تغيرت ملامح العلاقة بين أنقرة وحكومة بغداد المركزية وأربيل عاصمة إقليم كردستان خلال العام الجاري، إثر الاستفتاء الذي أطلقه
الأكراد، وأثار جدلا كبير وتوترا في المنطقة، قبل أن تفشل حكومة الإقليم بالعمل بنتائجه.
وكانت العلاقات بين العواصم الثلاث مخالفة لما عليه اليوم، إذ كانت بين أنقرة وأربيل إيجابية على مدى السنوات القليلة الماضية، وكان يمكن الحديث عن علاقات شبه تحالفية بينهما.
في المقابل، كانت العلاقات متوترة بين أنقرة وبغداد، قبل عام من الآن، على هامش معركة الموصل، إذ ظهرت أزمة معسكر بعشيقة التركي، في شمال العراق، وكانت الحكومة العراقية تطالب بإخلائه وتعتبره قوات محتلة على الأراضي العراقية.
وكان رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني هو الداعي والضامن لبقاء هذه القوات التركية على الأراضي العراقية.
ولكن، أصبح الواقع اليوم بوضع معكوس تماما، والسبب هو الاستفتاء، وفق ما أفاد به الباحث في الشأن التركي سعيد الحاج، الذي أشار في حديثه لـ"
عربي21" إلى أن البارزاني أتى بالاستفتاء دون مشاورة لأصدقائه في المنطقة، أو حلفائه من الأتراك خصوصا، ما أثار غضب الحكومة بأنقرة من جهة، ومخاوف تخطي خطوط حمراء متعلقة بأمن القومي التركي من جهة أخرى.
ومن المعروف أن
تركيا ترفض نشوء أي كيان سياسي أو دويلة أو دولة على أساس عرقي، خوفا من أن تتفجر حالة من الفوضى والصراعات البينية والداخلية في المنطقة، إن كان ذلك في العراق أو في الجوار.
وبحسب الحاج، فإن إنشاء دويلة أو دولة على الحدود العراقية مع جيرانها جمع بين أنقرة وبغداد وطهران بعد سنوات على التنافس في الإقليم، إن كان ذلك على مستوى العلاقات التركية الإيرانية، أو حتى تضارب المصالح والمواقف والسياسات بين أنقرة وبغداد.
ولكن الحاج قال إن هذا لا يعني أن التحالفات تغيرت تماما، ولا يعني أن العلاقات بين المثلث التركي الإيراني العراقي ممثلا بحكومة
العبادي هي علاقة استراتيجية، أو تحالف استراتيجي.
وأوضح أن "تلاقي الفرقاء كان بسبب المهددات والمخاطر المشتركة أكثر من كونه تحالفا استراتيجيا، وذلك لوجود مخاوف لمست هواجس استراتيجية بالنسبة لتركيا وإيران بالنسبة للمشروع الكردي، واحتمال التفتيت والتشظي والتقسيم بالنسبة للحكومة المركزية في بغداد، وهذا ما جمعهم".
العلاقات بين أنقرة وأربيل.. هل تعود لسابق عهدها؟
ورأى الحاج أن "تركيا لم تذهب إلى نهاية الطريق تماما بعلاقاتها مع أربيل، من خلال إجراءات عقابية تجاهها، وذلك لأنها تريد أن تحتفظ بالعلاقة قدر الإمكان".
وتربط علاقات كانت توصف بالوثيقة بين أنقرة وأربيل، فهناك علاقات اقتصادية وسياسية، فالإقليم بإدارته السياسية الحالية البارزاني وتياره، هو الأقرب لتركيا من بين كل القوى الكردية في المنطقة، وهو المنافس والمواجه لحزب العمال الكردستاني، المصنف في تركيا إرهابيا".
ويقود حزب العمال الكردستاني حربا انفصالية ضد تركيا، وله معسكرات في جبال قنديل في شمال العراق، وأوضح الحاج أن العلاقة مع تيار البارزاني كانت ضمانة لعدم تنامي هذا الأمر.
والعلاقات الاقتصادية متنامية جدا بين أنقرة وإقليم كردستان، فتركيا هي الرئة التي يتنفس من خلالها الإقليم عبر التجارة البينية والتجارة البرية، وتصدير النفط والغاز الطبيعي، وعبر شركات الاستثمار التركية والشاحنات التي تمر عبر المعبر الحدودي خابور.
وشدد الحاج على أن "تركيا حريصة أكثر على ألا تنقطع تماما العلاقات مع البارزاني والإقليم، وعلى عدم تدمير البارزاني".
واعتبر أن تركيا كانت تريد الضغط على البارزاني من خلال التنسيق مع طهران وبغداد، ليعود عن مسار الاستفتاء، وتركت الباب مفتوحا للعلاقات مع أربيل، وتحدثت عن أن الوقت ليس متأخرا أبدا، وأنه يمكن فعلا التراجع عن مسار الاستفتاء وإلغاؤه والعودة إلى مسار التفاوض مع بغداد".
ورأى أن استقالة البارزاني تعد فرصة مهمة للعودة إلى نقطة البدء في العلاقات الثنائية بين أنقرة وأربيل، للعودة إلى ما قبل الاستفتاء، بغض النظر عن أن البارزاني يعد المسؤول عن الكارثة من وجهة نظر تركيا.
وأكد أن استقالة البارزاني وتنحيه عن قيادة الإقليم، شكل فرصة مع أنقرة، فغيابه الآن وظهور سلطات أخرى أو قيادات أخرى أو هيئات أخرى، يعطي مجالا لتصحيح مسار التفاوض بين أربيل وبغداد على العلاقة بين الحكومة المركزية والإقليم، والحقوق السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، وثانيا لإعادة مسار العلاقات بين تركيا وأربيل.
ولكنه ذهب إلى أن هذا الأمر لا يتوقع له أن يكون سريعا جدا، أو بوقت قريب جدا، لكنه عبر عن اعتقاده بأن الإمكانية موجودة والرغبة التركية موجودة، بعودة العلاقات، مشيرا إلى أن تركيا تعد حليفا سياسيا جيدا بالنسبة للإقليم.
العلاقات التركية مع بغداد
أما الكاتب والمحلل السياسي التركي، إسماعيل ياشا، فأكد لـ"
عربي21" أيضا ما ذهب إليه الحاج من أن علاقات أنقرة مع أربيل والبارزاني كانت جيدة للغاية، ولكن إصرار الأخير على إجراء الاستفتاء الشعبي على الانفصال وتجاهله لتحذيرات القيادة التركية، أدى إلى تدهور العلاقات كما أنه أدى إلى التقارب بين أنقرة وبغداد.
وحول إن كان التحسن المتوقع للعلاقة مع أربيل بعد فشل الانفصال، سيؤثر على العلاقة بين تركيا وبغداد، أوضح ياشا أن "علاقات تركيا وكردستان العراق مهما تحسنت، فإن أنقرة لن تتراجع عن تعزيز علاقتها مع بغداد، لأنها ترى تلك العلاقات ضمانا لإفشال مشروع تقسيم العراق".
وتوقع الكاتب التركي أن تستجيب تركيا لدعوة العبادي للمساعدة في الإعمار، وقال: "من المتوقع أن تساهم الشركات التركية في إعادة إعمار المناطق المدمرة في العراق، لأن تركيا لديها الخبرة الواسعة في مجال البناء".
وتوقع أيضا أن في تركيا ستشرع بعد حلفها مع بغداد، بضرب منظمة حزب العمال الكردستاني، في جبال قنديل، بالتنسيق الثلاثي التركي الإيراني العراقي.
العلاقة بين بغداد وأربيل
وبحسب الحاج، فإن بغداد ما تزال بحاجة إلى العلاقات مع الإقليم وقيادته السياسة بغض النظر عمن سيأتي خلفا للبارزاني، لا سيما في ملف معكسر بوعشيقة ومواجهة حزب العمال الكردستاني، الذي يعد أمرا استرتيجيا بالنسبة لتركيا، التي تحتاج إلى علاقات طيبة مع الإقليم وبغداد في مواجهة هذا الحزب.
ولفت إلى أن الحكومة المركزية في بغداد ما زالت تطالب بجلاء القوات التركية عنه، فالعلاقة مع قيادة الإقليم تشكل ضمانة كما كانت السنة الماضية لبقاء القوات التركية، حتى تحقق شروطا تفاوضية أفضل مع بغداد.
وأوضح: "أعتقد أنه من مصلحة بغداد كما مصلحة أربيل أن تعود العلاقات بينهم، ولكن ذلك يحتاج إلى إجراءات حسن ثقة، ومسارا معينا يحتاج إلى إرادة من إربيل، وتحديد مسار للتفاوض والعودة بشكل جدي إلى مرحلة ما قبل الاستفتاء، وهذا يتطلب ليس فقط تجميد الاستفتاء، ولكن إلغاءه تماما".