كتب

محاولة لفهم انتشار كورونا في تونس وسبل مواجهتها (2من2)

تصاعد مخيف لمؤشري الوفيات والإصابات بوباء كورونا في تونس- (الأناضول)
تصاعد مخيف لمؤشري الوفيات والإصابات بوباء كورونا في تونس- (الأناضول)

الكتاب: "أزمة المالية العمومية سنة 2020 و2021: أي قراءة للموجود وأي حلول لتحقيق المنشود"
الكاتب: د. عبد الجليل البدوي
الناشر: قسم الدراسات بمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتونس، يونيو 2021 
(122 صفحة من القطع الكبير).

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثاني والأخير من قراءته لكتاب "أزمة المالية العمومية سنة 2020و2021: أي قراءة للموجود وأي حلول لتحقيق المنشود"، للدكتور عبد الجليل البدوي، البحث في الأسباب البعيدة والمباشرة للانتشار السريع لجائحة كورونا في تونس وكيفية الحد من تداعياتها.

انتشار وباءكورونا في ظل هشاشة قطاع الصحة العمومية وتنامي المستشفيات الخاصة

لقد انساقت تونس في الخيارات الليبرالية الجديدة منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، وطبقت بذلك سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي، أو بالأحرى استراتيجية الخصخصة الهيكلية للاقتصاد، بإشراف مباشر من صندوق النقد والبنك الدوليين المدعوم بمواقف البلدان الرأسمالية الكبرى والتي تقوم على ما يأتي:

1 ـ تحويل ملكية القطاع العام إلـى القطاع الخاص من خلال أساليب متعددة للبيع (مشتر واحد، شريك رئيسي، إكتتاب عام ).

2 ـ إعمال آليات السوق وإطلاق قوى المنافسة بعيدًا عن أشكال الاحتكار.

3 ـ التخفيف من القيود البيروقراطية والحكومية التي تشل من ميكانيزمات العرض والطلب، وتوظيف السعر في توجيه تخصيص الموارد وترشيد إستخدامها اقتصاديًا.

4 ـ تنشيط القطاع الخاص وتحريره من كل القيود الملكية لنشاطه، وعلى سبيل المثال :

أ ـ السماح بدخوله منافساً للحكومة والقطاع العام في دورة الإنتاج السلعي والخدمي، بما في ذلك خدمات المرافق.

ب ـ السماح بدخوله منتجا للخدمات السيادية التي تحتكرها الحكومة ( الكهرباء، النقل الجوي، الإتصالات السلكية واللاسلكية.. الخ ).

ت ـ تنقية القوانين المعمول بها في كل ما يعرقل النشاط الإستثماري الخاص.

5 ـ التوسع في التحميل المباشر لتكلفة الخدمات للمستفيدين.

6 ـ خفض العجز في الموازنة بالتخفيف الفوري لصور الدعم والكف عن سياسة النقد الرخيص.

مع انتشار الليبرالية الاقتصادية على أوسع نطاق في تونس، أنشئت العديد من المستشفيات الخاصة، وشهدت المنظومة الصحية تخلي العديد من الأطباء عن العمل بالمستشفيات العمومية والانتقال إلى القطاع الخاص للعمل لحسابهم الخاص أو العمل داخل المستشفيات الخاصة التي عرفت تناميًا ملفتًا لعددها في فترة الانتقال الليبيرالي. وقد أصبح هذا القطاع يحتوي على النصيب الأكبر من حيث التجهيزات الثقيلة في البلاد. وتفيد المعطيات المتوفرة لدى المجلس الوطني لعمادة الأطباء أن هذا القطاع بالنسبة لسنة 2016 يشغل 53% من الأطباء و 77% من الصيادلة و 79% من أطباء الاسنان في البلاد.

علما أنَّ تشجيع المستشفيات الخاصة بالتوازي مع تهميش القطاع العمومي في المجال الصحي كانت نتيجته تقزيم دور الدولة في المجال الصحي، وعدم استثمارها في تطوير البنية الصحية في البلاد. هذه السياسات من شأنها أن تعمق الفوارق بين الفئات الاجتماعية نظرا لان الفئات الفقيرة لا اختيار لها سوى التوجه إلى المستشفى العمومي عند الحاجة للتداوي.

وفضلاً عن ذلك، كان نتيجة لانهيار المنظومة الصحية الوطنية تزايد هجرة أعداد كبيرة من الأطباء التونسيين إلى فرنسا وألمانيا وبلدان الخليج بالخصوص. وهذا النزيف من الكادر الصحي لا يهم فقط الأطباء الشبان بل كذلك المتقدمين في السن أصحاب التجربة والخبرة بما في ذلك عدد من رؤساء الاقسام في مختلف الاختصاصات بالإضافة إلى أساتذة الطب. 

وتفيد المعطيات الصادرة عن المجلس الوطني لعمادة الأطباء أنَّ أكثر من 45% من الأطباء بالعمادة سنة 2017 قد غادرو البلاد للعمل بالخارج مقابل نسبة لم تتجاوز 7% سنة 2013. ولعل من اهم المؤشرات لظاهرة هجرة الأطباء مشاركة العديد منهم في مختلف الاختصاصات كل سنة في مناظرة معادلة الشهادات ومراقبة المعارف بفرنسا في سنة 2017 نجح أكثر من 240 طبيبا في كل الاختصاصات وسجل نجاح التونسيين نسبا عالية في عدد الاختصاصات (88% في طب القلب والشرايين و86% في التصوير الطبي و80% في الإنعاش الطبي).

يعلق الباحث البدوي على ظاهرة هجرة الأطباء التونسيين للعمل في البلدان الأوروبية ودول الخليج بقوله: "ومن المؤسف أن ظاهرة هجرة الكفاءات لا تخص الأطباء فقط بل تشمل بجانب الطب اختصاصات علمية مختلفة. وقد قدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في أواخر 2017 عدد الكفاءات العلمية التونسية التي هاجرت إلى الخارج منذ 2011، 2012 بـ 94 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 25 و 45 سنة. وباعتبار وجود 85 الف إطار تونسي بالخارج حسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2012، فإنَّ مجموع الكفاءات العلمية التونسية في الخارج سنة 2017 يبلغ حوالي 180 ألف في كل الاختصاصات. وحسب تقرير التنمية البشرية في العالم العربي لسنة 2016 أصبحت تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًا في تصدير الكفاءات العلمية إلى الخارج. وهذه الوضعية رغم أنَّها تدل على جودة مستوى الكفاءات التونسية، إلا أنَّها تعكس بالأساس اندثار مخيف لإحدى المقومات الأساسية للعمل التنموي نتيجة فشل المنوال التنموي الحالي وانهيار الأوضاع وفقدان الثقة في المستقبل لدى النخبة التونسية والشباب على السوء"(ص 43).

 

زادت الوضعية سوءا أثناء جائحة كورونا، حيث تنامت ظاهرة الجشع والمضاربة والاحتكار لدى القطاع الصحي الخاص أمام عجز القطاع العام على مواجهة الانتشار السريع لفيروس كورونا في الأشهر الأخيرة بالخصوص.

 



في ضوء التكالب على المال داخل المستشفيات الخاصة، ارتفعت تكاليف العلاج، وأصبحت ترهق بصفة متزايدة العائلات التونسية. ذلك أن هذه العائلات أصبحت تحتل المرتبة الأولى في تمويل النفقات الصحية بمساهمة 37.5%، ويأتي الصندوق الوطني للتامين على المرض في المرتبة الثانية بمساهمة تناهز 35%، في المقابل لا تتعدى نسبة مساهمة الدولة 24% وتعتبر نسبة مساهمة التعاونيات والمؤسسات الخاصة للتأمين ضئيلة ولا تتجاوز 0.4%.
 
وزادت الوضعية سوءا أثناء جائحة كورونا، حيث تنامت ظاهرة الجشع والمضاربة والاحتكار لدى القطاع الصحي الخاص أمام عجز القطاع العام على مواجهة الانتشار السريع لفيروس كورونا في الأشهر الأخيرة بالخصوص. من ذلك أنَّ القطاع الخاص أصبح يفرض دفع ضمانات خيالية تصل قيمتها إلى 30000 دينار تونسي (حوالي 10000 دولار أمريكي) لتمكين المرضى من الدخول إلى المصحات الخاصة للتداوي. 

وأمام هذا التكالب على استغلال المآسي أصبحت الطبقة الوسطى غير قادرة على النفاذ إلى الخدمات الصحية كما تؤكد على ذلك حادثة وفاة القاضية التي تنتمي الى عائلة تتمتع بدخل محترم متكون من دخل المرأة ودخل الرجل. 

وعموما المواطن التونسي عندما يصاب بالكورونا يجد نفسه عاجزًا ومحبطًا أمام مستشفيات عمومية منهارة تشكو من نقص شامل في التجهيزات والطاقم الطبي والأدوية وفي الصيانة من جهة، وأمام مستشفيات  خاصة تتفنن في استغلال الفرص لابتزاز المواطن بدون شفقة ولا رحمة من جهة أخرى. بجانب ذلك يجد المواطن صناديق ضمان اجتماعي مكبلة بالديون لا تضمن تحمل المصاريف علاج الكورونا ولو بصفة جزئية رغم ما تكبده المواطن من مساهمات اجتماعية طوال سنوات لفائدة هذه الصناديق.

في ظل غياب دور الدولة على الصعيد الاجتماعي، وتنامي دور القطاع الخاص في المستشفيات، يرى الباحث البدوي: "أنَّ نسبة مساهمة الأسر التونسية في النفقات الصحية بنحو 35.7% تعدُّ مرتفعة للغاية بالنظر إلى مستوى النفقات المتعارف عليها دوليًا والمقدرة بنحو 20% وهو مستوى قد يؤدي حسب المنظمة العالمية للصحة إلى تزايد الخطر الكبيروالمتمثل فيما يعرف بالنفقات "الكارثية"، قد يقود حتما الى خطرالإفقار. وقد أكَّد تقرير منظمة "أوكسفام" الصادر في شهر نوفمبر 2020 أنَّ تونس من بين البلدان الأقل إنفاقًا في مجال الصحة العمومية، حيث صنفت بالمرتبة 146 أي بين أسوأ 13 دولة. فربع  السكان لا يتمتعون بتغطية صحية شاملة وهو مايثير القلق حسب المنظمة الدولية ،نظرا للحالة الوبائية في تونس كما ذكرت المنظمة بأنَّ مستوى الإنفاق العمومي على الصحة تراجع من 6.6% إلى 5% من الميزانية الإجمالية وأوصلت بزيادة الاستثمار العمومي والإنفاق على الخدمات الأساسية وخاصة الصحية بنسبة لا تقل عن 15% من الميزانية قصد سد الفجوة بين الخدمات الخاصة والعمومية وسد الثغرات أوجه التفاوت الاجتماعي" (ص44) .

خاتمة:

وكالعادة بعد كل جائحة، ارتفعت عديد الأصوات منادية بالتركيز على ما بعد الكورونا لامتصاص تاثيراتها السلبية ولمراجعة الاختيارات الاقتصادية القائمة والتي ساعدت على بروز وانتشار الجائحة الحالية .
 
لقد أفضى المحافظة على منوال التنمية القديم من جانب الطبقة السياسية الحاكمة في تونس منذ سنة 2011 وليومنا هذا، على احتداد أزمة المالية العمومية خلال سنة 2020-2021،وفقدان  البلاد السيادة الغذائية والتدحرج إلى أسفل سلسلة القيمة المضافة واندثار القدرة على التخطيط الاقتصادي ،وخاصة الاعتماد على الديون الخارجية والارتهان للمؤسسات الدولية المانحة.
 
ويمتاز المنوال الاقتصادي التونسي بضعف قيمة العمل، والتقيُّد بأجندات خارجية والانسياق الأعمى وراء سياسات التبادل الحر وتهميش القطاعات الطبيعية كالفلاحة، والتركيز على القطاعات الثانوية والريعية والاستنزافية، مثل السياحة. وهو منوال غير منتج ولا يخلق مواطن شغل، ومكبل للاقتصاد الطبيعي العضوي ومُفقر للعامة ومتسبب في كوارث اجتماعية صحية لا تحصى ولا تعد. إن إعادة النظر فيى منوال الاقتصادي  مسألة على غاية من الاستعجال والأهمية لكنها تعني مواجهة مباشرة مع الطغمة الرأسمالية الطفيلية المتمعشة منه التي لا مصلحة لها في تغييره، بل تعمل بنسق حثيث على الإبقاء عليه ومزيد تكييفه لصالحها.

وإجمالا هناك ثلاثة أنواع من المساهمات منها:

1 ـ الشاملة الهادفة إلى جمع بين عديد الإشكاليات التي تخص الاستثمارات وإنتاج الثورة وتوزيعها مع تركيز على المنتوج العمومي هذا النوع من المساهمات يهدف بالأساس الى تجديد النظام الرأسمالي وانقاذه من لانهيار.

2 ـ ومنها من ينطلق من نقد العولمة النيولبرالية ليركز على بعض الإشكاليات الاستراتيجية التي تخص بالأساس السيادة الوطنية والجغرافية والاقتصادية العالمية والتقسيم الدولي للعمل والاتفاقيات التجارية الخ... 

وأخيرا منها ما يخص المؤسسات الاقتصادية وبعض طرق التصرف وإدارة الاعمال التي اهملت كل شيء واكتفت بالتركيز على الضغط على التكاليف وتحقيق المنافسة واكثر مرابيح على المدى القصير لإرضاء المساهمين في رأس مال المؤسسات .
 
يُعَدُّ هذا الكتاب من الكتب القيمة جدَا في دراسة هذه الجائحة وتداعياتها الخطيرة، وكذلك ارتباطها الصميمي بمنوال التنمية القائم في تونس، والذي وصل إلى طريق مسدود، ويحتاج إلى تغييره بمنوال تنمية جديد، لكنَّ عملية التغيير هذه تصطدم بأوليغارشية طفيلية فاسدة تقف على على رأس النظام الاقتصادي الريعي، هدفها المراكمة السريعة للربح والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها. وهي تتكون من كبار رؤوس الأموال وثلة من المسؤولين الساميين، تحيط بهم شبكات علاقات في الدولة والمنظمات والمؤسسات، ومحمية من قبل الطبقة السياسية الحاكمة التي تدعي أنها تدافع عن الثورة. 

وترتبط هذه الأوليغارشية الطفيلية الفاسدة خارجيا بالدوائر المالية وبالاقتصاد المعولم عن طريق شبكات التبادل الحر والعلاقات مع الممولين والبنوك والمستثمرين الأجانب، من داخل ومن خارج الدولة. مما يجعلها قناة للمصالح الخارجية في تونس. تصدر عن هذه الأوليغارشية الطفيلية أهم السياسات العمومية المالية والتنموية والتحفيزية والحمائية التي تتحكم في العلاقات الاقتصادية، وذلك مهما كانت نتائج الانتخابات كما لاحظناه في السنوات العشر الأخيرة.

على المستوى الاقتصادي، تتموقع هذه الأوليغارشيا الطفيلية بالخصوص في ثلاث أصناف من الأنشطة: القطاعات الريعية البحتة كالصناعات الاستخراجية والاتصالات والمالية والتجارة المبنية على الملكية الفكرية، والقطاعات التي تستغل اليد العاملة الرخيصة كالنسيج والصناعات الغذائية والخدمات، والقطاعات التي تحتكرها الدولة أو تحفزها أو تمنعها. وهي إما قطاعات تتمتع بامتيازات ضخمة أو بحماية خاصة، مما يفسر تحولها في الأخير إلى قطاعات تولّد ريع المواقع.

تمتاز هذه الأوليغارشية الطفيلية الفاسدة بقُدرتها على تطويع القوانين لخدمتها وتكييف السياسات العمومية بما يخدم مصالحها، مُتماهية مع الهيمنة الخارجية. وهي تتموقع أيضا في أهم التمثيليات النقابية والأطر التفاوضية، والطبقة السياسية الحاكمة، وتلعب دورا واضحا في رسم السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالحها ويقصي مصالح بقية الفئات الاجتماعية، ولعل كارثة جائحة كورونا كشفت عن الوجه القبيح لسياساتها. إذ تعتبر منبعا لا ينضب للفساد بكل أنواعه، وحاضنة لتبييض الأموال وبوابة للتهرب الضريبي كما بينته وثائق باناما وفضائح البنوك العمومية.

 

إقرأ أيضا: محاولة لفهم انتشار كورونا في تونس وسبل مواجهتها (1من2)


التعليقات (0)