هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وصول فرنسا وكرواتيا إلى نهائي كأس العالم، وخروج حامل اللقب ألمانيا من الدور الأول ثم الأرجنتين في الدور الثاني، رفقة البرتغال وإسبانيا، وبعد ذلك البرازيل في ربع النهائي، وبلوغ بلجيكا وإنكلترا نصف نهائي المونديال، جعل البعض يطلق عليه تسمية "كأس بقية العالم" الذي فشل فيه الكبار، عندما غابوا عن المربع الأخير.
جعل الأمر الكثير من المتتبعين يتحدثون عن خارطة كروية عالمية جديدة ويتحدثون عن تفوق الواقعية واللعب الجماعي على النجومية والإبداع والمهارة الفردية التي يجسدها ميسي، ورونالدو، ونيمار، الذين كان خروجهم تباعا منطقيا ومستحقا.
من جهتها، كانت المنتخبات التي وصلت المربع الأخير في روسيا كلها تستحق الوصول للنهائي والتتويج باللقب، لأنها ببساطة كانت الأفضل والأحسن، بجيل جديد من اللاعبين الشبان المبدعين الذين يتحلون بروح معنوية عالية ولياقة بدنية مشهودة، وبثقافة تكتيكية صنعها مدربون من الجيل الجديد، تحلوا بالكثير من النضج والجرأة.
واستند هؤلاء المدربون إلى منظومات دفاعية قوية وتقوية الروح الجماعية لمنتخباتها، بعيدا عن تأثيرات النجم الأوحد الذي لم يعد بمقدوره وحده صناعة الفارق، مثلما كان الحال في عهد بيليه، ومارادونا، وزيدان، مع منتخباتهم، وميسي ورونالدو ونيمار مع نواديهم.
وصول فرنسا وكرواتيا للمباراة النهائية لم يعد مفاجأة للمتتبعين، بل كان تتويجا لصاحبي النفس الطويل والروح العالية، ولأهل التنظيم التكتيكي الأفضل في هذا المونديال، وتتويجا للواقعية والفعالية والمنظومة الدفاعية اللائقة التي صارت من مقومات الكرة الحديثة.
أما خروج بلجيكا وإنكلترا، فلم يكن بمثابة خسارة بقدر ما كان إنجازا كبيرا لهما، يعكس تحولات كبيرة ستعرفها كرة القدم العالمية لاحقا، من خلال انتفاضة بقية منتخبات العالم على عالم الكبار، في لعبة لم يعد التألق فيها حكرا على البرازيل الأرجنتين وألمانيا وفرنسا، ولا على النجوم الكبار الذي ظهر العجز عليهم في هذا المونديال!
فرنسا أطاحت ببلجيكا، وتأهلت بجدارة إلى النهائي للمرة الثالثة في التاريخ، بفضل تنظيمها الدفاعي الرائع وتحكمها في التفاصيل والجزئيات، وكذا التركيز العالي للاعبيها الذين ضمت تشكيلتهم الأساسية ستة لاعبين من الذين وصلوا منذ سنتين إلى نهائي اليورو.
وكان من الطبيعي أن يكرروا الإنجاز مع المدرب نفسه، الفائز كلاعب بكأس العالم، وبطولة كأس أمم أوروبا 1998 و2000.
وها هي فرنسا بجيل جديد تؤكد بأنها من أفضل مدارس التكوين في العالم، وبأن الجانب التكتيكي الذي يستند على منظومة دفاعية قوية هو العامل الأساسي الذي يصنع الفارق في نهاية المطاف.
كرواتيا من جهتها أبدعت وأبهرت المتابعين في روسيا، منذ مباريات الدور الأول التي قهرت فيه رفقاء ميسي بالثلاثة، بفضل جيل جديد يلعب في أحسن النوادي الأوروبية، حقق أفضل نتيجة له في تاريخ البلد الفتي الذي سبق له نيل المركز الثالث في مونديال فرنسا منذ عشرين عاما.
من مباراة لأخرى ازداد المتتبعون يقينا بأن كرواتيا ستفوز بكأس العالم، لأنها قدمت أحسن أداء في هذا المونديال من دون منازع، فكان بلوغ الدور النهائي تحصيل حاصل، وسيكون التتويج باللقب العالمي أمام فرنسا نتيجة منطقية ومستحقة، وتتويج تاريخي سيقلب موازين القوى، ويمهد لزمن كروي آخر، وتوازنات جديدة على الصعيد الأوروبي والعالمي..
وصول كرواتيا وفرنسا إلى النهائي لم يكن مفاجأة بقدر ما كان استحقاقا منطقيا، وخروج بطلة العالم مبكرا ثم بطل أوروبا البرتغال وبعدهما إسبانيا والأرجنتين والبرازيل، كلها نتائج لم تكن مفاجئة بالنظر لأدائهم المتواضع، في وقت كانت نتائج وأداء المنتخب الروسي بمثابة المفاجأة الوحيدة في هذا المونديال، بفضل تنظيمهم الرائع، وروحهم العالية، ونسقهم العالي في الأداء.
روسيا كانت المفاجأة الوحيدة فنيا، وصنعت المفاجأة في احتضان وتنظيم المونديال بامتياز كبير حطموا إثره تلك الصورة النمطية التي رسخها الغرب بشأن روسيا لعقود من الزمن، قبل أن نكتشف بلدا آخر ونمطا متطورا ومتفتحا على الحداثة، ونكتشف شعبا متحضرا تخلص بدوره من تلك العقدة التي كانت تلازمه.
روسيا رفعت التحدي ورفعت سقف مستوى التنظيم عاليا لمن سيأتي بعدها، حتى الهاجس الأمني تبدد كلية مع مرور الأيام مثلما تبددت كل المخاوف التي كانت تلازم البعض من أن روسيا ستفشل في إنجاح الحفل.
أما عن النهائي الكروي بين كرواتيا وفرنسا، فسيكون عرسا آخر تتجسد فيه السيطرة الأوروبية على نظيرتها في أمريكا الجنوبية، ويكرس تفوق الواقعية في الأداء كفلسفة جديدة في عالم الكرة، عالم لن يكون مستقبلا كما كان إنما امتداد لتحولات عديدة يشهدها العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
كرة القدم التي يسمونها المستديرة لا تثبت على وجه واحد.
(عن صحيفة القدس العربي)