قولا واحدا.. من حق
الأقباط أداء شعائرهم الدينية بشكل طبيعي، ومن حقهم بناء الكنائس اللازمة لأداء هذه الشعائر بشكل طبيعي، كما هو حق المسلمين تماما في أداء شعائرهم وبناء مساجدهم. وليس مقبولا أن يكون قرار الحكومة
المصرية يوم الخميس الماضي بتقنين أوضاع 120 كنيسة ومبنى بني بدون تراخيص رسمية؛ هو مجرد منحة أو ترضية للأقباط، بل إن هذا القرار ورغم أن ظاهره تنفيذ استحقاق دستوري وقانوني، إلا أنه تكريس لصيغة قديمة وضعها النظام العسكري منذ الخمسينيات؛ لا علاقة لها بالدولة المدنية ولا بالدستور والقانون، ولكنها
صيغة تحقق مكاسب متبادلة لكل من السلطة العسكرية الحاكمة (بلا شرعية شعبية) والسلطة الكنسية المتصرفة في الشأن القبطي؛ بلا مشاركة مدنية.
هذه الصيغة التي يتم تقنينها في تشريعات مثل ذاك القانون الخاص ببناء وترميم الكنائس الذي صدر في العام 2016، تستند بالأساس لفكرة "الملة" وليس إلى فكرة "الدولة"، والنظام الملي هو نظام كانت قد وضعته الدولة العثمانية للتعامل مع الأقليات غير المسلمة في البلاد التابعة لها، ومن بينها مصر، وبموجبه يتم تشكيل مجلس ملي لكل طائفة يدير شؤونها ويمثلها أمام الدولة، وقد حدد ذلك النظام الملي، عبر ما يسمى بالخط الهمايوني، شروط بناء الكنائس وترميمها، وهي شروط كانت تمثل تطورا في زمانها، لكنها لم تعد تصلح للاستمرار في دولة القانون والمواطنة التي نسعى إليها جميعا.
رغم أن الكثير من الأصوات المسيحية هاجمت تلك الشروط التي تضمنها الخط الهمايوني، والتي جرى إدراجها وتعديلها في تشريعات مصرية متعاقبة بعد ذلك، إلا أن قيادة الكنيسة ظلت حريصة على استمرار تلك الصيغة مع تحسينها في تعاملها مع السلطة في مصر، لسبب بسيط وهي أنها تمنحها حقا حصريا في تمثيل الأقباط أمام الدولة، دونما مشاركة للمجتمع المدني القبطي، ودونما مشاركة من المسيحيين الأفراد المنضمين لأحزاب أو نقابات أو اتحادات.. إلخ.
حتى النظام الملي في صورته التقليدية القديمة التي كانت تمنح المدنيين الأقباط مساحة في إدارة الشؤون المالية والإدارية للكنيسة ونقل مطالبهم للدولة؛ تم العصف به من قبل قيادة الكنيسة في نهايات عصر البابا شنودة، وتحديدا منذ عام 2011، حيث تم تجميد المجلس منذ ذلك التاريخ، لتنفرد القيادة الكنسية بالقرار كاملا في الشؤون الدينية والدنيوية للأقباط.
قبيل ثورة يناير بسنوات قليلة، تصاعدت مطالب بضرورة إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة؛ يضع قواعد واضحة لبناء المساجد والكنائس، وينهي تلك الأوضاع التاريخية للنظام الملي ولشروط الخط الهمايوني. وعقب نجاح ثورة يناير في تغيير رأس النظام وفتح باب الحرية، عادت هذه المطالب مجددا لتلقى تجاوبا من الرموز الإسلامية أيضا، واحتضن المجلس القومي لحقوق الإنسان في أيار/ مايو 2011 حوارا وطنيا حول هذا القانون الموحد، وكادت الحوارات تنتهي بنجاح لولا تدخل القيادة الكنسية برفض الفكرة عقب اجتماع ضم قادة الكنائس الثلاث (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية) منتصف حزيران/ يونيو 2011.
كان موقف القيادة الكنسية صادما، خاصة أن البابا الراحل شنودة الثالث طلب من رئيس الوزراء عصام شرف إلغاء بعض البنود، المتعلقة بإخضاع الكنائس والأديرة لإشراف هيئة الأوقاف، ومنح جهاز المحاسبات سلطة مراجعة أموالها والرقابة عليها، وإعطاء الحق للدولة (ممثلة في وزارة التضامن) في تعيين مجالس إداراتها، مثل المساجد. وقد استجاب شرف لتلك المطالب، كما أن أي نصوص أخرى كان من الممكن الحوار حولها، لكن القيادات الكنسية رفضت المشروع؛ لسبب بسيط وهو أنه يفقدها سلطتها الشاملة على الكنائس وأموالها وكل شؤونها.
وكبديل للقانون الموحد الذي كان سيمثل نقلة كبرى تجسيدا لمثل ومبادئ المواطنة الحقة والدولة المدنية الحديثة عقب ثورة يناير فقد عمدت السلطة الحاكمة بعد إنقلاب الثالث من يوليو 2013 والقيادة الكنسية إلى إصدار قانون جديد يستجيب لبعض المطالب ولكنه يكرس الحالة الطائفية، والأهم أنه يكرس سلطة القيادة الكنسية في إدارة الشأن القبطي وتمثيل الأقباط أمام الدولة.
موافقة الحكومة على تقنين أوضاع 120 كنيسة، وارتفاع عدد الكنائس التي وفقت أوضاعها إلى 340 كنيسة عقب صدور ذاك القانون قبل سنتين؛ لن يحل المشكلة، فالقانون لا زال يتعامل مع الأقباط باعتبارهم مجرد طائفة، وليس باعتبارهم جزءا طبيعي من الشعب المصري. وقد شكلت الحكومة بمقتضى هذا القانون لجنة لتوفيق الأوضاع؛ غلب عليها الطابع الأمني والعسكري، بحضور ممثلين للمخابرات العامة والأمن الوطني ووزارة الدفاع والرقابة الإدارية، وهو ما يبقي الأوضاع القديمة كما هي، عبر تحكم الأجهزة الأمنية في القرار النهائي وفقا لمصلحة النظام، وليس وفقا للمصلحة الوطنية، وهو وضع ترتاح له قيادات الكنيسة؛ لأنه يمنحها وحدها سلطة التفاوض مع النظام وعقد الصفقات معه. وهنا، وكما جرت العادة، فإن كل طرف يستغل لحظات ضعف الطرف الآخر ليمارس ضغوطه عليه عبر هذا الملف الذي ينبغي أن يظل بعيدا عن أي صفقات ومزايدات، ولا يخضع إلا للقانون فقط.
لا حل نهائيا لمشكلة بناء الكنائس، ومواجهة الروح الطائفية في مصر إلا عبر وضع قواعد موحدة بالفعل لبناء دور العبادة، وأن تصبح جميعها، سواء كانت مساجد أو كنائس، تحت سلطة وإشراف الدولة مباشرة من خلال وزارة واحدة، يكون فيها قسم للمساجد وآخر للكنائس، وتتوزع ميزانيتها بطريقة موضوعية ونزيهة لبناء وترميم وصيانة وتطوير المساجد والكنائس، كما ينبغي وضع الأوقاف القبطية تحت إدارة هذه الوزارة شأن الأوقاف الإسلامية تماما، على أن تبقى الكنيسة هي المرجعية الدينية للمسيحيين كما هو الأزهر مع المسلمين، ولكن لا يكون من حقها تعيين الكهنة والموظفين في المساجد الذين يجري تعيينهم بمعرفة الدولة مثل نظرائهم في المساجد، كما ينبغي أن تخضع أي أموال تابعة للكنائس والأديرة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات ولأجهزة الدولة الأخرى شأنها شأن أموال وممتلكات المساجد، بدون ذلك ستظل حالة الشحن الطائفي قائمة، يستفيد منها النظام القمعي الحاكم في تثبيت واستمرار حكمه، وتستفيد منها إدارة الكنيسة في تثبيت هيمنتها أيضا، ويكون الوطن هو الخاسر الوحيد.