وكأننا أمام رائعة جورج أورويل التي حملت عنوان "1984"، وهي تلك الرواية التي وثقت من خلال الفكشن حالة غير مسبوقة في التاريخ البشري من الاستبداد والرقابة الداخلية والتضليل والتشهير والتضييق، فالرواية المثيرة التي استهدفت النظام الشمولي الستاليني البائد تجري فصولها اليوم، لكن على أرض الواقع لتجسد حالة يرثى لها في إشاعة الخوف بين المواطنين.
ففي خطوة تنسجم مع البنية الفكرية للقائمين على وزارة الداخلية السعودية، حثت الوزارة المواطنين السعوديين والمقيمين بالإبلاغ عبر تطبيق خاص عما أسمته بجريمة المعلومات، فالسعودية لا تتساهل مع أي نقد داخلي للحكومة السعودية، والأمر لا يتوقف على التصدي للإرهاب أو لمن يحاولون زعزعة الاستقرار في السعودية لأن الأجهزة الأمنية هي الأقدر على القيام بذلك، إذ لا يعقل أن يقوم مواطن أو مقيم بالعمل نيابة عن الأجهزة الرسمية، غير أن الواقع يشير إلى حالة من التوجس لدى صنّاع القرار في الرياض خشية من اعتراض الشارع السعودي على تغييرات قادمة ربما تطال أعلى الهرم السياسي.
المسألة برمتها مرتبطة بمحاولات لإنهاء لعبة الصراع الخفي على السلطة، ففي دولة تغيب عنها الأطر الديمقراطية وتقبض على مقاليد الحكم جماعة محصورة جينيا يجري صراع خفي للاستئثار بالسلطة، وهذا يتطلب تغييب الشارع بالكامل. ويزداد الطين بلة عندما تخوض البلد معارك خارجية كثيرة بعضها غير قابل للحسم إلا في صفقات لا يمكن معها الادعاء بالنصر، لذلك المطلوب تدجين المواطنين وتنصيبهم مراقبين ومخبرين على بعضهم.
قبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عموما كان من السهل لدولة ما التصدي للمعارضة وقمعها من خلال القبضة الأمنية، وهذا واقع موثق في أغلب الدول البوليسية، غير أن الأمر أخذ اتجاها مختلفا مع انتشار «تويتر» كالنار في الهشيم، وأقبلت عليه المجتمعات الخليجية، ما خلق تحديا مختلفا لا يمكن السيطرة عليه بالطرق التقليدية، والآن من السهل على المعارضة السعودية أن تعمل في عالم افتراضي لا يمكن للسلطات السعودية أن تنال منهم وبخاصة الذين يقطنون خارج بلادهم.
هناك من المؤشرات ما يفيد بأن السعودية مقبلة على تغيرات كبيرة، والحديث هنا بالتحديد يتعلق بالخطوة الأخيرة المتبقية أمام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فالأخير يستعجل تنصيب نفسه ملكا على السعودية ويبدو أن والده لا يمانع، بل يبارك تلك الخطوة. والحق أن خطوة من هذا النوع كان من الممكن أن تكون طبيعية أو يمكن النظر إليها كشأن عائلي، بيد أن هناك أيضا ما يشير إلى حالة من سخط بين أفراد الأسرة الحاكمة وبخاصة مع ورود التقارير والتسريبات التي تفيد بأن المعارضة لولي العهد السعودي تزداد وتيرتها، ويخشى الأمير السعودي الطامح في السلطة ألا تتم الأمور بسلاسة تساعده على الظهور بمظهر الرجل الذي يحظى بإجماع داخل العائلة.
وكأن معارضة بعض أركان العائلة السعودية لا تكفي، فقد تصدى بعض الناشطين السعوديين لإطلاق دعوة للحراك ضد ولي العهد على وجه التحديد بعد أن تبين للقاصي والداني بأنه هو شخصيا من يدير دفة أمور الحكم في المملكة، فهي إذن ليست معارضة للحكم في السعودية وإنما لشخص بعينه.
في رواية جورج أورويل كرست الدولة كل إمكاناتها لحماية الأخ الأكبر من النقد، وفي سبيل ذلك لم تكتف الدولة من خلال وزارة الحقيقة بتزييف الواقع، بل مارست شتى أنواع الرقابة وجندت كل موظف ومواطن ممكن للتجسس على الآخر، وفي النهاية لم تنتصر هذه الدولة إلا على مواطنيها.