مفهوم النخبة مفهوم غير ثابت المضمون والمكونات. إنه محكوم بسياق الزمن والمكان هنا أو هناك. ولذلك، فإن الحديث فيه إنما يحيل على إشكالية توزيع المصادر المادية والامتيازات اللامادية، وفق زاويتين أساسيتين اثنتين:
الأولى: وتحدد مفهوم النخبة قياسا إلى اعتبارات الانتماء بالولادة أو بالسلالة، ثم بالوراثة التلقائية المترتبة عن ذلك، لثلاثية الثروة والسلطة والجاه، أو على الأقل لفرع من فروعها، يعطي "الطبقة" إياها تميزا ماديا أو رمزيا ما، قياسا إلى ما سواها من "طبقات".
أما الثانية: فتتأسس، على النقيض من الأولى، على الفرد وعلى الاجتهاد الفردي، من كفاءة ومثابرة وإلحاح في إدراك مقومات الثلاثية المذكورة أو بعضها، عوض الارتكان إلى الميراث المتأتي من النسب، أو الثروة الآتية من السلالة، أو الجاه المبني على الانتماء أو ما سوى ذلك.
وعليه، فإن للمفهوم مضمونا سلبيا واضحا، يقيس النخبة بالبناء على اعتبارات اجتماعية تنتج أو تعيد إنتاج الثلاثية المذكورة أعلاه. وله بالآن نفسه مضمون إيجابي جلي، بحكم انبنائه على عنصر القدرة والكفاءة والجهد والإلحاح لضمان النجاح، ثم تبوؤ الصدارة، ثم ولوج "عالم النخبة"، كمحطة نهائية لهذه الصيرورة.
نحن هنا إذن بإزاء تصورين اثنين لمفهوم النخبة: تصور يجعل من النخبة "معطى طبيعيا"، تتنقل بمقتضاه المغانم المادية والرمزية بين السلالة الواحدة، وتصور يعدها نتاج بناء اجتماعي، للفرد بصلبه إمكانيات ولوج عالم "الصفوة" بجهده وكفاءته ومثابرته. ومع ذلك، فإن الشائع في الأدبيات أنه بصرف النظر عن التمييز السابق، فإن الذي يجمع مكونات النخبة إنما عنصران اثنان: عنصر القوة "الطبيعي" النابع من التحكم في روافد الثلاثية المذكورة، وعنصر الهيمنة أو التطلع للهيمنة الذي يترتب عن ذلك بديهيا ومن باب تحصيل الحاصل.
تبدو هذه الأبعاد مستقلة في مساراتها وتموجاتها، لكنها غالبا ما تأخذ من السلطة محورا لها، فتتمظهر (الأبعاد أقصد) في المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية، لتطال الأبعاد الأخرى للهيمنة، أعني البعد الثقافي والتربوي والإعلامي وما سواها.
وعليه، فالنخبة لا تبقى هنا لحمة واحدة موحدة، بل تتحول إلى "مكونات نخبوية"، وفق جهة الانتماء التي ينشدها هذا الفصيل من النخبة أو ذاك (نخبة رجال الأعمال، نخبة الموظفين، نخبة المحامين، نخبة المثقفين... وهكذا). بالتالي، لا يبقى مفهوم النخبة حكرا على رجال السياسة، كما الحال بالقائم من اعتقادات (ومن ممارسات فعلية أيضا)، بل يتعداه إلى مجالات يحتكم أصحابها أو الفاعلون بها، على مصادر أخرى في السلطة أو في الثروة أو في الجاه، أو فيها معا بهذا الشكل أو ذاك.
إنها نخب "مستقلة" في مظهرها وإلى حد بعيد، لكل منها مواردها ومصادر قوتها ورمزيتها، لكنها تنتظم في علاقات ارتباط وترابط وتبعية أيضا، وفق طبيعة العلاقات المنسوجة، ومواقع كل واحد منها، أيضا وفق ما ينسجونه من روابط وحميمية بينهم، بالنوادي أو بالحفلات أو باللقاءات العائلية، أو بالمصالح التي يتبادلونها كل وفق موقعه الخاص.
للمسألة إذن بعدان أساسيان: بعد عام يستوجب من أي فصيل في النخبة أن يكون له موقع تراتبي ضمن الهرم العام، وبعد خاص يفترض في أي فرد أن يبلغ مستوى محددا، حتى يضمن الاعتراف به من لدن النخبة الفئوية التي ينتمي إليها، ثم من لدن النخبة الناظمة لكل ذلك.
إن الغرض مما سبق من حديث ليس التساؤل في مفهوم النخبة بالوطن العربي، أو النظر في مدى ملاءمة هذا المفهوم "لعلياء القوم" من بين ظهرانينا. ليس هذا هو الغرض.. الغرض إنما إبداء ملاحظتين اثنتين، حول ماهية وسلوك هذه "الطبقة"، ومدى تجاوبها مع مفهوم يسري عليها حتى وإن كان منشؤه بعيدا عنها، وتربته الأصل غير تربتها:
الملاحظة العامة الأولى: لا تتوفر لدينا معطيات تاريخية مدققة، من شأنها إثبات وتطويع مفهوم النخبة، لقراءة حركية وتموجات ثلاثية الثروة والسلطة والجاه بالوطن العربي. صحيح أنه كان دائما ثمة أفراد وجماعات يحتكمون ويتحكمون في عناصر ذات الثلاثية بهذا الشكل أو ذاك، لكنهم كانوا محددين وعلاقاتهم محدودة، وأدوارهم غير ذات قيمة تذكر، أعني غير كافية للخلوص إلى توظيف مفهوم النخبة، بمعناه السوسيولوجي الدقيق، لتحليل سياق نشأتها وتشكل بنيتها وطبيعتها.
وصحيح أيضا أن الإرث والنسب كانا عنصرين جوهريان في تحديد جهة انتماء هذا المكون من النخبة أو ذاك (ملاك أراض، أو تجار كبار أو موظفي بلاط... إلخ)، لكن هؤلاء (أعني الملاك والتجار وموظفي السلطان) لم يكونوا يتوفرون على اللحمة التي تجمعهم، أو تشد من عضد أعضائهم، أو تمنحهم ميزة ما، على الأقل بوجه ما يتوفر عليه المستوى السياسي من ميراث وجلد وقوة.
معنى هذا أنه ليس ثمة ما يؤشر على ترابط رجال السياسة أو المال أو الأعمال أو الثقافة أو الفن، اللهم إلا بعضا من علاقات الدم والمصاهرة والقربى، وروابط المصالح التي لا تعمر طويلا، أو هي متقلبة تقلب السياسة والتحالفات الانتهازية التي لا تؤسس للقاعدة.
فرجل السياسة لا يلجأ لرجال الأعمال وأصحاب المال إلا حينما تشتد حاجته إليهم... في فترة الانتخابات تحديدا، حيث لسلطة المال قوة البث والحسم في مصير هذا المترشح أو ذاك. ورجل المال كما صاحب الأعمال، لا يلجأ لرجل السياسة إلا عندما يحتاج لاستصدار تشريع يمنحه امتيازا ما، أو يعفيه من إكراه ضاغط، أو يتستر على ممارساته وسلوكياته بالسوق.
لذلك، نلاحظ أن التوظيف غالبا يكون متبادلا، لا بل و"مشروعا" بأكثر من زاوية، يقول البعض. ولتعضيده أكثر، يلجأ هؤلاء وأولئك إلى نسج علاقات مصاهرة وتزاوج، غالبا تتم المراهنة عليها لتعظيم الفرص وتقليص الإكراهات... فيصبح "للنخبة" والحالة هكذا رابطة دم قوية، هي بمثابة صمام أمن وأمان بالحقل السياسي، كما بمجال المال والأعمال على حد سواء.
الملاحظة الثانية: إذا كان الأصل في اعتماد مفهوم النخبة بالوطن العربي هو الإرث والنسب، المفضيين حتما لتراكم الثروة وبلوغ مستويات النفوذ، فإن مكون الكفاءة والمثابرة والاجتهاد غالبا لم يقس عليه كثيرا، أو يتم الاعتداد به للخلوص إلى نتائج يمكن البناء أو التأسيس عليها.
إن نظام الزبونية والمحسوبية، وسيادة ثقافة الإرضاء، السائدتين على أساس من الانتماء السياسي أو القبلي أو الإثني أو اللغوي أو ما سواها، هي التي فسحت ولا تزال تفسح في المجال لهذا الشخص أو ذاك، لإدراك مراتب في الاغتناء السريع، ذي الطابع الريعي الصرف في العديد من الحالات، بدهاليز المؤسسات العمومية (تعيينات وتعويضات جزافية خيالية ورشى من كل الجهات)، كما بامتيازات الرخص (في النقل الطرقي بالبر، وفي البواخر بأعالي البحار، وبمقالع المعادن النفيسة)، كما بالعطايا العينية، كما بالتفويضات، كما بغض الطرف عمن تؤول إليه كبريات الصفقات العمومية، الراهنة لاقتصاد البلاد، والمرتهنة لمعاش الأفراد والجماعات على حد سواء.
إن الذين ولجوا "مجال النخبة" من هذا الفصيل (ولم تكن لهم سلالة ما معها، أو نسب قديم يشفع لها، أو علاقة دم، حتى وإن كانت مستجدة، مع "النخب/الأصل")، إن هؤلاء لم يستمروا من بين ظهراني المجال إياه كثيرا، ولا امتلكوا القابلية للاستمرار، بحكم تعذر التأقلم من لدنهم، أو تقوي منسوب المنافسة بمحيط نفس المجال. أما الذين استمروا به بهذا الشكل أو ذاك، فلكونهم استسلموا له، ثم انصاعوا وانبطحوا، واكتفوا بالدرجات الدنيا داخل المجال إياه، أعني اكتفوا بمرتبة "النخبة" داخل النخبة، أو لنقل بصيغة صريحة، اكتفوا بمرتبة النخبة من الدرجة الثانية.
إنها عناصر دخيلة على "النخبة/الأصل" (النخبة بالنسب، أو بالإرث والجاه الموروثين). قد يخترقون المجال الذي تشتغل به هذه النخبة، لكنهم لا يستطيعون أن يعيشوا طقوسها، أو يماشوا ثقافتها، أو يتماهوا في سلوكهم مع سلوكها. إنهم يتماهون معها مظهرا، فينهلون جميعا من التسلط والجبروت والدوس على القانون، لكنهم لا يقاسمونها، على مستوى الجوهر، لا يقاسمونها الثقافة والقيم، أو يشاركونها الطقوس الحميمية التي لا يرتاد جمعها إلا "المتأصلون"... أعني المؤتمنين على حاضر النخبة/الأصل ومستقبلها.