الاستعراض الضخم الذي تم نشره بالصوت والصورة لمنشآت وتجهيزات وأسلحة قاعدة محمد نجيب العسكرية شمال غرب البلاد أثارت انتباه الرأي العام داخل مصر وخارجها، وتساءل كثيرون عن هذه المعلومات التي تنشر ـ مجانا ـ لأول مرة عن قاعدة عسكرية، وهي معلومات كانت تعتبر في السابق أسرارا عسكرية يمثل الكشف عنها جريمة تعرض صاحبها للمحاكمة، ويبدو أن هذا الاستغراب دفع المعنيين للرد من خلال الأذرع الإعلامية، التي قالت بأن ما تم عرضه لا يمثل 20% من عتاد القاعدة وتجهيزاتها، وهو كلام مبالغ فيه بكل تأكيد؛ لأن الناس رأت مئات الدبابات وعشرات الطائرات المروحية وثابتة الجناح بخلاف منشآت هائلة، لكن المؤكد أن هناك منشآت أخرى لم تعرض لأسباب مختلفة، مثل السجن العسكري للقاعدة الذي من الطبيعي أن يتناسب مع ضخامة القاعدة، وأنها أضخم قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط، ولكن كل ذلك لا يتصور معه أن يكون ما عرض هو فقط خمس قدرات ومنشآت القاعدة.
القاعدة العسكرية الجديدة، التي تعتبر مفاجِئة حتى للشعب نفسه، الذي يشاهد افتتاحها من باب العلم بالشيء ليس أكثر، أسست على مساحة تبلغ ثمانية عشر ألف فدان، وهو ما يعادل أكثر من سبعة وسبعين مليون متر مربع، أي إننا أمام مدينة حقيقية، وتلك المساحة المهولة مع التجهيزات والمنشآت والتسليح، التي تقدر بمليارات الدولارات لو تصورنا أنها وضعت في أولويات "مدنية" أخرى تعاني منها مصر حاليا، مثل التعليم والصحة، لتم إنشاء عشرات الآلاف من المدارس وعشرات الآلاف من المستشفيات، بلا مبالغة، يمكنها أن تغير وجه مصر، وتنقل مستوى التعليم والصحة فيها إلى مستويات هائلة تواكب تطورات العالم الحديث وقدراته، بدلا من انهيار التعليم الذي جعل مصر تتذيل دول العالم في ترتيبه والهوان، الذي يلاقيه ملايين المواطنين للبحث عن سرير في مستشفى أو حتى حبة دواء، ولكن المشكلة أن تقدير تلك الأولويات من الصعب حسمه الآن، لأنه لا يوجد أي حوار وطني حول تلك الأولويات، كما أن البعض يتصور أنك عندما تطلب مناقشة أولويات الإنفاق المدني والعسكري، مثلما يحدث في "الدول" المختلفة، حتى عند العدو الإسرائيلي، فكأنك ترتكب جريمة عظمى، رغم أن ميزانية الإنفاق العسكري هي جزء من ميزانية الدولة ككل، ومن المستحيل أن تتوازن أولويات الأمور في دولة دون حوار وطني حقيقي، شعبي ومؤسسي، وهو مطلب بعيد المنال، لأن تقدير الأولويات هنا دائرته مغلقة.
التعليقات شبه الرسمية، تتحدث عن أن القاعدة الضخمة هدفها حماية المنشآت النووية في الضبعة ومناطق البترول، وبديهي أن التهديد هنا هو تهديد جوي، من دول معادية تملك قدرات جوية عالية أو قدرات صاروخية فائقة التطور؛ لأن مصر لا تتهددها جيوش جرارة في الغرب أو الجنوب، يمكن تخيل أنها ستتحرك على الأرض لاحتلال تلك المناطق، وبالتالي فالمفهوم أن حماية تلك المنشآت تحتاج إلى قواعد دفاع جوي حديثة وعالية الكفاءة ومنظومة مضادات للصواريخ، والمشكلة هنا أن سباق التسليح يرتبط بالاستيراد والشراء بالعملة الصعبة، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من ضعف الإمكانيات لظروف اقتصادية صعبة واستثنائية وحادة، وتأثرت حياة الناس ومعيشتهم بقسوة شديدة بسبب تلك الضغوط المعيشية، ويحدثنا رئيس الجمهورية بصفة مستمرة عن فقرنا الشديد وقلة ذات اليد الأمر الذي قلص ميزانيات حيوية، بل يمكن أن نقول إن ميزانية البحث العلمي، رافعة النهوض والتطوير في البلاد، تقترب من الصفر الآن، وتعيش البلاد على معونات من دول خارجية، وبطبيعة الحال تلك الدول لا تعمل كمؤسسات خيرية، وإنما وفق حسابات وأولويات استراتيجية، قد لا تكون بالضرورة متطابقة مع المصالح المصرية.
مصر اليوم أشبه بلوحة إنسانية لها وجهان، إذا نظرت إليها من زاوية أحدهما، ترى بلدا فقيرا تعيسا يعاني شظف الحياة والفقر والحاجة وسوء التغذية وسوء العلاج وسوء التعليم، ويلتمس العون من القريب والبعيد ويعيش على المعونات والقروض بالفوائد المركبة، وإذا نظرت إليه من الزاوية الأخرى، ترى بلدا ثريا عفيا يملك قدرات شراء أحدث الأسلحة وينشيء أضخم القواعد العسكرية في الشرق الأوسط كله، ويملك أضخم البعثات الديبلوماسية على مستوى العالم، ويملك أضخم عدد من الوزارات في حكومته حتى بالمقارنة مع دول عظمى اقتصاديا مثل أمريكا واليابان.