في زمن القذافي، حيث كانت تكثر الغرائب في كلماته ودعواته، شاع لدى أهلنا في ليبيا عبارة "من ليبيا يأتي الجديد"، حيث كانت خطب "الأخ القائد" وتوجيهاته تحمل أفكارا ودعوات لم يسبق لدول العالم مواجهتها أو معرفتها من قبل، مرتجلة وغريبة بالفعل ومثيرة للدهشة، ومع ذلك كانت صحف "الأخ القائد" تتبارى في تأكيد عبقرية تلك الدعوة وأسرار توجيهاته التي تخفى على الكثيرين، غير أن تلك الصحف التي كانت توجهها استخبارات القذافي ومؤسساته الأمنية، مثل صحيفة الجماهيرية، وصحيفة "الزحف الأخضر" لم تكن تجد من يشتريها، على الرغم أنه فرغ لها سوق الصحافة، وحجب بقية الصحف العربية إلا القليل مما كان قد اشتراه أو اشترى صاحبه واستأجره للترويج لعبقريته.
لا أحب أن نعيد ـ في مصر ـ تكرار تلك التجربة البائسة، فمصر أكبر من ذلك وتجربتها السياسية والحضارية أكبر من ذلك، كما أن المنطقة عاشت ربيعا ثوريا أسقط أوراق التوت عن كثير من الأنظمة، وكشف عن أشواق الشعوب للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، غير أني لا أستطيع أن أدفع عن تفكيري تلك المقارنة مع ما يحدث الآن في حكاية "تثبيت الدولة"، وهي دعوة بالغة الغرابة، ويصعب أن تجد مثيلا لها في دول العالم الآن، كما أن "الزفة" الإعلامية التي صاحبتها مهينة للإعلام المصري، وتضعه في المستوى نفسه الذي كانت تشغله صحيفة "الزحف الأخضر" الليبية أيام "الأخ القائد".
الحديث عن ضرورة "تثبيت الدولة" في مصر هو حديث مهين لتاريخ مصر ومكانتها، كما أنه مهين لشعبها، فلم تكن الدولة المصرية مهتزة في أي وقت من تاريخها الحديث ولا القديم، تهتز حكومات أو نظم سياسية وقد ترحل، لكن مصر الدولة والشعب والوطن والوجود تبقى حية وراسخة رسوخ الجبال، والحديث عن "تثبيت الدولة" هو حديث يفترض أنها مهتزة؛ لأن البديهي أن الذي يحتاج إلى التثبيت هو المهزوز، وهذا كلام يضر كثيرا بالوطن ومصالحه واستقراره وأمنه القومي كذلك.
إعطاء الانطباع بأن الدولة مهتزة وتحتاج إلى تثبيت يضعف الثقة فيها، ويفرض التردد والخوف على أي مستثمر كان يفكر في الحضور بأمواله إلى مصر ليضعها في "بيئة آمنة وثابتة ومستقرة"، فإذا وجد أهل البلاد يبحثون عن "تثبيت" دولتهم، فما الذي يجعله يغامر، ولماذا لا ينتظر حتى يرى جهود "التثبيت" وقد نجحت أو أثمرت وأعطت الانطباع بالاستقرار والأمان، والأمر كذلك أيضا في الحديث عن مرفق السياحة، لأن الكلام الذي يعطي الانطباع عن "اهتزاز" الدولة، وحاجتها إلى "التثبيت" يخيف أي سائح، ويجعله يتردد ألف مرة قبل المغامرة بالقدوم إلى مصر، السائح يبحث عن البهجة والاسترخاء والأمان والثقة التامة في أجهزة ومؤسسات البلاد التي يزورها، فما الذي يدعوه إلى المخاطرة بحياته وأمواله في بلاد "مهتزة" ويبحث أهلها ومؤسساتها وحكومتها عن كيفية "تثبيتها"، هذا بالإضافة إلى أن الحديث عن الحاجة إلى "تثبيت" الدولة يعطي إشارات سلبية للقوى الإقليمية والدولية المتربصة بمصر، كما أنه يولد الاستهتار بمصر ومصالحها خاصة في محيط مشتبك وتتناقض فيه المصالح الحيوية بل والوجودية، على النحو الذي يحدث في مجرى النيل على سبيل المثال.
الدلالة الوحيدة التي نخرج بها من الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي "لتثبيت الدولة" هي إدراكنا أن الارتباك ما زال مهيمنا على صناعة القرار، والرؤية غير واضحة، والخطوات قلقة، واليقين بالمستقبل السياسي والاقتصادي والأمني مهتز، وأن هناك ما يربك القيادة بقوة، على الرغم من السيطرة الأمنية والقبضة الحديدية التي تحاصر أي نشاط سياسي شعبي أو خارج نطاق سيطرة الأجهزة، هناك ما يقلق السيسي بقوة، وهناك ما يربكه وهناك ما يضعف ثقته بالمستقبل، هل هو قلقه من انتخابات 2018، ورغبته في قطع الطريق على أي "مغامر" يملك أرضية شعبية أو يملك فرصة، خاصة أن بعض هؤلاء "المغامرين" يحظون برعاية وحماية من قوى إقليمية يعمل لها السيسي ألف حساب.
في كل الأحوال، وأيا كانت التفسيرات لتلك الدعوة الغريبة، إلا أن مشهد الإعلام المصري والحكومة ومؤسساتها وهي تهرول للاستجابة لنداءات الرئيس وتوجيهاته فيها هو مشهد مزر، أساء لمصر كثيرا، وأعطى رسالة شديدة السلبية للخارج عن أحوالها.