كتب

إفريقية من غزوات الاستكشاف إلى حملات الفتح.. رؤية هشام جعيط

فتح شمال إفريقيا استغرق وقتا طويلا وتم إدماجها ضمن الدولة الإسلامية الناشئة سياسيا على مراحل
فتح شمال إفريقيا استغرق وقتا طويلا وتم إدماجها ضمن الدولة الإسلامية الناشئة سياسيا على مراحل
الكتاب: "تأسيس الغرب الإسلامي: القرن الثاني والثالث هـ/ السابع والثامن م"
الكاتب: هشام جعيط
الناشر: دار الطليعة ط 2بيروت، لبنان، 2008
عدد الصفحات: 261 صفحة

تظل التفاصيل الدقيقة لوقائع دمج إفريقية في مجرى التاريخ الإسلامي الصفحة المنقوصة من كتاب التاريخ الإسلامي الكبير لندرة الوثائق العربية أو البيزنطية وللثقافة البربرية الشفوية، المفتقرة للتدوين. وتظل دراسة هشام جعيط لما بات يُسمى بالتاريخ الإسلامي المبكر ألمعية لما تتميّز به من العمق وما تتسم به من الموضوعية. وهذان العاملان كفيلان بمنح كتاب "تأسيس الغرب الإسلامي، القرن الثاني والثالث للهجرة" قيمته المضاعفة. فقد تناول موضوعين متمايزين على ما بينهما من التواصل: حدثَ الفتح في حد ذاته الذي عاد من خلاله الباحث إلى الصراع العربي-البربري-البيزنطي ومجاله الشطر الأول من الكتاب، وتشكيلَ دعائم الدولة في الغرب الإسلامي وتركيز مؤسساتها، وجعله موضوعا للشطر الثاني من الكتاب.

ولما للموضوعين من أهمية ولما بينهما من التمايز، رأينا أن نعرض الأثر على حلقتين فنخصّ كل حلقة بموضوع على أن نشفع الحلقة الثانية بعرض سياسة الباحث في تدوين الكتاب ومنهجه في كتابة التاريخ.

1 ـ الفتح العربي للمغرب

استغرق فتح شمال إفريقية فترة طويلة. ولم يقع إدماج الولاية بعد انتزاعها من الإمبراطورية البيزنطية، ضمن الدولة الإسلامية الناشئة، على المستوى السياسي، دفعة واحدة. ويميّز الباحث بين مرحلتين أساسيتين من تاريخها الإسلامي المبكّر. وتمثل "المرحلة الاستكشافية" التي امتدت بين السنوات 22 هـ ـ 50هـ أولها. ويجدها امتدادا منطقيا لفتح مصر التي مثلت قاعدة خلفية تنطلق منها الهجومات، نحو الغرب. فقد دخلت جيوش عمرو بن العاص الإسكندرية ومنها انطلقت إلى برقة ثم طرابلس في السنوات 21 ـ 26 للهجرة ثم مثلت "غزوة العبادلة السبعة" أول غارة في قلب إفريقية سنة 27. 

وضمن رؤيته الشمولية ينزل جعيط هذه المرحلة ضمن سياق الإمبراطورية الإسلامية الناشئة التي تتوسع شرقا فتقوض الدولة الساسانية وتتجه غربا فتنتزع من الإمبراطورية البيزنطية، وريثة الإمبراطورية الرومانية، أقاليمها البعيدة. 

ولعلّ صورة عثمان الخليفة وهو يسهر بنفسه على تجميع العناصر في معسكر الجرف قرب المدينة لتنطلق غربا أن تؤكد هذا السياق العام. فيفهم غزوة عبد الله بن سعد والعبادلة الستة الباقين وحملات معاوية بن حديج في بدايات العهد الأموي، بين سنة 34 هـ و46 هـ، بكونها التماس الأول بين الإمبراطوريتين المتنافستين الذي استهدف عبره المسلمون اختبار قوة البيزنطيين هناك، بقدر ما استهدفوا جمع المال. ويؤكّد تراجع الجيش العربي محملا بما قيمته 300 قنطار من الذهب، يعد نصره الكاسح وبعد إقامة مدتها 14 شهرا هذا الاتجاه في التأويل. ولعلّ ما ساعد غارة ابن أبي سرح في تحقيق أهدافها انشقاق جرجير، والي قرطاج الذي قتل في هذه المعركة، عن الإمبراطورية الأم. فقد أضعف الوجود البيزنطي في إفريقية لمّا قاد حركة انفصالية هناك ومنح نفسه لقب إمبراطور ولكن الغزو العربي لم يسعفه ليحقق مراده. 

ويردّ جعيط طول مرحلة الغزو، وتراجع الحملات على إفريقية إلى ظهور الاختلافات في صلب الجيش الإسلامي. فلمّا كان يوليّ وجهه شطر الغرب كان الذهن ينشغل بالفتنة المشتعلة شرقا. فقد أخذت عيوب حكم عثمان العائلي تظهر للعيان وأخذت حركة المعارضة لحكمه تتشكّل. وبعد انكفاء دام نحو عشرين سنة وصعود معاوية للحكم استأنفت الإمبراطورية توسعها على حساب بيزنطة وصادف ذلك عامل مساعد. فقد استعاد الإمبراطور قسطان الثاني الإشراف على إفريقية. فانتهج سياسة جبائية قاسية تبتزّ الأهالي وسياسة دينية عنيفة أججت الثورة في قرطاج ويسرت على الجيوش العربية مهامها.

2 ـ الاستقرار العربي وبدايات المقاومة البربرية (50ـ 69 للهجرة)

كان لا بدّ لمرحلة الاستكشاف أن تفضي إلى مرحلة الفتح والاستقرار وبناء الدولة. وهذا ما يفرض بناء معسكر ونقطة ارتكاز تنطلق منها الجيوش العربية. وذلك ما أدركه عقبة ابن نافع  الرجل الخمسيني الخبير بالحرب. ولا ينكر جعيط العنت الذي يواجهه وهو يحاول أن يرسم صورة هذا الغازي العربي. فمن خلال الخطب والمواعظ المنسوبة إليه، يبدو وليا يحبه الله لتقواه العميقة. 

ومن خلال روايات الإخباريين العرب والبيزنطيين يبدو محاربا قاسيا بخصومه معولا على عنفه الشديد في غزواته (15 ـ 55) وعلى مجازره ضد المسيحيين والأفارقة. وإجمالا تجعل الهالة الميثيولوجية التي رافقت صورة الرجل لغزا حقيقيا، "ومع ذلك نستطيع تخيل ببعض التخيل إدراك بعض الخطوط ورسم صورة عامة لما يمكن أن يكون كان عليه الرجل الحقيقي".
 
يأخذ جعيط في تشكيل هذه "الصورة العامة" المفترضة لعقبة. فخلف فضائل القائد التقي والمؤسس الكبير يكمن جندي غاز ونبيل طموح تدفعه به "شجاعته الجسدية" إلى العنف الكبير، والاستخفاف بمن حوله وتدفعه بدائيته وتلهفه على القيادة وافتقاره لمرونة السياسي إلى الحقد والقسوة على أعدائه. ويتساءل عن السبب الذي جعل دور أبي المهاجر دينار، الذي خلفه، لا يبرز في التاريخ الرسمي على الأقل، الأمر الذي يحاول المؤرخون المعاصرون الاهتمام به لإبراز أنه كان أكثر حسما من سلفه. فهو أول من تجرأ على غزو المغرب الأوسط، عابرا جبال الأوراس معوّلا على سياسته اللبقة والفطنة والأقل عنفا من سلفه أثناء أسلمة إفريقية، وإخماد ثورة كسيلة والتحالف معه ثم إعلان إسلامه. ويضن بالجواب محفزا الذهن على المقارنة بين وقع السياسات العنيفة والسياسات الحكيمة على كتابات المؤرخين. 

ويشير إلى حدث مهم، في تاريخ إفريقية له دلالته حضارية والسياسية، ويدفع إلى هذه المقارنة. ففي إطار التنافس العنيف بين الرجلين حاول أبو المهاجر طمس ماضي عقبة بتأسيس تكروان وجعلها مركزا بديلا عن مدينة سلفه، ولكن سريعا ما هجرت، بعد أن عزله يزيد وأعاد عقبة إلى ولاية إفريقية مجدّدا. وما إن عاد حتى استأنف سياسته العنيفة. فأمعن في إهانة القائدين السابقين، العربي أبي المهاجر والبربري كسيلة وكان يأخذ الأول مصفدا بالحديد ويمارس عنفه وغطرسته على الثاني ويستهين بمشاعره في حملاته.

3 ـ المقاومة البربرية

لم تكن المقاومة البربرية تثير إشكالا لما كان العرب يعتمدون غزوات النهب في المجال البيزنطي. فـ"إفريقية المتحضرين والمزارعين"، التي تتطابق حدودها مع البلاد التونسية الحالية، تظلّ مسالمة. ولكن الأمر يتغير كليا عند دخول المجال البربري الصرف في تخوم الصحراء أو في المرتفعات. فقد تفوق العنصر البربري، مع انبثاق حركة قبائل البرانس المسيحية غرب جبال الأوراس وحركة البُتر، وهي تشكيلات قبلية من الرحل وأشباه الرّحل، شرقها. وكانت المقاومة تنطلق من مركز أو نواة مهيمنة ثم يقع الحشد ورصّ الصفوف. وكثيرا ما كان للانتماء إلى المسيحية دور في توحيد البربر والبيزنطيين على هدف واحد هو التصدي للدين الجدد. 

ولغطرسة عقبة في ذلك دور. فكسيلة تحالف معه وشاركه حملته على السوس الأدنى وصاحبه في انحداره جنوبا مع الشريط الساحلي حتى بلاد السوس الأقصى جنوب المغرب اليوم. ورغم إقراره بعسر الفصل بين التاريخي بالأسطوري ويبدو أنه يعوّل كثيرا على رواية ابن خلدون في تصوير خضوع كسيلة لجيش عقبة، ويقدّر أنّ شيئا ما جعل القائد العربي يترك جيشه يتقدمه ويبقى في عدد قليل من أصحابه، وأنّ بربر أوربة، استغلوا الفرصة ليهاجموه قرب واحة بسكرة ولينالوا منه. ولأنّ المصادر كانت تضن بالمعلومة، ينسج الأحداث اللاحقة معولا على المنطق. "فعلى طريق العودة لابد أن يكون القائد العربي قد أهان قائد أوربة كسيلة بطرق متعدّدة وذلك بالرغم من نصائح أبي المهاجر الحكيمة والحصيفة. 

لقد اغتاظ كسيلة وجرح في الأعماق وعندما وجد نفسه على أرض قبيلته، قام بالاتصالات الضرورية مع قومه ومع البيزنطيين، وبما أانه أصبح غير قادر على تحمّل هذا التحالف الذي تحوّل إلى تبعيّة مذلة، فقد فرّ وجمع قومه ونصبوا كمينا لعقبة". ولكنه لا يواصل مجاراة الرواية الخلدونية. فلا يذكر دخوله إلى القيروان وحكمه لها وهو يعلن إسلامه، ولكنه يشدّد على دور موت عقبة المأسوي في الرفع من روح البربر المعنوية وفي تأجيج مقاومتهم للغزو العربي وطردهم من المدينة وعلى منح كسيلة الأمان للمسلمين  ليتساءل: "فهل كان يطمح إلى تأسيس دولة بربرية وهل يمكن الاعتماد في ذلك على هذه الجملة الواردة في البيان: "استقر في القيروان كأمير على كل إفريقية والمغرب"؟

يجد في ظهور الكاهنة، أرملة ملك قبيلة جراوة بجبال الأوراس تطورا جديدا في شكل المقاومة البربرية، بعد مقتل كسيلة سنة 69 هـ. ويردّ ذلك إلى الانتصارات الصاعقة التي حققتها ضد الجيوش العربية الضخمة.. ويجعل المرحلة طور تعويل البربر على أنفسهم بعد تقهقر البيزنطيين. فيذكر إستراتيجيتها التي تقوم على تدمير المنطقة حتى لا يعود إليها الغازي العربي، ولكنه يبقى متيقظا  للمبالغات التي زخرت بها كتب المؤرخين، بما في ذلك ما دونه ابن خلدون بشأن تدمير الغابة المتصلة من طنجة إلى طرابلس. فيدحضها باعتماد المنطق. وفي الآن نفسه يفترض أن غياب السلطة شجع على النهب في الوسط والجنوب. 

وهذا ما سيؤثر على موقف الكاهنة وعلى موقف القبائل منها. وبه يفسر دخول حسان بن النعمان الجنوب التونسي دون معارك وصعوده إلى شمالا إلى قرطاج أولا ثم كان سقوطها ثاني في يد العرب والنهائي ومعه، وبعد التغلب على الكاهنة ستطوى صفحة إفريقية البيزنطية المسيحية  وسيبدأ عهد إفريقية الإسلامية. وبعد عودة حسان بن النعمان بالذهب والأحجار الكريمة من إفريقية كان على البربر أن يواجهوا طمع المروانيين في دمشق وعنف موسى بن نصير في إفريقية وأن يدفعوا ثمن المقاومة دما ونهبا وسبيا.

4 ـ مقاومة بلا أمل

يعتقد جعيط أن البربر، سواء لم يكونوا قادرين على مواجهة العرب لأسباب عديدة. فعلى صعيد التحالفات الداخلية أهمل كسيلة بتر جبال الأوراس واعتنق بتر الجنوب الدين الإسلامي. وافتقدت الكاهنة للدعم البيزنطي أما العرب فقد عاودوا إرسال الجيوش إلى إفريقية، بعد دحر الحركة الزبيرية سنة 73 ه. فأرسلوا حسان بن النعمان في 40 ألف رجل ودخلها إثر صلح بعد محاصرتها 76 ه وبعد أن عاد إليها البيزنطيون دخلها بقوة وعنيف وتدمير. 

ويعتب جعيط على المؤرخين الغربيين رثاءهم للموت المفاجئ للحضارة الرومانية البيزنطية وإهمالهم للدور البربري. ولا يخفي تعاطفه معهم وهم يقاومون الغزو العربي بشجاعة. "في الحقيقة ما يبدو لنا جديرا أكثر بالاهتمام هو هذه المقاومة البربرية الفوضوية والبطولية وهي دفاع بسيط عن الحياة والحرية، وهذا أهم ما يتشبث به الإنسان لمواجهة شناعة منطق الحرب والتوسع. ولكن سيمحى سريعا طابع النفي والمأساوية لنفس هذا التوسع أمام وعوده وإنجازاته التي كان من أهمها قطعا ولادة بلاد المغرب في التاريخ والحضارة عن طريق الإسلام". 

ورغم تعاطفه هذا فهو يعتقد أن المقاومة البربرية لا تعدو أن تكون مكابرة وأنها كانت حركات رمزية أو غريزية. فقدر إفريقية رسم بعد منذ غزوات الاستكشاف الأولى. فأهلها لم يكونوا قادرين على الفعل في التاريخ لأسباب حضارية موضوعية. فهم لم يبلغوا من التطور ما يسمح لهم بتأسيس دولة، وأكثر ما يستطيعونه التحالف مع الأجنبي لخدمته وتحصيل بعض المكاسب.. وكسيلة كان قائد قبيلة وظلّ كذلك والكاهنة أبلت بلاءً حسنا وقادت حركة مقاومة شديدة ولكنها كانت تخوض حربا بلا أفق. 

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم