من الأقوال النادرة للزعيم السوفيتي جورباتشوف وهو يخاطب الأمريكان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (سأحرمكم من شيء ستندمون عليه، وهو العدو). خاطبهم بهذه الكلمات المختصرة لعلمه أن من أبرز القوى التي أتقنت فن صناعة الأعداء خلال نصف قرن من الزمن الفائت هي الولايات المتحدة، التي يقوم جزء من استراتيجيتها على صناعة الأعداء كمدخل للتدخل والسيطرة على الآخرين، إضافة إلى لفت الأنظار نحو الخارج حين تشتد أزمات الداخل. واحفظوا هذه العبارة؛ لأننا سنحتاج إليها بعد قليل حين نتحدث عن أزمة الخليج.
بعد عقود من العداء الأمريكي مع قوة الشر المتمثلة يومها في الشيوعية، وكان يمثلها الاتحاد السوفيتي، وبعد أن انهارت تلك الدولة ومعها الكتلة الشيوعية جميعا، فرغت الساحة أمام الأمريكان من الأعداء، الأمر الذي يجبرها نحو الانكفاء على الذات، وهذا ما كان يخالف الاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى، فبدأت في صناعة عدو جديد تمثل منذ بداية التسعينيات في لعبة (الإرهاب) التي وصلت ذروتها في أحداث سبتمبر2001، فامتدت بعدها أمريكا يمنة ويسرة في هذه اللعبة، تشرّع القوانين وتجرم هذه الدولة وتلك، وما تزال على حالها في هذه اللعبة. تراها تجدد من أساليبها ووسائلها، حتى أضحت اللعبة أشبه ببرنامج ذي سمة عالمية، يمكن لأي دولة استخدامه في أي وقت، ورسم استراتيجيتها وفق تكييف معين للبرنامج، يخدم توجهاتها وأهدافها.
أزمة الخليج التي بدأت بكذبة صحفية من سكاي نيوز أبو ظبي ضد قطر، وقامت إثر الكذبة تلك حملات إعلامية وبرامج سياسية وغيرها ضد الدولة القطرية، لا تخرج عن حلقات أو إطارات استراتيجية صناعة الأعداء. بمعنى آخر، تلاقت وتشابهت أزمات المحاصِرين الأربعة الداخلية، واتفقت وتوحدت بالتالي رؤاهم على أهمية وضرورة تصدير أزماتهم الداخلية نحو الخارج بنفس الكيفية الأمريكية في صناعة عدو خارجي مشترك، يتم عبره لفت أنظار الداخل إليه لحين من الدهر، يتخففون بعض الشيء من الأعباء والأزمات المحلية.
المحاصِرون الأربعة: مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، يعيشون -لمن يتابع أحوالهم عن قرب وكثب منذ عواصف الربيع العربي- حالة من التأزم الداخلي وعدم استقرار على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي.
مصر، منذ انقلاب العسكر عام 2013 على أول رئيس مدني منتخب في تاريخها العريق، تعيش حالة من عدم الاستقرار. تنتقل من أزمة إلى أخرى، سواء رغبة من النظام في صناعة الأزمات أو تأتيها الأزمات من حيث لا تدري، وهي كلها تصب في خانة عدم استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد، رغم الدعم اللامنتهي واللامحدود من السعودية والإمارات، حتى صارت أشبه بثقب كوني أسود، تبتلع كل ما حولها أو يقترب منها، وتقول: هل من مزيد؟!
السعودية، بدأت أزمتها السياسية منذ أن ربطت مستقبلها بمستقبل النظام العسكري في مصر بعد الانقلاب، حتى تعمقت تلك الأزمة السياسية لتضرب استقرارها الاقتصادي، ويصل التأزم إلى مسألة الحكم، حين تم استحداث منصب جديد لأول مرة تحت مسمى ولي ولي العهد، في خطوة تفيد أن خللا ما قد بدأ يظهر في بيت الحكم، ويبدو أنه سيتعاظم مع الأيام، وهو ما بدأ فعليا حين توفي الملك السابق، وتولى سلمان الحكم، فظهر ابنه الشاب فجأة ولكن في المنصب الجديد، وكان بن نايف بينهما وليا للعهد، أو الرجل الثاني في البلاد، أو ملك المستقبل.
الشاب الثلاثيني، صاحب طموحات لا تقف عند المنصب الذي تم إزاحة أصحاب الخبرة من العائلة لأجله. وحتى يثبت جدارته للترقي والصعود، كان لابد أن يمسك بزمام الأمور والخيوط، وساعده على ذلك وجود والده على كرسي المُلك. وبدأ حياته في عالم الأضواء والسياسة والحكم، بمغامرة عسكرية لم تكن لتخطر على بال أي سياسي أو استراتيجي سعودي.. وكانت حرب اليمن. الحرب التي توقع لها المحيطون به أن تنتهي في غضون أسبوعين من الزمن، يتم بعدها إعلان الانتصار على الحوثي والعدو القديم المتجدد علي صالح، فيكسب بن سلمان رصيدا شعبيا يساعده كثيرا في تحقيق طموحاته.
بعد أن فتح جبهة عسكرية مع اليمن، وقبل أن يغلقها، فتح جبهة ثانية مع قوة إقليمية ذات شأن هي إيران، ودخل في سجال وحرب سياسية وإعلامية معها لم تنته إلى يومنا هذا، وإن كانت تهدأ حينا لكنها تسخن أحيانا أخرى كثيرة وتمتد طويلا.. ومع هذا التراوح والسجال ضد إيران، اتسعت جبهة اليمن حتى خرجت عن السيطرة، وامتدت الفترة من أسبوعين إلى أكثر من سنتين، دون نتائج تُذكر، لكن خسائر تُذكر ولا تُنسى.. وبين ليلة وضحاها تُفتح جبهة ثالثة أخطر هذه المرة ضد جار خليجي، وبمعية جوار خليجيين، توحدت أزماتهم الداخلية مع أزمات المملكة، فظهرت لنا أزمة الخليج.
الإمارات وتحديدا إمارة أبوظبي، المهيمنة على القرار السياسي وصاحبة النفوذ المالي في الدولة الاتحادية، صنعت وهما كبيرا منذ بدايات الربيع العربي، وتمثل في الإسلام السياسي أو تحديدا جماعة الإخوان المسلمين، وأدخلت نفسها تبعا لذلك، في حرب ضروس ضد الجماعة أينما ظهرت من العالم، وأرهقت نفسها بتكاليف باهظة سياسيا وماليا، وعاشت على إثره في قلق ودوامة من المشكلات وعدم استقرار، خاصة في ظل سعي ولي عهد أبوظبي بسط سيرته التامة على مفاصل الدولة الاتحادية، وتجهيز نفسه لرئاستها، رغم معارضة بعض الإخوة من أبيه لتلك التوجهات الشخصية، وتذمر مكتوم خفي غير ظاهر من بعض شيوخ الإمارات الست الأخرى نتيجة تصرفاته وقراراته السياسية التي تُصنع له من قبل كوادر أمنية استخباراتية تجمعت حوله من بقايا الأنظمة العربية الأمنية القمعية..
البحرين لا تختلف أحوالها وأزماتها الداخلية عن أخواتها الكبريات، فالجبهة الداخلية هشة غير مستقرة أمنيا، وضعيفة اقتصاديا، والتذمرات لا تهدأ لاسيما من الطائفة الشيعية التي كلما نشطت بفعل فاعل، اختل توازن واستقرار الداخل البحريني، فهي تعيش على بركان ثائر قد ينفجر في أي لحظة، وتعتمد بشكل كبير على الجارة الكبيرة في استقرارها الأمني والاقتصادي، وتتأثر بأحوال الكبيرة.
مما سبق من استعراض مختصر سريع للأحوال الداخلية غير المستقرة للمحاصرين الأربعة لقطر، يتبين لنا لماذا ظهرت أزمة الخليج فجأة للعلن، وكيف تحولت قطر بين ليلة وضحاها إلى عدو مشترك للأربعة، مستخدمين الأسلوب الأمريكي والإسرائيلي في صناعة الأعداء وتوجيه أنظار الداخل نحو الخارج، مستغلين لعبة الإرهاب في كسب تأييد مجتمعاتهم الداخلية وكذلك العالمية ولاسيما الغربية منها، يمنون النفس بتمرير مآربهم وحل مشكلاتهم على أكتاف جارتهم الصغيرة قطر.
وسواء أدركوا أم لم يدركوا، فإن بعملهم العدائي غير المبرر هذا، ودفع قطر نحو لعبة الإرهاب السمجة، إنما يكشفون أنفسهم وظهورهم، ويفتحون أبوابا من الشر عليهم قبل غيرهم كانت مغلقة، لا نقول بأن قطر هي من ستفتحها، لكنهم المتربصون بهذا البيت الخليجي. من ينتظرون فرصة كهذه لمزيد ابتزاز ودعم خزائنهم لأجل رفع مستويات المعيشة والرفاهية والحياة الكريمة بمجتمعاته تاركين دون شك، مشكلات المحاصرين الأربعة الداخلية تتعمق أكثر فأكثر، فتكون نهايتهم بعد انجلاء الغمة وانكشافها عن الخليج، كالمُنبتّ لا أرضا قطع ولا أبقى ظهر.
نعم، سيخرج الجميع من الأزمة ولكن بعد خسارة الجانبين، وإن كانت خسائر المعسكر المحاصر أكبر وأفدح، إذ تكون يومها قطر، قد خرجت من معسكرهم وربما ظهر حلف أو معسكر جديد بالمنطقة، يبني ويعمر ويخطط للغد، فيما سينشغل المعسكر المحاصر بمداواة جراحاته ودراسة أخطائه وحل مشكلاته مع الداخل والخارج، فهكذا هي سنن الله مع الظلم والظالمين.