لا يمكن لأي متابع مستقل ألا يلتقط حقيقة أن تعبير الاعتدال العربي ما هو إلا اسم حركي مخفف، للتعبير عن تواطؤ هذه الدول مع أجندات إسرائيل التوسعية على حساب الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي دول ليست معتدلة، بل هي بجوهرها متشددة، ولا تجد نخبها الحاكمة غضاضة في التشدق بمفهوم الاعتدال، مع أنها تمارس سياسات داخلية إقصائية وقمعية، ناهيك عن سجلها السيئ في انتهاكات حقوق الإنسان والمرأة.
وكأن هزيمة هذا المحور في كل مواجهاته مع إيران ليست كافية، فبعض دول هذا المحور مصرة على اتباع سياسات تُمكن خصومها الإقليميين. فتهديد الرئيس محمود عباس مثلا بقطع المساعدات المالية ورواتب الموظفين في قطاع غزة لا يساهم في إخضاع حركة حماس ولا في دفعها لدخول بيت الطاعة في رام الله بل يدفعها رغما عنها للبحث عن حضن أكثر دفئاً، وهنا تبرز طهران كملاذ أخير لحركة حماس بعد أن ضاقت بها الأرض بما رحبت. والأمر ذاته يتكرر مع قطر التي يطالب خصومها بأن تخضع بشكل كامل لشروطهم التعجيزية ما يحولها إلى دولة تابعة لا حول لها ولا قوة، متناسين أنه يمكن لقطر إيجاد شراكات حقيقية مع دول أخرى من بينها إيران، والمفارقة أن محور الاعتدال العربي الذي يريد حصار إيران وعزلها إنما يعبد الطريق لتعزيز نفوذ إيران في المنطقة. وكأن لسان حال إيران يقول: مع مثل هؤلاء الخصوم لا تحتاج طهران إلى أصدقاء.
اللافت في الأمر هو المتاجرة في القضية الفلسطينية من خلال التواطؤ مع إسرائيل التي تتنكر للحقوق الفلسطينية، وهذه المتاجرة وفّرت بوليصية تأمين لبعض أنظمة محور الاعتدال العربي ودفعت الغرب إلى عدم إثارة حقيقة أن من بين هذه الدول من يتبنى وينشر أيديولوجية متشددة ومسؤولة بدرجة كبيرة عن خلق مناخات التطرف والإرهاب في إقليمنا الملتهب، والحق أن الغرب اكتوى بنيران هذه التنظيمات المتطرفة، لكن كلما ارتفعت أصوات غربية منتقدة التشدد في هذه الدول يدب الخوف في أوصال نخبها الحاكمة التي بدورها تسارع إلى التقرب من إسرائيل، ولا تجرؤ هذه الدول على الدخول في مواجهة دبلوماسية أو سياسية حقيقية حتى عندما تتفرعن إسرائيل وتحاصر الأقصى، والحق أن تقديم السعودية لمقترح مبادرة السلام العربية في عام 2002 جاء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إذ أراد قادة السعودية في ذلك الوقت إيجاد مقايضة غير مباشرة تتبنى الجامعة العربية بموجبها مبادرة سلام عربية لحل الصراع الفلسطيني بشروط تقترب من موقف إسرائيل نوعا ما على أن يغض المجتمع الغربي الطرف عن ارتباط الإرهابيين الذين هاجموا الولايات المتحدة بدول تنتمي إلى محور الاعتدال.
وحتى نبقى في جوهر المسألة نقول إن الاعتدال يعني قبول التنوع وممارسة الحد الأدنى من الديمقراطية ويعني أيضا احترام حقوق الإنسان، ولا نذيع سرا عن القول بأن بعض أنظمة هذا المحور لا علاقة لها بكل هذه المفاهيم لا من قريب ولا من بعيد، فهي مفاهيم تبدو وكأنها قادمة من كوكب آخر، والسؤال هنا ماذا تبقى من الاعتدال غير الانصياع لإسرائيل؟! بطبيعة الحال، لا يمكن وضع كل دول محور الاعتدال في سلة واحدة، فهناك تباين في سلوك أنظمة هذا المحور إزاء الكثير من القضايا الداخلية المرتبطة بالحريات، لكن ما أردت أن أكشف عنه في هذه العجالة هو زيف مفهوم الاعتدال الذي لم يخرج عن إطار التقارب مع إسرائيل.