هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عندما عاد القائد العسكري الليبي خليفة حفتر من رحلة علاجه المثيرة
في فرنسا، لوحظ أن أول ما توقف عنده واهتم كثيرا بالحديث عنه هو مسألة الانتخابات
الرئاسية والبرلمانية المقترح إنجازها في ليبيا برعاية أممية قبل نهاية هذا العام،
لإنهاء حالة الانقسام الوطني والضبابية المتعلقة بمستقبل ليبيا، والجنرال العائد
من رحلة موت عندما يهتم في أول ساعة من عودته لبلاده بهذه القضية فهذا يعني أنها
بالنسبة له هاجس كبير مقلق، وتحد خطير يثير توتره، وقد سخر حفتر في كلمته من
الانتخابات ووصفها بأنها "تمثيل" وهو استعارة لمصطلح القذافي الشهير
"التمثيل تدجيل" الذي كان يحتقر به الديمقراطية النيابية وفكرة
الانتخابات، لأنه كان يحكم ليبيا من خلال لجانه الأمنية المتشعبة التي كان يسميها
اللجان الثورية، كما قال حفتر في كلمته أن رهان ليبيا لا يمكن أن يكون على
"التمثيل" وإنما على الجيش لكي يحقق لليبيا كل ما تتمناه، حسب قوله، وهي
دعوة علنية لعسكرة ليبيا وفرض الحكم العسكري عليها بعد ثورة فبراير التي ضحى
الآلاف من شباب ليبيا بدمائهم وأرواحهم فيها من أجل وطن حر كريم.
لم
يمض أسبوع واحد على هجوم خليفة حفتر على الانتخابات حتى وقع أمس الهجوم الإرهابي
المروع على المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا، ومقرها الرئيس في العاصمة
طرابلس، حيث قتل قرابة خمسة عشر شخصا وأصيب آخرون في هجوم انتحاري، وقد أعلن بيان
منسوب إلى تنظيم داعش الإرهابي مسئوليته عن العملية، والمشكلة دائما لا تكون في
"الواجهة" أو الأداة وإنما في أصحاب التوجيه وأصحاب المصلحة
الاستراتيجية، لأنه سيكون من السخافة تصور أن داعش استهدف مفوضية الانتخابات
تحديدا بعد أيام من تهديدات حفتر، واعتبرها أولوية قصوى لعملياته الإجرامية بشكل
اعتباطي وعفوي وبريء، يستحيل الفصل بين الأمرين سياسيا وأمنيا.
عقب
التفجير الإرهابي بساعة واحدة، خرجت أصوات أعضاء مؤيدين لحفتر في برلمان طبرق بشرق
ليبيا يهاجمون مفوضية الانتخابات ويشككون في جدوى دورها ويتهمونها بعدم الحيادية
ويطعنون في سجلات الناخبين، ويطالبون بنقل مقر المفوضية من العاصمة طرابلس بحجة
أنها غير آمنة وأن بها ميليشيات، باعتبار أن من في بنغازي من ميليشيات تتصارع على
تهريب المخدرات والنفط هم جيش !، وكأن التفجير الإرهابي كان إشارة البدء في الهجوم
على مفوضية الانتخابات.
حفتر
وداعموه، يدركون أنه مكروه في عموم ليبيا، ولا رهان عليه إلا من بعض أبناء قبائل
الشرق وتجار المخدرات ومهربي النفط وبقايا كتائب القذافي، ممن يربطون مصالحهم
ومصيرهم بوجوده، وهو ينفق هناك بسخاء كبير، بفعل الدعم المفتوح من الإمارات، ماليا
وعسكريا، ولكنه عند الانتخابات يدرك أن فرصته ضعيفة للغاية، لأن كثيرا من الليبيين
يعتبرونه مجرم حرب، كما يدرك أن الانتخابات البرلمانية قد تفرز برلمانا حقيقيا
مختلفا عن الصيغة التي تلاعبت بها الإمارات من قبل وانتهت إلى برلمان
"طبرق"، وبالتالي يدرك حفتر أن الديمقراطية ستكون نهايته في ليبيا
ونهاية مشروعه، وأن الانتخابات ستكون بمثابة قرار طي صفحته وموت مشروعه السياسي
والعسكري الذي كان يأمل من خلاله في القفز على السلطة في انقلاب عسكري شامل، ويمسك
بقرار البلاد واقتصادها ومصيرها بقبضة أمنية وعسكرية من حديد.
هناك
إجماع دولي الآن على أن الحل في ليبيا لا يمكن أن يكون عسكريا، لأن في ليبيا الآن
جيشين في الواقع، جيش يرأسه حفتر في الشرق وجيش آخر يرأسه حكومة الوفاق المعترف
بها دوليا ومقرها العاصمة طرابلس ويسيطر على أغلب أراضي ليبيا، كما أن في ليبيا
العشرات من الكتائب المسلحة، لا يمكن أن تفككها عسكريا إلا بصراع دموي لسنوات
ستدفع ليبيا ثمنه الفادح من مقدراتها ودماء أبنائها ومن وجودها نفسه، لذلك لا أحد
في العالم الآن ـ باستثناء الإمارات ـ يراهن على الحل العسكري، والأمم المتحدة
تؤكد على الخيار السياسي وعلى الانتخابات، والولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك
المعسكران المتعارضان، إيطاليا وفرنسا، وحتى مصر، الكل اقتنع في النهاية أن الحل
في ليبيا حل سياسي وليس عسكريا، والحل السياسي لا سبيل له إلا الديمقراطية
والانتخابات الحرة والنزيهة واحترام الحكم المدني ورفض فكرة الاستيلاء على السلطة بقوة
السلاح، وهذا كله يمثل كابوسا أمام طموحات الجنرال خليفة حفتر، لذلك هو يعمل كل ما
في وسعه لإفشال هذا الحل، بافتعال معارك دموية في شرق ليبيا وجنوبها، أو بتفجيرات
في غربها والرهان على ما يسميه فريقه "الخلايا النائمة" في الغرب.
طريق
حفتر مسدود، وفي النهاية لن يكون أمامه ـ ولا أمام داعميه في الإمارات ـ سوى
الاستسلام لقرار المجتمع الدولي وقرار الشعب الليبي، هو يدرك ذلك جيدا، ولذلك يخوض
الآن معركة الأمتار الأخيرة لإفشال مسار الانتخابات والخيار الديمقراطي، ستكون هذه
الأمتار دموية بطبيعة الحال، ولكنه سيفشل في النهاية في إعاقة المستقبل المدني
الديمقراطي لليبيا الجديدة، ليبيا الحرة.
المصريون المصرية