هناك من هم محدثو معرفة بالسياسة يهدرون مقومات الدولة المصرية خارجيا بسهولة غريبة، ويضيعون كل مقومات القوة الناعمة لمصر بقصر نظر سياسي يدعو للرثاء، وهذا ما يحدث فيما يتعلق بأساليب التعامل الحكومي مع الطلاب الأجانب الوافدين الذين يأتون للدراسة في الأزهر الشريف، حرصا منهم على أن ينهلوا العلم الديني من مؤسسته الوسطية والمعتدلة، بعيدا عن أي جهات تجتذبهم لأفكار متشددة أو أفكار دينية تؤدي إلى الإرهاب والتطرف، وبدون شك، فإن هؤلاء الطلاب الوافدين، وإن كانوا مسؤولين أخلاقيا وقانونيا من الدولة المصرية وحكومتها، ويلزمها ـ قانونا وأخلاقا ـ حمايتهم ورعايتهم وتيسير سبل الحياة أمامهم لتلقي العلم الديني المعتدل من منابعه الرسمية، فإنهم أيضا مسؤولية فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، فهؤلاء أبناؤه ورعاياه الذين يسأله الله عنهم، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، ومن هذا المنطلق، وثقة في حرص فضيلة الإمام على أبنائه، وما أعرفه من دينه ونبله فقد كانت تلك الرسالة العاجلة إلى فضيلته.
هناك غارة أمنية غاشمة تجري على مدار اليومين الماضيين في أوساط الطلاب المسلمين من "الإيجور"، أبناء تركستان الشرقية الصينية، وقامت قوات الأمن بحملات دهم مفاجئة وغير مفهومة لمنازل الطلاب وأسرهم واقتحام المطاعم التي يتناولون فيها طعامهم أو المقاهي التي يجلسون عليها، حيث تم اعتقال العشرات منهم، وتبعثرت أسرهم وأطفالهم، وهربت أسر أخرى لتحاول الاختفاء من تلك الغارة الأمنية، لأن من يتم تسليمه منهم إلى الصين فسوف يحكم عليه بأحكام رهيبة، تتراوح بين خمسة عشر عاما والسجن المؤبد وبعضهم يتعرض للحكم بالإعدام، وذلك بعد أن قررت السلطات الصينية إنهاء دراستهم للإسلام في الأزهر، لأسباب غير قانونية، وهم يصرون على استكمال دراستهم الدينية.
وأمس وأول أمس، قامت السلطات المصرية باعتقال الطلاب التركستانيين الذين يدرسون بالأزهر الشريف، وهم حوالي 500 طالب، تمهيدا لترحيلهم إلى بلادهم، فيما يبدو أنها جزء من صفقة سياسية أو توددا مصريا إلى الصين، وقد تم اعتقالهم من أماكن إقامتهم، ومن المطاعم والأماكن العامة التي يمكن أن يترددوا عليها، ومن حاول الخروج من مصر، تم اعتقاله في المطار، وقد ترك النساء والأطفال بيوتهم خوفا من اعتقالهم، وكانت السلطات الصينية المعادية التي تحاصر كل معالم الإسلام هناك حتى حظرت على المسلمين صوم رمضان قد طالبت الطلاب التركستانيين بإلغاء دراستهم بالأزهر والعودة إلى تركستان الشرقية، ومن يمتنع عن العودة ويصر على استكمال الدراسة فسيتم اعتقال ذويهم والزج بهم في السجون، وهذا ما قد حدث بالفعل.
ومن عاد إلى تركستان وامتثل للأمر، قامت السلطات الصينية بمحاكمته، وواجه عقوبة تتراوح ما بين السجن 15 سنة إلى السجن المؤبد، وقد تصل إلى الإعدام في بعض الحالات، وعلى سبيل المثال، الدكتور / حبيب الله توختي والذي حصل على شهادة الدكتوراة في العلوم الإسلامية، وعاد إلى بلاده امتثالا لأمر السلطات الصينية وخوفا على ذويه من الاعتقال والتعذيب، وقد تم اصطحابه من المطار إلى السجن ليواجه عقوبة السجن 15 عاما.
يا فضيلة الإمام، أبناءك أبناءك، الله الله فيهم، ولا يصح أن يتركوا نهبا لصفقات سياسية قصيرة النظر، فهؤلاء في الأمد البعيد هم سفراء مصر الحقيقيون، بما يتبوؤوه من مناصب أو أعمال أو ريادات دينية أو ثقافية أو سياسية أو ديبلوماسية، هؤلاء هم الذين تمثل لهم مصر وطنهم الحقيقي الذي يسكن ضمائرهم ولا ينسوا فضله عليهم ما بقي لهم من أعمار، واسألوا أفريقيا التي كان للأزهر عمقه فيها ووصل أبناؤه إلى رؤساء ووزراء وقادة، قبل أن نخسر تلك "القوة الناعمة" بسذاجة وقصر نظر.
يا فضيلة الإمام، أناشدك الله أن تتدخل لوقف هذه الغارة، وإذا كان هناك من يخطئ لأي أسباب قانونية معتبره فلا اعتراض أبدا على أن يحاكم هنا أمام القضاء أو حتى يتم إبعاده، أما أن تتحول مصر إلى فخ لهؤلاء الذين وثقوا فيها وفي حكومتها وفي أزهرها، أما التنكيل بأبناء الأزهر الذين قدموا من أجل أن ينهلوا العلم الشرعي الصحيح من منابعه الوسطية المعتدلة والمأمونة، ونعاقبهم على ذلك، فكأننا نوجه رسالة للآخرين أن يذهبوا إلى جهات أخرى، قد تذهب بهم بعيدا عن العلم وعن الوسطية وعن الاعتدال، أنقذوا أبناء الأزهر من السياسات قصيرة النظر، فمصر تخسر كثيرا بذلك، والأزهر يخسر معها.