تطوع كثيرون على مدى السنوات الخمس الماضية بطرح أفكار استهدفت إيجاد مخرج للأزمة السياسية في
مصر. وقد أطلق الإعلام المصري على هذه الأفكار اسم "مبادرات المصالحة مع جماعة
الإخوان"، وهو وصف غير دقيق نجم عنه خلط شديد في المفاهيم؛ فالمصالحة مفهوم اجتماعي يستخدم للدلالة على جهود تبذل لتسوية ما قد يقع من خلافات بين أفراد أو أسر أو عشائر أو قبائل "متخاصمة"، تقطن مجتمعات تقليدية يغلب عليها الطابع القبلي.
غير أن الاستخدام السياسي لهذا المصطلح، للإشارة إلى أفكار تطرح لتسوية ما قد يقع من خلافات بين الأحزاب والقوى السياسية المتنافسة داخل الدول أو المجتمعات الحديثة، قد يوحي بتماثل الآليات والقواعد المستخدمة في الحالتين، وهو أمر غير دقيق وخطير في الوقت نفسه.
فالمصالحة، بمعناها الاجتماعي، عملية إجرائية تقوم بها "مجالس عرفية" تحكمها قواعد مستمدة من تقاليد وأعراف متوارثة، قد تختلف من منطقة جغرافية لأخرى داخل البلد الواحد، أما تسوية الخلافات السياسية فتقوم بها "مؤسسات" تخضع لقوانين وضعية، وباستخدام أدوات تحكمها اصول وقواعد عامة معروفة، كالتفاوض والوساطة والتحقيق والتحكيم والقضاء... الخ.
وانطلاقا من هذا التمييز، يمكن القول إن الفهم الحقيقي لطبيعة "المبادرات" التي طرحت لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة في مصر، والتعرف بالتالي على الأسباب الحقيقية لفشلها، يتطلب فهما دقيقا لطبيعة الأزمة التي استدعت طرح هذه المبادرات.
الفهم الحقيقي لطبيعة "المبادرات" التي طرحت لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة في مصر، والتعرف بالتالي على الأسباب الحقيقية لفشلها، يتطلب فهما دقيقا لطبيعة الأزمة
جذور وسمات الأزمة الراهنة في مصر
لم تبدأ الأزمة السياسية التي تعيشها مصر حاليا، كما يتصور البعض، يوم 30 حزيران/ يونيو 2013، حين انطلقت مظاهرات شعبية عارمة تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة.
ولم تبدأ يوم 3 تموز/ يوليو، كما يتصور البعض الآخر، حين طرح وزير الدفاع خارطة طريق سياسية جديدة في حضور شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسية وعدد من الشخصيات العامة ورؤساء الأحزاب، عقب إقدامه على اعتقال الرئيس المنتخب.
ولم تبدأ يوم 14 آب/ أغسطس، كما يعتقد فريق ثالث، حين أقدمت أجهزة الأمن على فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة، مخلفة وراءها مئات القتلى والجرحى، في سابقة هي الأخطر من نوعها في تاريخ الحياة السياسية المصرية.
فالأزمة بدأت، في تقديري، منذ لحظة اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011، وراحت تتعمق عبر المسارات المتعرجة التي سلكتها مراحل انتقالية مضطربة ومتعددة، ومن ثم يصعب فهم طبيعتها ومآلاتها بمعزل عن السياق السياسي الذي أفرزها.
فما كان يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تصل إلى الحكم في مصر عبر انتخابات اعتيادية أو طبيعية؛ لولا اندلاع هذه الثورة التي نجحت في الإطاحة برأس نظام ظلت جذوره ضاربة حتى الآن في أعماق المجتمع المصري.
الأزمة بدأت، في تقديري، منذ لحظة اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011، وراحت تتعمق عبر المسارات المتعرجة التي سلكتها مراحل انتقالية مضطربة ومتعددة
ورغم مرور أكثر من خمس سنوات على هذا الحدث التاريخي الكبير، ما تزال النخبة السياسية المصرية عاجزة عن التأسيس لنظام سياسي مكتمل الأركان يمكن أن يدعي لنفسه شرف تمثيله للثورة أو شرعية التحدث باسمها، بما في ذلك النظام الذي جرت محاولة إقامته إبان فترة حكم مرسي.
ولأن المقام لا يتسع هنا لحديث تفصيلي عن المسارات المتعرجة التي سلكتها ثورة
25 يناير، نكتفي هنا ببعض الملاحظات الأساسية حول المواقف التي اتخذتها القوى السياسية الرئيسية إبان المراحل المختلفة التي مرت بها الثورة، آملين أن تسهم هذه الملاحظات في إلقاء الضوء على طبيعة الأزمة الراهنة في مصر والشروط السياسية والمجتمعية اللازمة لتجاوزها.
ويمكن إجمال هذه الملاحظات على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بمرحلة ما قبل الثورة، وفيها بدت علاقة جماعة الإخوان بالنظام السياسي القائم، بشقيه الحكومي والمعارض، غامضة وملتبسة في الوقت نفسه. فقد أدرك مبارك أن جماعة الإخوان تشكل مصدر التهديد الرئيسي لنظامه، بحكم تبنيها لأيديولوجية دينية مقبولة شعبيا وتمتعها بمهارات تنظيمية صقلتها خبرة تاريخية طويلة، الأمر الذي دفعه لتبنى في مواجهتها نهجا مزدوجا يقوم على مزيج من الاحتواء والقمع معا، مستخدما العصا والجزرة في الوقت نفسه.
فالسعي لاحتواء الجماعة دفع نظام مبارك للعمل على إدماج الجماعة جزئيا في النظام، بالسماح لها بعدد لا باس به من المقاعد في البرلمان (88 مقعدا يشكلون حوالي 20 في المئة من إجمالي مقاعد مجلس الشعب)، والحرص على قمعها وتحجيم دورها دفعه في الوقت نفسه لشن حملات اعتقال من وقت لآخر ضد كوادرها، مصحوبة بحملات دعائية استهدفت القول للمجتمع بأن الجماعة لم تغير نهجها العنيف وما تزال تمارس أسلوب العمل السري التآمري.
العلاقة لم تبن على أسس أو قواعد واضحة وراسخة تسمح ببلورة رؤية مشتركة لنظام سياسي بديل لنظام مبارك، ولذا لم تخل هذه الفترة من عمليات وشد وجذب بين جماعة حرصت دائما على ألا يشكل ارتباطها بفصائل المعارضة أي قيد
ومن المفارقة هنا أن هذا النهج قدم خدمة كبيرة للجماعة، ومكنها من بناء جسور تواصل مع النظام الحاكم ومع فصائل المعارضة في الوقت نفسه. فسياسة الاحتواء منحت الجماعة فرصة لفتح قناة حوار متواصل مع النظام، وسياسة القمع منحتها الفرصة؛ ليس فقط لفتح قنوات اتصال مع معظم فصائل المعارضة، ولكن أيضا للظهور بمظهر القوة الرئيسية المعارضة للنظام، وهو ما يفسر ارتباط الجماعة في الوقت نفسه بعلاقات وثيقة مع معظم حركات المعارضة التي تشكلت خلال السنوات الخمس التي سبقت اندلاع الثورة، بدءا من حركة "كفاية" وانتهاء بـ"الجمعية الوطنية للتغيير".
ويُلاحظ هنا أن هذه العلاقة لم تبن على أسس أو قواعد واضحة وراسخة تسمح ببلورة رؤية مشتركة لنظام سياسي بديل لنظام مبارك، ولذا لم تخل هذه الفترة من عمليات وشد وجذب بين جماعة حرصت دائما على ألا يشكل ارتباطها بفصائل المعارضة أي قيد على استقلالية قرارها، وبقية الفصائل التي قبلت التنسيق معها مضطرة في معظم الأحيان، الأمر الذي يفسر إقدام الجماعة على خوض انتخابات مجلس الشعب عام 2010، رغم قرار معظم القوى الأخرى بمقاطعتها.
الملاحظة الثانية: تتعلق بمرحلة الثورة. فالشريحة الشبابية التي تولت تنظيم الوقفة الاحتجاجية التي أشعلت شرارة الثورة يوم 25 يناير؛ لم يكن لها أي علاقة تنظيمية أو فكرية بجماعة الإخوان التي بدت حريصة على النأي بنفسها بعيدا في البداية، ولم تنزل الجماعة بثقلها إلا يوم 28 يناير، أي بعد ثلاثة أيام كاملة تأكدت خلالها من ضخامة التأييد الشعبي، وانخراط كل فصائل المعارضة في الثورة.
تحالف الجماعة مع حزب النور، والذي برز بشكل واضح إبان معركة تشكيل وكتابة الدستور، باعد بين الجماعة وبين الفصائل العلمانية، الليبرالية منها واليسارية على السواء
وكانت الجماعة أول من أيد واستجاب للحوار مع مبارك، قبل تنحيه، ثم مع المجلس العسكري بعد ذلك، لكن لا أحد ينكر دورها في التعجيل بسقوط مبارك. ومع ذلك، فسرعان ما ظهرت خلافات بين الجماعة وبقية الفصائل المشاركة في الثورة، خاصة قبيل وعقب الاستفتاء على التعديلات الدستورية (غزوة الصناديق)، فراحت تتصاعد قبيل واثناء وعقب الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها الجماعة بحوالي نصف مقاعد البرلمان، وفاز فيها حزب النور السلفي بحوالي 22 في المئة من هذه المقاعد، الأمر الذي ضمن لتيار الإسلام السياسي هيمنة تامة على البرلمان، ومكنه بالتالي من أن تكون له اليد العليا في تشكيل الجمعية التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور.
ولا جدال في أن تحالف الجماعة مع حزب النور، والذي برز بشكل واضح إبان معركة تشكيل وكتابة الدستور، باعد بين الجماعة وبين الفصائل العلمانية، الليبرالية منها واليسارية على السواء، وراح يخصم كثيرا من رصيد الثقة المتبقي بين الطرفين، ثم جاء قرار الجماعة بخوض الانتخابات الرئاسية، رغم تعهد سابق بعدم التقدم بمرشح إخواني لخوضها، ليثير المزيد من المخاوف والقلق، حيث بدأت الشكوك تتزايد حول حقيقة نواياها في الهيمنة المنفردة على كل مفاصل النظام السياسي.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بمرحلة ما بعد انتخاب مرسي. فقد شكلت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية مفاجأة لكثيرين، حين حصرت الاختيار في جولتها الثانية بين الدكتور محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان، والفريق أحمد شفيق، آخر رئيس للوزراء في عهد مبارك، الأمر الذي أدى إلى ظهور استقطاب حاد بين تيار الإسلام السياسي الذي بدا موحدا، وبقية التيارات الأخرى التي بدت منقسمة على نفسها بشدة. فبعض هذه التيارات آثر الاصطفاف إلى جانب مرسي، حفاظا على الثورة، بينما فضل بعضها الآخر الاصطفاف إلى جانب شفيق، خوفا من الهيمنة المنفردة لتيار الإسلام السياسي، واتخذ فريق ثالث موقف المقاطعة ومن ثم رفض التصويت لأي منهما.
بذلت جماعة الإخوان محاولة أخيرة لرص الصفوف، استجاب لها عدد كبير من الرموز السياسية، وأسفرت عن صدور إعلان تعهد فيه مرسي بأن يصبح رئيسا لكل المصريين
ولأن إعلان النتائج النهائية تأخر كثيرا، فقد بذلت جماعة الإخوان محاولة أخيرة لرص الصفوف، استجاب لها عدد كبير من الرموز السياسية، وأسفرت عن صدور إعلان تعهد فيه مرسي بأن يصبح رئيسا لكل المصريين، وبأن يقوم بتعيين شخصية سياسية مستقلة رئيسا للوزراء، وتحويل الرئاسة إلى مؤسسة وطنية جامعة تتسع لاحتضان كل الخبرات والتيارات الوطنية (إعلان فرمونت).
غير أن مرسي لم يلتزم بأي من هذه التعهدات، وكان إقدامه على تعيين الدكتور هشام قنديل رئيسا لوزراء مصر في أخطر مرحلة في تاريخها، وهو تكنوقراط لم تكن له أي علاقة بالثورة أو بالعمل السياسي، بمثابة صدمة أدت عمليا إلى انهيار "جبهة فرمونت" وتعميق الإحساس برغبة الإخوان في الهيمنة المنفردة على مفاصل الدولة. ثم راح هذا الإحساس يتأكد تدريجيا، خاصة بعد إقدام مرسي على: 1- إصدار إعلان دستوري ركز فيه جميع السلطات في يديه. 2- حضور مؤتمر جماهيري دعت إليه القوى السلفية، وأعلن فيه قطع العلاقة مع حكومة بشار الأسد وفتح باب "الجهاد" لمساعدة "الثورة السورية".
الأخطاء التي راحت تتراكم الواحدة تلو الأخرى، عمقت حدة الاستقطاب بين تيار الإسلام السياسي وبقية التيارات الأخرى، بما في ذلك قوى الدولة العميقة التي احتفظت بولائها للنظام القديم ولم تيأس من محاولة إعادته للسلطة
ولا شك أن هذه الأخطاء، والتي راحت تتراكم الواحدة تلو الأخرى، عمقت حدة الاستقطاب بين تيار الإسلام السياسي وبقية التيارات الأخرى، بما في ذلك قوى الدولة العميقة التي احتفظت بولائها للنظام القديم ولم تيأس من محاولة إعادته للسلطة، الأمر الذي ساعد على تمهيد الطريق أمام أحداث 30 يونيو، والتي اعتبرها كثيرون ثورة على حكم الإخوان، بينما اعتبرتها جماعة الإخوان وأنصارها ثورة مضادة وانقلابا على الشرعية الدستورية.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بمرحلة ما بعد مرسي، ويمكن تقسيمها في إلى مرحلتين فرعيتين: ما قبل وما بعد انتخاب
السيسي رئيسا. فقبل الانتخابات التي أتت بالسيسي رئيسا، والتي بدت أقرب إلى الاستفتاء منها إلى انتخابات حقيقية، كانت بعض القوى الليبرالية واليسارية ما تزال تعتقد أن تنفيذ خارطة الطريق سيقود البلاد نحو التأسيس لنظام ديمقراطي بدون الإخوان، أو حتى بدون التيار الإسلامي ككل.
أما بعد هذه الانتخابات، فقد راحت الآمال نحو التحول الديمقراطي تتلاشى تدريجيا، خصوصا بعد الزج بمعظم رموز ثورة 25 يناير، بما في ذلك الرموز التي شاركت في انتفاضة 30 يونيو ضد الجماعة، في السجن تباعا، ليسود لدى أغلبية المصريين، تدريجيا أيضا، شعور مفاده أن ثورة يناير سرقت مرتين: مرة بواسطة الإخوان الذين استخدموا الصناديق كأداة للوصول إلى السلطة، دون أن يحرصوا أولا على استئصال جذور النظام القديم بالتحالف مع القوى التي ثارت ضده وأسقطته، قبل أن يحاولوا التمكين لأنفسهم وليهيمنتهم المنفردة، ومرة ثانية بواسطة السيسي الذي استخدم الجيش والأجهزة الأمنية، مستغلا الشعور الشعبي المتصاعد ضد جماعة الإخوان، كأداة لفرض سلطته الفردية المطلقة، وإعادة استنساخ النظام القديم في طبعة بدت أكثر بشاعة.
الأزمة التي تعيشها مصر حاليا نجمت أساسا عن فشل القوى التي شاركت في صنع ثورة 25 يناير في إقامة نظام أكثر ديمقراطية من النظام القديم
وتلك هي المرحلة التي شهدت ما أصبح يعرف باسم "مبادرات المصالحة مع الجماعة"، وهي في معظمها مجرد أفكار استهدفت إنقاذ الثورة وتخليصها من أنياب الثورة المضادة التي استولت عليها وأجهضتها.
أخلص من هذه الملاحظات إلى أن الأزمة التي تعيشها مصر حاليا نجمت أساسا عن فشل القوى التي شاركت في صنع ثورة 25 يناير في إقامة نظام أكثر ديمقراطية من النظام القديم الذي نجحت في إسقاط رأسه، لكن جذوره ظلت حية تضرب في أعماق المجتمع، الأمر الذي أدى بدوره إلى إجهاض الثورة في النهاية، واستيلاء نظام أكثر شراسة وعنفا وتضييقا للحريات على مقدرات البلاد.
لذا، لا أعتقد أنها أزمة بين قوى شرعية جاءت عبر صناديق الاقتراع وقوى غير شرعية جاءت على ظهر الدبابة، كما يحلو لجماعة الإخوان تصويرها، ولكنها أزمة تطال الجميع، وتبدو ثلاثية الأضلاع أو الأبعاد.. فهي أزمة شارك في صنعها كل من التيار الإسلامي، بشقيه الإخواني والسلفي، والتيار العلماني، بشقية الليبرالي واليساري، ومؤسسة عسكرية تبدو وكأنها ربحت الجولة الحالية من صراع ممتد بين هذه الأطراف الرئيسية الثلاثة، وأظنه ما زال مستمرا.