هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نظام يتجه نحو إعادة إنتاج نفسه ورئاسيات بطعم العهدة الخامسة، ضاربة بإرادة الحراك وطموحات عشرات الملايين من الجزائريين عرض الحائط، رئاسيات هندستها المؤسسة العسكرية بمترشحين من صلب النظام السابق. الحراك يتساءل أين هو بوشاشي وحمروش وأحمد طالب الإبراهيمي وبن بيتور ورحابي؟، شخصيات سياسية نظيفة ونزيهة كان يتمنى أن تكون مرشحة للرئاسيات، كان الحراك يحلم أن يكون أحد هؤلاء من يحكم جزائر الجمهورية الثانية، جزائر القطيعة مع الماضي والقطيعة مع الاستبداد والفساد! مع الأسف الشديد أماني الحراك تبخرت ورئاسيات العهدة الخامسة على الأبواب، إذن هل نحن في طريق التطور نحو الوراء، أم العودة لنقطة الصفر، أم إصرار النظام على تجاهل مطالب الحراك وإعادة إنتاج نفسه، من خلال الحل الدستوري وتطبيق المادة 102 من دستور تم تفصيله حسب مقاس الرئيس السابق بوتفليقة الذي عبث به كما شاء؟! الكثير من المحللين رأوا أن استقالة بوتفليقة لا تعني الكثير، حيث إن ذهاب بوتفليقة ومجيء ابن صالح هو تبادل أدوار بطريقة تحافظ على النظام واستمراره، الشعب الجزائري في الواقع لا يريد استبدال بوتفليقة بابن صالح، ابن النظام الذي صال وجال في الوسط السياسي الجزائري لمدة تزيد على الثلاثين سنة، ابن صالح الذي ترأس مجلس الأمة لأكثر من أربع مرات وترأس حزب التجمع الديمقراطي الذي يعتبر من آليات النظام الفعالة، ابن صالح الرئيس المؤقت للجزائر بموجب المادة 102 هو من المتحمسين الكبار والفعالين الذين أصروا على العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، والذين كانوا من الأوفياء والمخلصين لنظام اتسم بالفساد وبتبذير المال العام على مدار عشرين سنة، نظام اتسم بانتشار الصفقات المشبوهة والقضايا التي أسالت الكثير من الأحبار والأخبار كقضية الكوكايين والخليفة وسوناطراك وغيرها كثير. ما يعني أن ابن صالح هو رمز من رموز النظام الذي سيعمل جاهدا ويبذل قصارى جهوده لإعادة إنتاج هذا النظام الذي ترعرع وكبر وهرم في ضلوعه، ما يعني أن المسيرات المليونية التي شهدتها الجزائر منذ 22 شباط/فبراير الماضي لم تأت بشيء يذكر، ما عدا اعتراف العالم بسلميتها وتنظيمها المحكم ونضجها السياسي. فمن شعار "خواة- خواة" أي إخوة إخوة إلى حالة يبدو فيها أن الجيش تخلى عن الحراك ونسي المادة 7 و8، والمأزق الذي يواجهه الحراك بعد استقالة بوتفليقة، هو أن دستور 2016 لم يأخذ بعين الاعتبار ما تمر به الجزائر هذه الأيام، فالدستور الذي فصله نظام بوتفليقة وتلاعب به ثلاث مرات، لا يستطيع بأي حال من الأحوال حل الأزمة الجزائرية حاليا دستوريا، فالحل إذن سياسي بالدرجة الأولى. فالمادة 102 لا تستجيب نهائيا لمطالب الحراك، بل تسمح بطريقة شرعية ودستورية لرئيس مجلس الأمة ليترأس البلاد مؤقتا، وحتى تمديد فترة رئاسة ابن صالح للجزائر يعتبر تمديدا غير دستوري وخارج القانون.
فإذا انحاز أحمد قايد صالح للحراك في المرحلة الأولى، وفرض على السعيد بوتفليقة والجناح العسكري الموالي له استقالة الرئيس بوتفليقة وتنحيه، نلاحظ أنه بعد تنصيب ابن صالح في 9 نيسان/أبريل 2019 رئيسا مؤقتا للبلاد بموجب المادة 102، نلاحظ أن قائد الأركان انحاز للنظام في عملية إعادة إنتاج نفسه. وأصبح القايد صالح، يصف بين عشية وضحاها، مطالب الحراك بالمطالب التعجيزية ما يحتم ضرورة الالتزام بالدستور
وفجأة نلاحظ أن الكلام عن المادة 7 و8 قد اختفى نهائيا من خطاب القايد كاختفاء الملح في الماء.
الأزمة التي تعيشها الجزائر حاليا لا تحلها المادة 102، وهذه المادة تصلح في ظروف عادية وليس في ظروف خرج فيها 20 مليون جزائري يطالبون بالتغيير، وحتى الدستور لا يصلح في الظروف الحالية؛ لأنه اخترق من قبل الرئيس المستقيل 3 مرات واخترق عندما وافق الرئيس السابق على حكومة لا ترقى لأن تكون حكومة تسير شؤون البلاد في مثل هذه الظروف. فالمسار الدستوري الذي تريده قيادة الجيش وتهدف من خلاله إلى الحفاظ على النظام، يعتبر التفافا على مطالب الشعب ولا يفي بالغرض، بل يكرس الوضع الراهن ويستبدل بوتفليقة بابن صالح، والاثنان من النظام نفسه ويمثلان عقدين من تسيير سياسي وإداري واقتصادي فاشل بكل المعايير والمقاييس، وما ابن صالح إلا امتداد لنظام بوتفليقة، ما يعني أن مسيرات ملايين الجزائريين لمدة 9 شهور ذهبت أدراج الرياح، وأن نظام بوتفليقة بقي قائما برجالاته وأيديولوجيته وبجيشه. المسار الدستوري يكرس ويدعم الوضع الراهن وإعادة إنتاج النظام بامتياز، حيث يخدم أحزاب النظام أكثر من أحزاب المعارضة كونها تملك من الموارد والخبرة ما يمكنها من التحضير للانتخابات، كما أن الحركة الاحتجاجية ما زالت غير منظمة وغير قادرة على إنتاج كيانات سياسية قادرة على منافسة أحزاب وهياكل سياسية منظمة ومتمرسة منذ عقود من الزمان، هذا ما يقودنا للكلام عن المادة 7 و8 التي تفتقر لأية آليات واضحة لتطبيقها من أجل تجسيد محتواها على أرض الواقع، وهو الإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطة. لكن بتنصيب ابن صالح رئيسا مؤقتا للبلاد، فهذا يعني أن السلطة الحقيقية هي بيد النظام الذي بدأ جاهدا في عملية إعادة إنتاج نفسه، من خلال دعوة الهيئة الانتخابية للانتخابات الرئاسية بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر 2019. وهنا نلاحظ استبعاد المسار السياسي لمعالجة الأزمة التي تمر بها الجزائر هذه الأيام، ومنطقيا المسار السياسي هو النهج السليم لبداية مرحلة البناء للجمهورية الثانية والتخلص من النظام الفاسد.
فالمسار السياسي هو الأمثل للاستجابة لمطالب الحراك وتطبيق المادة 7 و8 على أرض الواقع. المسار السياسي الذي يطالب به الشارع يهدف إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي وليس مجرد تغيير بوتفليقة بأحد الخمسة المرشحين لانتخابات 12 كانون الأول/ديسمبر 2019. فالخروج من الأزمة والانتقال الديمقراطي السلس والهادئ والمنهجي والمنظم، طريق التخلص من النظام الفاسد في الجزائر، ما زال طويلا ويحتاج إلى عمل ومثابرة ورؤية وإستراتيجية. مرة أخرى، تفوت الجزائر فرصة ذهبية للتخلص من 57 سنة من الاستبداد والطغيان والفساد وسوء الإدارة والتسيير لشؤون البلاد والعباد، فمحاولة الوصول إلى الديمقراطية بطرق غير ديمقراطية وغير نزيهة وغير شفافة، لا تفرز بأي حال من الأحوال الحكم الراشد ولا تلبي مطالب الملايين التي خرجت إلى الشارع منذ 22 شباط/فبراير الماضي وحتى هذه اللحظة. فانتخابات 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 ما هي إلا هروب إلى الأمام وعدم احترام مسيرات سلمية حضارية، أثبتت أن الشعب في الجزائر أنضج ممن يحكمونه. صحيح أن القايد صالح أستطاع أن يتخلص من سعيد بوتفليقة وعصابته، لكنه بقي وفيا للمؤسسة العسكرية التي حكمت الجزائر منذ الاستقلال من وراء الكواليس، فالقايد صالح اختار من سيحكم الجزائر منذ مدة وهو متأكد من أن الجيش يبقى دائما المعادلة الصعبة والفاعل رقم واحد في الشأن السياسي الجزائري.
(الشرق القطرية)