هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يحتاج الأمر لتحضير خاص، وربما مواصفات لم توجد من قبل في أجيال كان
همها الحصول على السلاح، وتوجيهه نحو الغاصب والمحتل. لكن لعله سيخرج من صلبها من
سيكون قادرا، بعد كل ما رآه من تقلبات، على أن يصالح العدو نفسه، أو من كان يقدم
له على ذلك النحو ويتآلف معه للحد الذي يجالسه فيه على موائد الإفطار في رمضان.
وسواء كان المقصود من بين هؤلاء فلسطينيا أم تونسيا أم مغربيا أم سعوديا، فإنه
سيكون بالأخير عربيا مسلما من المفترض أن يصوم الشهر الكريم، وتكون له مائدة إفطار
في كل يوم فيه، وهذا لوجستيا بعض المطلوب.
فالصائم
من بين هؤلاء أو من يوحي تصرفه بذلك، على الأقل، سيتعين عليه، إن عقد العزم على
التطبيع، وأراد أن يكون نموذجا مشرقا للعربي المثالي، والمسلم الجيد في نظر السادة
الذين يحكمون العالم، أن يتقيد ببعض التعليمات فلا يمتنع عن الطعام والشراب فقط،
بل يغض بصره ويقفل فمه ويصم أذنيه بالكامل أيضا عن سماع أي لغو، خصوصا في هذا
الوقت بالذات، حيث يكثر الحديث مثلا عن مخاطر «صفقة القرن» أو عن مقايضة القضية
الفلسطينية بالمال الخليجي بالتحديد. وعليه أن لا يصغي أبدا لمن قد يوشوش في أذنه،
أو يهمس له بأن الشهر المبارك ليس شهر ملذات وسهرات، بل هو شهر جهاد، أو يمضي أكثر
فيذكره بالغزوات والفتوحات العظيمة التي حصلت فيه.
وليكن على يقين من أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، وليستعد ليعلن
حربا ضروسا على نفسه الأمارة بالسوء، فيترك مكانا لائقا ومناسبا على مائدة إفطاره
الرمضانية، لمن كان يطلق عليه صفة المحتل والظالم، فيؤثره هذه المرة على نفسه،
وبذلك يكون قد كسر شوكتها وانتصر عليها بدلا من أن تنتصر عليه وتقوده إلى المزيد
من الخطايا، ويكون له الأجر والثواب الوفير في الدنيا قبل الآخرة أيضا. وسيكون
مطمئنا إلى أنه لن يحتاج أبدا لفتوى شرعية تجيز أو تبيح له إفطاره التطبيعي، فحتى
إن حالفه الحظ وعثر أصلا على شيخ من الشيوخ، ممن سلم من الإعدامات، أو الملاحقات،
فإن ذلك سيكون بلا طائل، وسيعد نوعا من الهرطقة والمغالاة، أو شكلا من التفلسف
الزائد، لأن الأصل في الأشياء كما سيخبره الضالعون في علم التبرير والتطبيع، أن
الرب واحد والدين واحد، وأن جوهره ومقصده الأسمى هو التسامح والتآلف والتحابب بين
كل الناس، وأن لا فرق أبدا بين مسلم ويهودي إلا بالتقوى، وإن هؤلاء قوم أصفياء وأتقياء
يحبون الخير ويرغبون بالعيش مثلهم مثل غيرهم بأمان وسلام. ولن يكون مضطرا أيضا
للبحث عن إذن أو ترخيص من هذه الجهة السيادية أو تلك، فالعدو أمامه وحوله ووراءه
يرتع ويمرح داخل الدار كيفما شاء ومثلما يريد.
وهو
لم يعد لا بالبعيد ولا بالغريب ولا حتى بالشبح المجهول أو الغول المخيف. وكل ما
عليه فعله قبل أن يقدم على تشريكه على مائدة إفطاره الرمضانية، هو أن يتوكل على
الله، ويضع ذاكرته والتاريخ الذي تعلم أو عاصر، في الفريزر ويترك معه أيضا كل تلك
العصبية والحمية والنخوة والشهامة والفروسية العربية الأصيلة، التي لم تعد تليق به
ويحفظ بدلا منها ما تيسر من كلمات عن محاسن السلام والتعايش والتسامح، ويبعد كل
المواضيع التي يمكن أن تنغص الجلسة وتقلق الضيف وتزعجه، مثل الحديث عن حق
الفلسطينيين في أرضهم، أو المسلمين في قدسهم، أو اللاجئين في عودتهم، أو المحاصرين
في غزة في تحررهم وفك حصارهم.
ولا
بأس بالمقابل من أن تريح قلب شريك الطاولة فتخبره بتأدب شديد أن الأكل كله حلال
محلل في الشرع اليهودي، ثم يقص عليه نكتة أو طرفة ليرفه عنه، ويرفع من روحه
المعنوية، ويجعله مطمئنا إلى انه صار بالفعل واحدا من أفراد أسرته الصغيرة، ولا
بأس أن يلقي على مسامعه في الأثناء خطبة قصيرة يذكره فيها بأن الاختلاف رحمة، وهو
لن يفسد أبدا للود قضية، وانه رغم اختلافه عنه لا يكرهه أو يحقد عليه، أو يفكر
يوما في الثأر منه، أو في استرجاع شيء سلبه منه، أو يرغب ـ لا سمح الله ـ في
ملاحقته والتشهير به في الإعلام والقضاء. وإن أراد أن يعرف بعض ما يقال في مناسبة
مثل تلك، فليأخذ كلمات المستوطن الصهيوني يوسي دغان، التي ألقاها على الحاضرين في
مأدبة إفطار أقامها فلسطينيون في الخليل المحتلة قبل أيام مثلا، وليقل بدوره إن
«كلا منا يحمل أفكارا مختلفة، ولكنني أدرك أنه ستخرج من هنا بشائر طيبة لليهود
وللعرب على حد سواء… وإذا بذلنا جهدا كبيرا فإننا سنتمكن من خلق مسار آخر للتفاهم
والاحترام المتبادل»، أو ليفعل مثل منظم الإفطار المذكور، ويرحب بضيوفه مستوطنين أو
متصهينين أو يهودا، مستترين ويقل لهم جميعا كما قال أشرف الجعبري: «إنه لشرف عظيم
أن أستضيفكم جميعا في بيتي، وهذا الإفطار الجماعي سيعزز الأواصر الاقتصادية
والتجارية المتواصلة بيننا، والعلاقات الودية التي تقودنا جميعا نحو مكان أكثر
إيجابية، وهو يرمز إلى قدرتنا على مد الجسور فوق كل الفجوات بيننا».
وبعدما
ينتهي الإفطار بسلام ويمر من دون أي مشكل أو عارض معوي ـ لا سمح الله ـ ويخرج
الضيوف سالمين غانمين راضين مبتهجين، فإنه سينال الثواب الجزيل وسيوصف في الحين
بأنه داعية سلام جديد، وربما سيجد من يرشحه لنيل جائزة نوبل للسلام، أو يجعله رمزا
وأيقونة للحركات المدنية والحقوقية، وستجزل له العطايا والهدايا وقد ينصب زعيما
وقائدا عربيا فذا، من صف القادة التقدميين الذين لم يجد الدهر إلا بالقليل منهم.
ولكن الطريق لن تكون مفروشة ورودا فقط، فعليه أن يعلم انه سيواجه في البداية الرفض
والاستنكار وحتى الاتهام بالخيانة. وعليه أن يعرف كيف يراوغ جيدا فيقول مثلا، إن
كان الإفطار خارج الأرض المحتلة، أن ضيفه لم يكن إسرائيليا بل هو يهودي من أبناء
البلد، مثلما فعل وزير السياحة التونسي. أما إن حصل العكس، أي كان الإفطار في
الخليل مثلا، فليقل إنه كان يبحث مع الضيف قضايا عامة لا علاقة لها بالسياسة أبدا،
بل فقط بالاقتصاد على رأي رجل الأعمال الجعبري. وإذا ما ازدادت الضغوط والحملات
ضده، وهذا هو المتوقع، فما عليه إلا أن يواجه المناوئين ويقول لهم بالفم الملآن،
هل أنا أول أو آخر مطبع؟ ويذكرهم بالشالوم الذي ظهر في رمضان بالقرب من مدينة
الرسول، والمروحيات المصرية التي ألقت ماءها بردا وسلاما على الغابات في الأراضي
المحتلة، وبقائمة طويلة عريضة من اللقاءات والمقابلات بين العرب والمسلمين، ومن
كانوا يعدونه عدوهم.
لكن
يبقى أمر واحد عليه أن يحله بينه وبين نفسه وهو أن يقنعها بعد كل ذلك بأنه لا يزال
عربيا ومسلما بغض النظر عن جنسيته وإفطاره التطبيعي، وهذا هو الأصعب!.
عن صحيفة القدس العربي