رُوع العالم ليلة أمس على أخبار عملية إرهابية جديدة وقعت في العاصمة البريطانية لندن، حيث قام ثلاثة أشخاص باستخدام شاحنة صغيرة لدهس عشرات المسلمين، الذين كانوا خارجين لتوهم من أحد مساجد العاصمة بعد أداء صلاة التراويح، وحتى الآن لا يوجد إحصاء دقيق للضحايا، وقد ألقى المصلون القبض على أحد مرتكبي الجريمة الإرهابية، وتم تسليمه إلى الشرطة، بينما فر اثنان، وقالت الشرطة البريطانية إنها تتعامل مع الحادث على أنه جريمة إرهاب.
مصادر التحقيق قالت أن المجرم قال إنه يريد قتل المزيد من المسلمين، والمؤكد أن التحقيقات سوف تكشف تفاصيل أكثر عن تلك العملية ودوافعها، وإن كنت أرجح أنها تأتي بدافع الكراهية والانتقام، وليس بدافع عقائدي، وإن كان الدافع العقائدي موجودا فهو مجرد تبرير معنوي لارتكاب المجرم جريمة كراهية صريحة، حيث تأتي تلك الحادثة بعد أسابيع من حادثتين ارتكبهما مسلمان؛ إحداهما في مانشستر، والأخرى في العاصمة، وراح ضحيتهما العشرات من الأبرياء أيضا.
الجريمة الجديدة تأتي في سياق اعتداءات أقل عنفا ودموية في أكثر من مدينة أوربية، مثل التحرش بالسيدات المحجبات أو الإساءة إلى المساجد بإلقاء القاذورات عليها، وكذلك حوادث إجرامية متعددة تستهدف قتل مسلمين وعرب في أمريكا، وقد تواترت تلك العمليات في الفترة الأخيرة بصورة ملحوظة.
تأتي تلك الحوادث لكي تعيد التأكيد على عدد من الحقائق:
أولها أن العنف والإرهاب لا دين لهما، ولا مذهب، ولا عقيدة، وأن الذين حاولوا إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين حصريا كانوا ظالمين ومتجاوزين للمنطق والحقيقة، فها هي أعمال الإرهاب تشمل منتمين إلى ديانات وعقائد مختلفة، ومن الصعب أن ينسب المجرم الذي ارتكب حادثة الدهس أمس إلى المسيحية أو أن يكون قد تعرض لمناهج تربوية تحض على الكراهية الدينية مثلا أو أن تكون الثقافة العامة في بريطانيا ساعدته على تبني أفكار متطرفة أو تكره الآخر.
ثانيا، إن تلك الأعمال تكشف عن أن البعد الديني ليس هو جوهر الدافع للفعل الإرهابي بشكل عام، بقدر ما هو ستار أو مبرر معنوي، والأساس في محركات الإرهاب ودوافعه هي مشاعر الكراهية والرغبة في الثأر والانتقام، وهذا يشمل كل المنظمات الإرهابية، بما فيها داعش، فأغلب الأفكار التي يتبناها هذا التنظيم موجودة في بطون الكتب منذ ألف عام، وفي عقول كثير من المتشددين على مدار مئات السنين، ولكنها كانت مجرد أفكار ميتة أو كئيبة أو موضع جدل فقهي وديني داخلي، ولم تتفجر إلا في السنوات العشر الأخيرة، عندما كانت الأجواء السياسية والإنسانية مهيجة للمشاعر ومحركة للرغبات في الانتقام والثأر، وبرزت ظاهرة اختطاف "الإنسانية" رهينة لرغبات وهواجس مجنونة تسعى لفرض إرادة طائشة وأسطورية.
في المحصلة، ما حدث ويحدث هذه الأيام، يدفعني لاستحضار ما قلته من قبل، من أن الإرهاب هو صناعة سياسة وليس صناعة دين، وإذا كان العالم جادا وصادقا في محاربة الإرهاب ومحاصرته، فعليه أن ينطلق من الموقع الحقيقي لتفجر الإرهاب، من علاج الخلل الإنساني والمعنوي الذي أحدثته مظالم سياسية في أكثر من منطقة من عالم اليوم، وخاصة في العالم الإسلامي، كما أن الإنسانية في حاجة إلى التضامن لوقف استباحة آدمية الإنسان في أي مكان من العالم، كحزمة أخلاقية واحدة، فالسلام والكرامة لا يمكن في عالم اليوم تحققها في مكان، بينما يستباح آخرون في كرامتهم وأمنهم وصميم إنسانيتهم في أماكن أخرى والعالم يتفرج.
لا بد من موقف إنساني عالمي جديد يوقف الانتهاكات ضد الشعوب، ويوقف الديكتاتوريات الدموية عن الاستمرار، ويوقف دعم تلك الديكتاتوريات أو توظيفها لمصالح موهومة للغرب أو الشرق، لأن هذه الديكتاتوريات هي المعامل الأساسية لتصنيع وتوليد خلايا الإرهاب في أكثر أنماطها شراسة وحقدا ورغبة في التدمير.