هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يخطئ من لا يرى في التقارب الروسي الصيني أنه مقدمة لتغيير شكل النظام العالمي من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب، فالصينيون ينازعون الأميركيين القوة الاقتصادية والأرقام لا تكذب، أما روسيا فتنازع الأميركيين قوتها العسكرية، فعودة النفوذ الروسي إلى مناطق عديدة كان قد فقدها بعد انهيار سلفه الاتحاد السوفييتي أصدق دليل على ذلك، وسيقتصر المقال على بعض المظاهر الإستراتيجية والدبلوماسية الروسية، والتي تدل على تغير قواعد اللعبة الدولية، كمقدمة لتغير النظام الدولي.
فروسيا القويّة نشطت سياساتها الخارجية في السنوات الأخيرة، فعلى المستوى الاستراتيجي انخرطت روسيا أكثر وأكثر في شؤون العالم، وزاحمت أميركا في مناطق عديدة، ففي أوروبا الشرقية ضمّت روسيا شبة جزيرة القرم عام 2014، واستقطعتها من أوكرانيا، بعد أن دخلت الأخيرة في الاتحاد الأوروبي.
وفي الشرق الأوسط دعمت روسيا حلفاءها إيران وسوريا دعماً مباشراً، فبعد أن شارف النظام السوري على السقوط على أيدي الثوّار، وفشلت الجهود الإيرانية في الدفاع عنه دخلت روسيا بكل قوتها عام 2015 لتقلب الكفّة لصالح حلفائها، غير مبالية بالجرائم الإنسانية التي يقوم بها الأسد.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، أصبحت روسيا في عهد بوتن مزاراً دبلوماسياً لحلفاء أميركا، فالخليجيون -ودون استثناء- يزورونها ويوقعون معها العقود التجارية الضخمة، حتى تركيا العضو في حلف الناتو الغربي، وبسبب السياسات الأميركية العدائية ضدها، وتعطيلها المتعمد عقود التسلّح التركي، قامت مؤخراً بطلب شراء الأسلحة الروسية، وعلى عكس الأميركان وافق الروس على بيع آخر التكنولوجيا العسكرية المتمثلة بصواريخ أرض جو الدفاعية «S 400»، مما أوقع الأميركيين في حرج كبير، فالجمع بين الأسلحة الروسية والأميركية وتشغيلهما معاً ربما يفشي أسراراً عسكرية مهمة.
حتى إسرائيل -الحليف الأميركي الرئيسي لها في العالم والشرق الأوسط- يبدو أن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أصبح من زوّار موسكو الدائمين، فإسرائيل لا تستطيع تحقيق أمنها دون التنسيق مع روسيا، التي أصبحت معنية بأمن المنطقة.
ولم تقتصر الدبلوماسية الروسية على هذه الملفات، بل ظهرت روسيا في المشهد الليبي المعقد بعد سنوات من الإطاحة بنظام القذافي، المقرّب من روسيا سابقاً.
والمفاجأة الدبلوماسية الروسية غير المتوقعة هي إعلان عقد مفاوضات للسلام حول مستقبل أفغانستان، في موسكو يوم 4 سبتمبر الحالي، بحضور زعماء من حركة طالبان العدو القديم للروس، بالرغم من إعلان الحكومة الأفغانية المنقسمة على نفسها، والموالية لأميركا، عدم حضورها، إلا أن الحدث يعتبر مكسباً كبيراً للروس، فها هو عدوها القديم «الجهاد الافغاني» لا يمانع من الحضور لموسكو، ويرفض في الوقت نفسه التفاوض مع الأميركان، أو حتى مع الحكومة الأفغانية، التي يعتبرها ممثلة للاحتلال، وليس للشعب الأفغاني!!
ختاماً
ربما هناك من يتفق مع ما كتبه ديفيد إغناتيوس في «الواشنطن بوست» مؤخراً لتبرير التراجع الأميركي في أقاليم متعددة في العالم لصالح قوى أخرى، بأن الولايات المتحدة يجب أن لا تقلق من الأدوار التي تقوم بها بعض الدول الكبرى في العالم، فهي لا تعني تقهقر النفوذ الأميركي، بل هي من قبيل الإدارة اللامركزية للعالم، فالقائد الإداري الناجح لا يقوم بكل شيء، بل يوزّع المهام على الموظفين، أو لنقل على اللاعبين في الساحة الدولية، المهم أن لا تتعرض المصالح الأميركية للخطر، بالإضافة إلى الحقيقة القائلة بأن أميركا أحياناً لا تحسن القيام ببعض الأمور، مثل ما تستطيع فعلها بعض القوى الأخرى.
ربما يخطئ إغناتيوس، ومعه بعض الأميركيين، في تقدير التدخلات الروسية في مناطق عديدة بالعالم، باعتبارها توريطاً لروسيا وغيرها في الشؤون الدولية، وليس سحبا للبساط من تحت أقدام أميركا، ونتيجة تلك التقديرات الأميركية أصبح مصير حلفاء أميركا، كبعض العرب وإسرائيل، بيد روسيا التي تتحكم بخيوط اللعبة، عن طريق إيران وسوريا، بصورة مباشرة، والعراق ولبنان بصورة غير مباشرة.
الخلاصة: العالم لا يتغير فجأة، بل يتدرج في ذلك، الإمبراطوريات الاستعمارية، عندما عجزت عن القيام بكل مهامها ورثتها القوى الفتية، وأميركا أصابتها الشيخوخة، والعجز عن القيام بكل شيء للحفاظ على كل شيء، مما سيحوّل العالم إلى متعدد الأقطاب، تزاحمها فيه روسيا القوية، والصين الفتيّة.
عن العرب القطرية