هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
انتهت أمس عمليات التصويت في انتخابات الرئاسة للسنوات الأربع
المقبلة، وجاري فرز الأصوات، وحتى هذه اللحظة لا يوجد أي مؤشرات رسمية، ولكنها
إشارات تأتي من بعض الصحف عن طريق مندوبيها في اللجان الفرعية، وبعضها أقرب
للدعايات السياسية لنشر أرقام نهائية كبيرة لعملية التصويت، لكن بشكل عام المؤشرات
العامة والتقريبية لها دلالاتها التي ينبغي دراساتها بعيدا عن الغضب أو
الاحتفالات، بعيدا عن الصخب، لأنها كاشفة أكثر من غيرها لحقيقة ما جرى، وللحالة
الوطنية المصرية الآن.
ومن
تلك المؤشرات هو الصعود الكبير لعدد الأصوات الباطلة في الانتخابات، وقد وصفها بعض
المحللين بأنها الأكبر في تاريخ الانتخابات المصرية، وهناك مؤشرات تقول أنها قد
تصل إلى مليونين أو ثلاثة ملايين صوت، هذا مثير جدا، ولا يمكن أن يكون عن طريق
الخطأ، لأن الاختيار بسيط للغاية، مجرد علامة تضعها في خانة واحد من اثنين، أحدهما
الرئيس الذي تملأ صوره كل ركن في ربوع مصر، فالخطأ هنا غير وارد، وبالتالي لنا أن
نفهم أن هذه الأصوات هي أصوات غضب انتخابي، ملايين المصريين تم الزج بهم من قبل
شركات أو رجال أعمال إلى اللجان تحت الضغط، كما انتشرت فيديوهات كثيرة توضح جانبا
آخر من هذه الصفحة المظلمة، حيث تعرض مدرسون بل وأساتذة جامعات، أي النخبة
التعليمية المصرية، لتهديدات صريحة بعواقب سلبية إداريا إذا لم يذهبوا للتصويت
ويأتوا بعلامة الحبر الفوسفوري على أياديهم، وهناك مئات الآلاف من الموظفين في
إدارات مختلفة كذلك، وهناك مئات الآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون في شركات
ومصانع لرجال أعمال تم إلزامهم بذلك تحت ضغط، وبطبيعة الحال، فإن هذه الملايين
كانت عازفة عن التصويت، ولما تعرضت لما تعرضت له ربما قامت بتصويت عقابي، بإبطال
أصواتها على ورقة التصويت، لضمان نجاتهم من العقوبة، ولمعاقبة من أكرهوهم على ما
لا يريدون، ولذلك ذهبت بعض الشركات إلى المطالبة بتصوير ورقة التصويت مع الحبر
الفسفوري على الأصبع.
هذه
الطريقة في الخلاص من الملاحقة أو الضغوط يقوم بها عادة المتعلمون وأبناء الطبقة
الوسطى، لأن وعيهم السياسي والتعليمي يسمح لهم بالمراوغة هنا، ولكن المؤكد أن هناك
ملايين من الأميين والبسطاء الذين خافوا من التهديد في أعمالهم أو من التهديدات
المتتالية التي حاصرهم بها إعلام الحكومة بتوقيع غرامة فورية خمسمائة جنيه إذا لم
يذهبوا وأحيانا التهديد بإلغاء البطاقة التموينية كما حدث في نداءات صدرت في بعض
مدن الدلتا، فهؤلاء جميعا ممن أرعبهم هذا التهديد في قوت أولادهم ذهبوا للخلاص
والإفلات من حرب تجويع منتظرة، وهؤلاء ـ نظرا للأمية السياسية والتعليمية ـ لا
يستوعبون مسألة المراوغة أمام الصندوق بإبطال صوته، هو ينفذ ما طلبوه منه أمام
اللجنة بالإشارة إلى خانة محددة، ويمكن توقع أن هؤلاء لا يقلون بحال من الأحوال عن
عدة ملايين أخرى.
يضاف
لما سبق ما نشرته صحف عالمية وقنوات فضائية كبيرة عن طريقة حشد الناس في بعض
الأماكن الشعبية، ووكالة رويترز نشرت تقارير تتحدث عن أرقام مالية محددة كانت توزع
وأكياس لمواد غذائية، وهو ليس بعيدا عن ما أعلنه مسئولون ومحافظون من دفع أموال
للجهات التي تحشد أكثر أو منح رحلات عمرة أو حتى توفير خدمات مياه الشرب للقرى
الأكثر تصويتا، وهذا كله لا يندرج تحت أي بند من بنود الانتخابات الحرة أو احترام
اختيارات الشعب.
أيضا،
هناك مفاجأة الأصوات التي حصل عليها المهندس موسى مصطفى، وهي مثيرة للدهشة أيضا،
وتوقعت تقديرات انتخابية بأنه قد يحصل على ما حوالي مليوني صوت انتخابي، والمؤكد
أيضا أن هذا تصويت عقابي، لأن المهندس موسى دخل الانتخابات في الدقائق الأخيرة
لتغطية سياسية واضحة، وهو بلا مشروع سياسي معروف وبلا تاريخ انتخابي، وبالتالي لا
يتوقع أحد أن ينتزع من رئيس الجمهورية مائة صوت وليس عدة ملايين، وبالتالي فلنا أن
نفهم هذه الأصوات باعتبارها ـ مثل الأصوات الباطلة ـ مجرد تصويت عقابي، لجأ إليه
البعض إما خشية تزوير صوته، وإما هربا من ضغط أو إكراه وظيفي من جهة عمله أو أي جهة
أخرى.
الملاحظة
الثالثة، أن نسبة التصويت في اليوم الثالث والأخير قد زادت بصورة ملحوظة عن اليوم
الأول والثاني، وذلك بشهادة أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي أنفسهم، وهو أمر غير
متصور عقلا ولا واقعا في أي انتخابات حرة، لأن البديهي أن المرشح يحشد قوته الأكبر
في اليوم الأول، ويستنزف أقصى طاقته فيها، وفي اليوم الثاني تخف المشاركة كثيرا،
وتكون محصورة في قلائل لم تسعفهم الظروف أن يدركوا اليوم الأول، وفي اليوم الثالث
يفترض أن اللجان تكون خاوية تماما، أما أن تكون الكثافة في اليوم الثالث والأخير
هي الأعلى فهذا ليس له إلا تفسير واحد لا صلة له بالانتخاب الحر أو الاختيار
المشروع، خاصة عندما تلاحظ التوتر الشديد في اليوم الثالث والنداءات المتكررة
للمواطنين بالتصويت والغضب البادي على تصريحات عدد من المسئولين والمحافظين
والنداءات التي استخدمت فيها مكبرات الصوت في المساجد والتهديدات التي وصلت إلى
مستوى اختلاق أخبار ونشرها عبر صحف ومواقع إخبارية موالية للحكومة لبث الرعب في
قلوب المواطنين الذين رفضوا المشاركة في التصويت، مثل الخصم من المعاش أو الراتب
أو سحب بطاقات التموين.
إذا
صحت التقديرات التي تشير إليها الصحف الحكومية بأن عدد المصوتين يقترب من ثلاثة
وعشرين مليونا، فإن منطق الواقع والحسابات السياسية لأسلوب إدارة وتوجيه عملية
التصويت ـ في ضوء ما جرى ورآه العالم كله ـ ربما تكشف عن أن نسبة القبول بالرئيسي
السيسي هذه المرة أقل من ذلك كثيرا، بل كثيرا جدا.
المؤكد،
بعيدا عن الصخب والضجيج ومحاولات التغطية على ما جرى، أن صورة ما حدث وصلت إلى
الرئيس بوضوح كاف، فقد نشرت مختلف الصحف العالمية والقنوات الفضائية عبر مراسليها
تقارير كاشفة لما جرى، وبعضها أسوأ مما ذكرته هنا، والمؤكد أيضا أن السيسي سيخرج
من هذه الانتخابات أقل قوة من انتخابات 2014، والأمل في أن يدرك الرئيس في فترته
الرئاسية الجديدة أن القبول الشعبي به تآكل بصورة خطيرة، وأن الرفض الشعبي
لسياساته تعاظم واتسع نطاقه، ولم يعد محصورا في الإخوان وأنصارهم، لا بد أن يستوعب
الرئيس أن حوالي أربعين مليون مواطن مصري له حق التصويت ـ من ستين مليون ـ أداروا
له ظهورهم رغم كل الإغراءات وكل ما جرى، أربعون مليون مصري لم يقتنعوا بنداءاته
للمشاركة، أربعون مليون مصري رفضوا القبول بالحديث المتكرر والممل عن تثبيت الدولة
للتهرب من التزامات معيشية وسياسية تلتزم بها أي سلطة في العالم أمام شعبها،
أربعون مليون مصري وجهوا له رسالة غضب صامتة ينبغي أن يحسن استقبالها، كما أن ما
جرى كشف عن أن وعي الشعب تطور بعد ثورة يناير ولم يعد من السهل أن تخدره الخطب
العاطفية والكلام المعسول والوعود المستقبلية الفضفاضة التي لا يعززها واقع ولا
منطق مقنع، ومن ثم فإن العقل السياسي يوجب عليه أن يجري مراجعة شاملة لسياساته في
السنوات الأربع السابقة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وإعلاميا، مصر بحاجة
إلى أفكار جديدة ورؤية جديدة، وصفحة جديدة تطوي الانقسام الوطني، وشراكة شعبية
حقيقية ترفع سيف الخوف عن الناس، وتعيد السيادة للشعب صاحب السيادة.
المصريون المصرية