هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نجحت الانتخابات البلدية التي شهدتها تونس أمس، والتي تعد الأولى بعد
إسقاط حكم الطاغية زين العابدين بن علي، في أولى جولات الربيع العربي، تونس التي
كانت رائدة في ربيع العرب تظل هي الرائدة أيضا في مسار الديمقراطية والتعددية التي
ولدها ذلك الربيع المبهر، وهي البلد الوحيد الذي نجا -إلى حد كبير- من المقصلة
التي نجحت فيها قوى الثورة المضادة في تدمير ثورات الربيع العربي وتحويل الواقع
فيها إلى كابوس دموي في أكثر من بلد، تونس نجت من ذلك المسار، بفضل حكمة قواها
المدنية والإسلامية، وأيضا بفضل الدرس الذي رأوه بأعينهم في مناطق أخرى عندما تخلت
القوى الوطنية عن اختيار التعايش والحوار والمشاركة.
ديمقراطية
تونس ضعيفة نسبيا، هذا صحيح، ونسبة الإقبال لم تكن ضخمة لكنها ليست سيئة، فهناك
حوالي مليون وثمانمائة ألف ناخب شاركوا من بين حوالي خمسة ملايين لهم حق التصويت
بنسبة تقترب من 34%، ولكنها في السياق العربي طفرة مهمة، مع الصبر عليها ستنمو
وتترسخ ثقافتها وممارساتها في البلاد، وقد حقق حزب النهضة ذي الأصول الإسلامية
نجاحا مهما في تلك الانتخابات، وخرج متصدرا لها بنسبة فوز حوالي 27% من عدد
المقاعد، ونجح في الحصول على رئاسة بلديات كبرى المدن التونسية بما فيها العاصمة
تونس، كما حل حزب نداء تونس، حزب رئيس الجمهورية، في المركز الثاني بحصوله على ما
يقارب 22% من عدد المقاعد، وباقي المقاعد توزعت على عدد كبير من الأحزاب والقوى
المختلفة والمستقلين.
نجاح
حزب النهضة يأتي تتويجا لجهوده الشعبية الصبورة طوال السنوات الماضية، وخطته
للانفتاح على التيارات المختلفة بما يجعله يخرج من عباءة "الجماعات"
الدينية، وعباءة الإخوان تحديدا، ليكون أشبه بجبهة سياسية وطنية واسعة تحوي في
طياتها تنوعا فكريا وأيديولوجيا، لذلك دفع بعدد كبير من المرشحين والمرشحات من
العلمانيين، ولكنهم غير معادين للمتدينين، وهي التجربة التي أثمرت عن نجاح أول
سيدة تونسية في رئاسة بلدية العاصمة في أول تجربة ديمقراطية على مستوى البلديات،
وهي سيدة علمانية وغير محجبة ولا تنتمي إلى التيار الإسلامي بأي وجه، ولكنها شخصية
سياسية جادة ولها تاريخ نضالي جيد ولا تشوب سيرتها أي شبهات فساد، وكان من أهم
شعاراتها الانتخابية أن إدارة البلديات ستكون بالتوافق أيا كان الفائز، وبدون شك
فإن نجاح السيدة سعاد عبد الرحيم يمثل نجاحا سياسيا وإعلاميا كبيرا لحزب النهضة.
كالعادة
في أي انتخابات ديمقراطية في العالم العربي، على قلتها، حققت الأحزاب اليسارية
والليبرالية المتطرفة حضورا ضعيفا، وأتت بعد النهضة والنداء بمسافة بعيدة جدا،
وأقل مما حققته حتى القوى المستقلة، وهو الدرس الذي لا تريد أحزاب اليسار العربي
استيعابه أو التسليم به، وهو أن الجدل البيزنطي في قضايا الحداثة والاستنارة
والخصومة المفتعلة مع الفكر الديني ورموزه، تصلح في نوادي ثقافية أو ربما قاعات
درس أكاديمي، لكنها لا تصلح في العمل السياسي المنفتح على شعب بكامله، حضارته
وثقافته وقيمه ولغته ومقدساته، كلها تنتمي إلى الإسلام، وبالتالي فأي معركة سياسية
تمتطي جواد المواجهة مع هذا "الإرث" الشعبي مصيرها الفشل حتما، ولو أن
قوى اليسار ركزت جهودها على "دنيا الناس" وقضايا الاقتصاد والعدالة وخطط
معالجة الفقر وضمانات الحريات العامة وكرامة الوطن والمواطن، لنجحت وحققت طفرات
كثيرة، وهو ما نجح فيه اليسار الأوربي قبل ذلك، عندما نفض عن نفسه ميراث النخبوية
المتعالية على الواقع والتنظير الإيديولوجي المتكلس فحقق طفرات وحصد غالبية ووصل
إلى قيادة أكثر من دولة كبيرة.
غير
أن الدرس الأهم في انتخابات تونس هو للإسلاميين في كل مكان، فكلما كان التيار
الإسلامي أو المحافظ أكثر انفتاحا على المجتمع والحياة السياسية، وأكثر إخلاصا في
التعاون والعمل الجبهوي، كلما نجح وتفوق وحافظ على حظوظه المتقدمة في أي سباق
ديمقراطي، وكلما كان ذلك التيار منغلقا على نفسه وعلى أتباعه وعلى أفكاره وعلى
مصالحه وربما أطماعه، كلما خسر وانحسر نفوذه وتراجعت حظوظه السياسية وربما دخل في
صدامات مروعة، لن يجد فيها أي ظهر ولا نصير، بعد أن باع الكل وأعطى ظهره للجميع
أيام الغرور السياسي.
مبروك
لتونس وشعبها نجاح الانتخابات البلدية، ومبروك لحزب النهضة نجاحه السياسي المبهر،
ومبروك للسيدة سعاد عبد الرحيم توليها رئاسة بلدية عاصمة الربيع العربي.
المصريون المصرية