رحل الشيخ جمال قطب
في صمت، وتم تشييعه في صمت وبلا مشيعين بناء على وصيته، تحاشيا للوباء اللعين. رحل بعد مسيرة مشرقة تشهد لها جنبات
الأزهر الشريف ومحاريب الصلاة والدعوة إلى الله وميادين العمل الاجتماعي الخيري الفسيحة.
عالم ليس من أهل النصوص والمتون والسند فقط، وإنما من طراز
العلماء الذين حولوا تلك المتون والنصوص العظيمة إلى حركة وفعل وتأثير وتوجيه للناس بعيدا عن هيمنة السلطان. وهو وإن ظل مستقلا محافظا على كونه عالما يخدم دينه ويوجه الناس، إلا أنه مد يده للتعاون مع كل العاملين بإخلاص لدين الله الذين يملأون الحياة حركة وعلما، وانحاز دائما إلى كل من خدم دينه وأمته.
كان رئيسا للجنة الفتوى بالأزهر سابقا وشغل مقعد البرلمان
المصري مستقلا عام 1987م، وظل منشغلا باستعادة الأزهر الشريف لدوره الريادي المستقل، فتبنى مشروعا لاستقلاله وقيادته للمؤسسة الدينية كاملة بعد أن أصيبت بازدواجية القيادة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء وضعف دورها، خاصة أن وظيفتي الأوقاف والافتاء حكوميتان تتبعان في قراراتهما النظام الحاكم، وهو ما خصم من استقلال الأزهر وأثّر بالسلب على دوره المستقل. وقد شجعه على تبني ذلك المشروع عمله الدؤوب في ميدان الدعوة ومتابعته اليومية لتطورات العمل في المؤسسات الدينية.
كان قريبا من الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر (يرحمه الله) ومحل ثقته، وقد أنابه عنه لتمثيل الأزهر في العديد من المحافل والقضايا، ومنها تمثيله في الزيارة التفقدية التي نظمتها لجنة الإغاثة بنقابة أطباء مصر لما كان يجري على أرض البوسنة عام 1992م من مذابح للمسلمين على يد الصرب، وهي المذابح التي اهتز لها الضمير الإنساني واهتمت بها مشيخة الأزهر.
ومن خلال مشاركتي في تلك الجولة تعرفت على فضيلته عن كثب وعايشته على امتداد ثلاثة أسابيع متتالية، في ظروف شديدة الخطورة وفي أجواء مليئة بالدموع والدماء والآلام أثناء تنقلنا بين اللاجئين المسلمين الذين فروا إلى كرواتيا وانتشروا في المدارس والصالات الرياضية وعربات القطارات، وكذلك خلال زيارتنا لما أمكن من المدن البوسنية التي كانت تتعرض للسحق والإبادة.
أقول: قضينا ثلاثة أسابيع صاخبة، بين صرخات اللاجئين حزنا على ذويهم وآلام المغتصبات والجرحى، وكانت كلماته (يرحمه الله) في كل موقف تهدئ من حالة الحزن وتُدخل الطمأنينة إلى القلوب وتشحذ العزائم لمحاولة النهوض من جديد.
كلماته لم تكن شافية لمن قابلناهم من المكلومين من أهل البوسنة فقط، بل كانت شافية لمثلي؛ فقد أصبت بصدمة من هول ما شاهدت وسمعت عن الانتهاكات البشعة. فقد رأيت بعيني رأسي مشاهد لا تنسى، تشهد على مخازي حضارة القرن العشرين في قلب أوروبا، والتي رفضت وجود كيان مسلم صغير بين جنباتها فحاولت سحقه.
رأينا المآذن التي تم ذبحها وقبلة الصلاة في الجوامع التي أفرغوا فيها حقدهم الأسود ورسموا عليها صلبانهم.. استمعنا بألم بالغ إلى قصص القتل والتمثيل بالجثث والإبادة الجماعية والاغتصاب، وكانت تذكيرات الشيخ جمال وخواطره الإيمانية في الملاجئ المنتشرة في كرواتيا هي السلوى والعلاج.
وانتهت تلك الرحلة التي لا تُنسى وبقي الرباط القلبي قويا بيني وبين فضيلته، ورغم أن دروب الحياة المتلاطمة باعدت بيننا إلا أن الرباط ظل قويا والذكرى ظلت حاضرة.
ذلك شيخ فريد في علمه ومواقفه وحركته بين الناس.. "عمامة" تعانق السماء وتشرئب لها الأعناق وما أكثرها فكنانة الأزهر لا تنضب، وكلما أصيب المرء بغثائية بعض "العمائم" التافهة التي تهين العلم والخلق والسلوك الرشيد تظل عمامة الشيخ جمال قطب وأمثاله من علماء الأزهر الشريف العاملين، تعطي الأمل في العلم والعلماء وفي صرح الأزهر العريق.
أيها الحبيب.. يا صاحب العمامة البيضاء: أشهد أنك كنت صالحا مصلحا.. رحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة وألهم أسرتك وكل محبيك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.