كتاب عربي 21

دروس أساسية من الخبرة الأفغانية... المواطنة من جديد (65)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

في مقال سابق أشرت إلى الخبرة التونسية بمناسبة الانقلاب الأخير وأثر ذلك على المواطنة، واليوم نتناول دروسا من الخبرة الأفغانية.. في حقيقة الأمر ـ أننا نتحدث عن قانون ماضٍ ـ مفاده "أن الغازي المحتل لا يمكنه أن يقيم ديمقراطية في بلد احتله، وأن المنقلب لا يمكن أن يشيد أسسا للحرية، أو يحقق المواطنة الحقيقية". 

ومن هنا فإن هذه الفكرة التي تتعلق بالمواطنة والخبرة التي ترتبط بدروس التجربة الأفغانية على امتدادها؛ خاصة بعد دخول حركة طالبان للعاصمة كابل، وبعد فشل الأمريكان والخروج المدوي، فإن الأمر يتكامل مع ضلعه الثالث في ذلك المثلث ألا وهو العبرة، والدروس المستفادة من تلك الخبرة.. المثلث إذن إنما يشير إلى الفكرة والخبرة والعبرة، وغاية الأمر في ذلك نؤكد أيضا أنه مع تعدد الخبرات وجبت المقارنات، وأن المقارنات يستفاد منها عبر كثيرة، كما يملي علينا التاريخ دروسا مهمة وكبيرة. 

إن النموذج الأفغاني يعد في ذاته حالة متفردة؛ هكذا يجب أن نتعلم هذا الأمر من تلك الخبرة ولا نعالجها وفقا لأهواء هنا أو هناك في إطار احتفالي أو في إطار يقوم على الإدانة والتشويه وصناعة الصورة والمواقف المسبقة، علينا أن نخرج من كل ذلك إلى دروس حقيقية تتعلق بقضايا بناء الدولة والديمقراطية والانتقال السياسي وبناء التنمية والاهتمام بمعاش الناس وضروراتهم الأساسية، والتأسيس لحالة انتقال سياسية تقوم على التوافق، أردنا ونحن نتحدث عن النموذج الأفغاني المتفرد أن نشير إلى أن الأفغان في خبرتهم إنما يؤسسون هذا التفرد من خلال خبرة التاريخ التي حملت مقولة يتجدد ترديدها عند هزيمة قوى كبرى استهدفت بلاد الأفغان ولكنها في كل مرة خرجت مهزومة مطرودة، وقد رددها أيضا "بايدن" في خطابه بعد دخول قوات طالبان إلى العاصمة كابل "أن أفغانستان مقبرة الامبراطوريات".

وأتذكر هنا أستاذنا الدكتور حامد ربيع رحمة الله عليه الذي كانت واحدة من نبوءاته المتقدمة والصادقة، إذ أكد أن الاتحاد السوفييتي سيسقط؛ وأن أهم أسباب سقوطه هو دخوله بلاد الأفغان، وأن هزيمته من بعد ذلك مؤكدة، تعجب البعض من تلك النبوءة في حينها ولكن من أصابته الدهشة لعله غفل عن حقيقة تاريخية كبرى "أن بلاد الأفغان مقبرة الإمبراطوريات"، هذا الدرس الذي استند إليه كل هؤلاء، من يقرأ التاريخ ويحلل، ويعرف الوضع الجغرافي الخاص والفريد للحالة الأفغانية والموقع الجيوسياسي، وكذلك تلك التركيبة التعددية إنما تشكل في حقيقة الأمر حقائق في بلاد الأفغان ولغزا يستعصي على الإدراك في ذات الوقت، وهو أمر يستحق الدراسة والاهتمام، وتظل الحالة القبلية والجغرافيا الجبلية من عناصر مواجهة الغازي الوافد، مضافا إلى كل ذلك تلك القيم الجهادية التي استقرت في وجدان بعض هؤلاء والذين قاموا بمواجهة الغازي المرة تلو المرة. 

ومن ثم فإن قياس هذه الخبرة على خبرات أخرى أو ربط خبرات أخرى بها من مثل هؤلاء الذين يتحدثون عن النموذج المسلح لحركة طالبان ونجاحه باعتباره بديلا للحركة السلمية في الثورات العربية هو أمر يشير إلى حال الغفلة من هؤلاء وعدم تقدير فرادة الخبرة الأفغانية في عمق ذاكرتها التاريخية، وفي وضعها الجغرافي والجيوسياسي ومواجهة غازٍ محتل خارجي.

 

إن إنشاء منطقة محصنة تسكنها النخبة / العصابة وأصحاب مصالح وشبكات فساد، حينما تلوذ بهذا المكان المحصن اعتقادا منهم أنه "مانعتهم حصونهم"؛ فإنهم لم يتعلموا الدرس بعد، ذلك أنه حينما تنوي الشعوب أن تقوم بالتحرير وتدق ساعة التغيير، فإن الأمر جد مختلف، وأن هؤلاء الذين كانوا يحتمون بتلك المنطقة، يفرون منها كالفئران المذعورة،

 



هذا هو الدرس الأول، أما الدرس الثاني يتمثل في أن الغازي لا يمكنه أن يبني دولا أو يقيم ديمقراطية أو يحفظ مواطنة، حتى عندما بنى مؤسسات لم تكن إلا مؤسسات زائفة في خدمة المحتل الغازي وأذنابه لا في خدمة الوطن والمواطن، فالمشهد يؤكد هذه الحقيقة؛ فالغازي لا يحترم مواطنة أحد ولكنه يصطنع ذيولا وأذنابا وعملاء فسدة، يعملون على تكوين شبكات من الفساد تسند الغازي المحتل والمستبد الطاغية معا، ولعل هذا التصريح الذي أكد عليه بايدن في خطابه كان مؤشرا واضحا على تلك الحقيقة حينما أكد أنه لم يكن أبدا من أهدافنا أن نبني دولة أو نبني  ديمقراطية، هكذا يحاول أن يغطي فشله مدركا دائما وأبدا أن الغازي يؤسس لعمالة وحالة فساد لا يبني هذا ولا ذاك دولة ولا يحمي أو يحفظ مواطنة. 

أما الدرس الثالث يتعلق بسابقه فيؤكد على أن مشروع المنطقة الخضراء هو نموذج فاشل ومنهار لا محالة، فشل في العراق بعد احتلاله وغزوه وما تزال وقائع الاستهداف بين الحين والآخر تكرس هذا الفشل سواء في حماية من يسكنونها أو منع الشعب من القيام بالثورات والاحتجاجات، كذلك فإن المشهد الأفغاني أيضا فشلت فيه هذه النظرية، ولعل شواهد الهروب الأمريكي المتعجل من أفغانستان تدل على ذلك بما رافق هذا المشهد من تعلق بعض المواطنين الأفغان بطائرة أمريكية أثناء إقلاعها، والشاهد الآخر يتعلق بجمع الكلاب الأمريكية غير آبه من يقوم بذلك بالبشر حتى هؤلاء من العملاء والذيول التي اصطنعها لنفسه. 

إن ذلك يؤكد تلك الحقيقة الكبرى، إن إنشاء منطقة محصنة تسكنها النخبة / العصابة وأصحاب مصالح وشبكات فساد، حينما تلوذ بهذا المكان المحصن اعتقادا منهم أنه "مانعتهم حصونهم"؛ فإنهم لم يتعلموا الدرس بعد، ذلك أنه حينما تنوي الشعوب أن تقوم بالتحرير وتدق ساعة التغيير، فإن الأمر جد مختلف، وأن هؤلاء الذين كانوا يحتمون بتلك المنطقة، يفرون منها كالفئران المذعورة، لا يمكنهم بأي حال من الأحوال أن يقفوا في مواجهة مطالب التحرير والتغيير.

 

إنه الدرس الذي يؤكد الحقيقة الكبرى في هذا المقام وسقوط "نظرية المنطقة الخضراء الآمنة والحصينة"؛ التي تقوم على إمكانية انفصال النخبة وتأمينها وضمان حمايتها من شعبها ومن أشواقه للحرية والتغيير، إنها السنة الماضية التي يجب أن نتعلمها؛ وأن أمر "العاصمة الإدارية في مصر" التي يدشنها المنقلب السيسي ستشهد نفس المصير إن عاجلا أو آجلا، لأنها لا تزال تؤمن بجدوى نظرية المنطقة الخضراء والتي ستكون عليهم خرابا يبابا، بانفصالهم عن الناس وعن مطالبهم الحقيقية.
  
الدرس الرابع يتعلق بإدراك طالبان وهي تتحرك في ظل وسط غير موات في الداخل وفي الخارج وعلى المستويات الثلاث الداخلية والإقليمية والدولية، فإن عليها أن تستوعب المعطيات المختلفة وأن تؤسس لبناء الدولة والمجتمع والحفاظ على المواطن والوطن، ومن هنا فإنها تجابه مجموعة من التحديات تشكل خطورة حالّة فهي تواجه صناعة الصورة المشوهة والمواقف المسبقة وحماية مكتسبات التحرير، كذلك فإنها تواجه مسألة البناء الداخلي التي يجب ألا تستثني فيها تعظيم قدراتها من حلفاء وأُصدقاء يساندونها في تلك المعارك المستقبلية وفي مواجهة تلك التحديات الداخلية. 

الحديث هنا عن باكستان وعن تركيا وعن قطر ليشكل هذا الثلاثي أرضية غاية في الأهمية لبناء المجتمع الأفغاني ونموذجه الإنمائي، ومن ثم على طالبان أن تتفهم هذه المعادلة وأن تقيم استراتيجيات تتوافق مع كل المعاني التي تبرز معنى التعاقدية في الوطن، ومعنى الجماعة الوطنية الأفغانية، ومعنى مصلحة المواطن والوطن لبناء مؤسسات الدولة التي تقوم بالوظائف الأساسية وتشكل رافعة للمواطن الأفغاني في اطار القاعدة القرآنية "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
 
بالإضافة لبناء السياسات التي تؤسس لعملية انتقال سياسي آمن ومضمون وحماية مكتسبات التحرير بمكتسبات أخرى متراكمة في ضمان الاستقلال الوطني وتماسك الجماعة الوطنية، بما يضمن إدارة الاختلافات داخل أفغانستان وإدارة التعدد الفاعلة والراشدة ذلك أن الغازي الذي استهدف أفغانستان لمدة جيلين "أكثر من أربعين عاما" الغزو السوفييتي والغزو الأمريكي مع التحالف الغربي، أقام وجوده على قاعدة صناعة الفرقة والحرب الأهلية التي اصطنعها في أشكال متعددة، وبما أن الغازي المحتل لا يبني مواطنة حقيقية، فإن طالبان وهي تحكم مطالبة برسم استراتيجية فاعلة لبناء المواطنة بصورة متكاملة لبناء الدولة والشروع في التنمية وتدبير معاش المواطنين وإحداث حالة من الاستقرار السياسي مستقبلا من خلال انتقال سياسي آمن يقوم على قاعدة "كرامة المواطن ومصلحة الوطن" في إطار يتعلق بالاستقلال الوطني، وسياقات ترتبط بالاستيعاب لا الاستبعاد؛ وخطاب لابد وأن يتضمن كل المفردات التي تتعلق بشكل إيجابي بالمفردات التي تشكل نهوضا للوطن والمواطن معا في إطار الدولة والمجتمع تكاملا وتكافلا، ومن ثم نؤكد أنه ليس هناك أكثر من النموذج الأفغاني في حاجة إلى "المصالحة المجتمعية" الحافظة لاستقلال الوطن وحماية حقوق المواطنة.  


التعليقات (0)