخميني و«الرفسنجانيين» وبالتحالف مع ناطق نوري وعلي لاريجاني. وأنه إلى جانب معركة التغيير في الداخل عليه عبء النهوض بالاقتصاد الإيراني الذي يعاني من «أمراض» كثيرة، أخطرها على المستقبل أحادية إنتاجه أي النفط.
انتخاب روحاني رئيسا للجمهورية بنسبة 57 في المئة يمنحه الكثير من الحرية. لكن، ذلك لا يكفي وحده، فقد سبق لخاتمي وفشل في فتح «أبواب الأمل». الآن بدأ روحاني مع مؤيديه وحلفائه الإمساك بالحلقات المركزية التي يُمكن البناء عليها لمواجهة المحافظين المتشددين، وبالتالي انتزاع القرار منهم. معركة البلديات خصوصا طهران، هي أيضا بداية للزحف لاحقا على «مجلس الشورى» و«مجلس الخبراء».
أمام روحاني وكامل جبهة الأمل في المرحلة المقبلة، إدارة معركة خلافة المرشد، لأنه وإن كانت «الأعمار بيد الله» فإنّ لا شيء يحول دون دفع خامنئي للانسحاب، أو حتى أن يطلب منه «مجلس الخبراء» التنازل لأن من حقه متابعة نشاطه وأعماله. هذا الوضع هو الذي يجعل من الخلافة حالة قائمة وليست حالة مُفترضة كما كانت طوال ثلاثة عقود تقريبا.
الرئيس روحاني مدرك جدا، لأهمية وأبعاد الوكالة الشعبية الضخمة التي مُنحت له، لذلك قال أمس «أردنا أن نقول للعالم إننا جاهزون للتفاعل على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المُشتركة، لاستعادة الاستقرار والسلام».
يبقى أن ينجح «التفاعل» الذي يكون من كل الجهات والأطراف، حتى لا يبقى «كلمات» واستمرار نزيف الخسائر من الدماء والثروات.