هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
المناوشات الحدودية بين السودان وإثيوبيا قديمة ومتكررة، وتعود لعشرات السنين إلى الوراء، وهي ناجمة عن إخفاق البلدين في إنجاز مهمة «ترسيم» الحدود، والتداخلات القبلية والسكانية، والنزوح الموسمي لقاطني تلك المناطق تبعا لتعاقب مواسم الأمطار والجفاف، وعلى الدوام سعى البلدان في منع تطور هذه المناوشات أو أزمة سياسية تهدد علاقاتهما الثنائية، وكانت دائما لديهما انشغالات أكبر، تصرف انتباههما على إشكال محلي هنا، واشتباك قبلي هناك.
هذه المرة، تبدو الصورة مختلفة، إشكال حدودي يتطور بسرعة إلى «أزمة دبلوماسية» بين البلدين، تستوجب استدعاء السفير الإثيوبي في الخرطوم لإبلاغه رسالة احتجاج على قيام الجيش الإثيوبي باختراق الحدود السودانية، ومهاجمة نقاط للجيش السوداني غربي نهر عطبرة في ولاية القضارف السودانية الحدودية. هنا، الحديث يدور عن اشتباك بين قوات نظام نظامية تتبع لكلا البلدين، وليس عن مناوشات بين قوات دفاع شعبي مدعومة من الحكومة السودانية ومليشيا «الشفتا» المدعومة من الجيش الإثيوبي.
وهذه المرة أيضا، يكتسب توقيت «المناوشات» أهمية خاصة، إذ يأتي على خلفية الخلاف بين البلدين حول ملف سد النهضة، سيما بعد أن أحدثت الخرطوم مؤخرا استدارة في مواقفها لصالح الموقف المصري، بعد أن بدا لأشهر عديدة أنها أقرب لأديس أبابا منها إلى القاهرة، وقد بررت مصادر سودانية هذه النقلة، باتهام الحكومة الإثيوبية بخذلان الخرطوم وتخليها عن التزامات سابقة.
التوتر على الحدود السودانية الإثيوبية، استدعى قيام رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بزيارة للمنطقة، وتفقد المواقع الحكومية والعسكرية لبلاده هناك، تبعتها زيارة لرئيس الحكومة السودانية الانتقالية عبد الله حمدوك للمنطقة ذاتها، وللغرض ذاته، ودائما في مسعى لتوجيه رسائل للعاصمة الإثيوبية، بأن السودان يعرف ما يدور في تلك المنطقة، ولن يقبل باستمرار «التمادي» على سيادته و«التعدي» على مصالح مواطنيه وحياتهم في تلك المنطقة.
والحقيقة أن إثيوبيا التي أظهرت استهتارا واستخفافا مؤسفين، بحقوق دولتي الممر والمصب لنهر النيل، ومضت قدما في مشاريع بناء السد، وقررت من جانب واحد، رزنامة ملئه بالماء، لا تبدي قلقا حيال التحركات الميدانية أو الدبلوماسية السودانية، في ملف أقل أهمية بكثير من ملف «مياه النيل». والأرجح أن الجيش الإثيوبي ومليشيا «الشفتا» سيواصلان توفير الحماية لألوف المزارعين و«الرعيان» الإثيوبيين الذين يزرعون أراضي السودانيين، ويرعون مواشيهم فيها، دونما اكتراث باستدعاء السفير أو ببلاغات الاحتجاج الدبلوماسية.
إثيوبيا تستشعر «فائض قوة» وهي تراقب المشهد العربي فائق الضعف، وهي تعتقد أنها بما حققته من إنجازات سياسية واقتصادية في الداخل، ومن توسع في علاقاتها الدولية في الخارج، قادرة على المضي في طريقها لأن تصبح قوة إقليمية وازنة، حتى وإن جاء ذلك على حساب حقوق مائية عربية، أو بانتهاك سيادة جوارها السوادني وحدوده.
إثيوبيا قرأت جيدا تجربة الضعف التفاوضي العربي حول قضية ترقى إلى مستوى «الحياة والموت» بالنسبة لدول حوض النيل، والأرجح أنها قرأت بتمعن دروس الاختراقات الإيرانية والتركية والإسرائيلية للعمق الاستراتيجي العربي، الجغرافي والمائي والأمني، من المشرق والخليج إلى شرق المتوسط وشمال أفريقيا، وهي تتطلع بدورها، لأن تكون لها حصة من «تركة الرجل العربي المريض»، بدءا بمياهه، ولا بأس إن سيّجت نفسها بـ «منطقة آمنة جديدة»، أو حولت ولاية القضارف ذاتها إلى «مزارع شبعا ثانية» أو «غور الأردن الجديد».
(الدستور الأردنية)