أفكَار

العثماني من السياسة إلى الفكر.. مدنية الدولة في الإسلام

الدكتور سعد الدين العثماني اشتغل بالسياسة دون أن يهمش الجانب الفكري..
الدكتور سعد الدين العثماني اشتغل بالسياسة دون أن يهمش الجانب الفكري..

يتميز الدكتور سعد الدين العثماني عن غيره من قيادات الحركات الإسلامية بكونه ظل يشتغل بالحقل السياسي دون أن يترك حقل التفكير النظري، إذ حاول أن يستعين بالتراكم الذي حصله في دراساته الأصولية من أجل التأصيل لنظراته السياسية، والمفاهيم التي تطورت في فكره السياسي، وبشكل خاص، ما يرتبط بمدنية الدولة والديمقراطية ودور الدين في المجال العام، وحدود تأثيره في السياسة.

ظلت أطروحة التصرفات النبوية الشاغل الأساسي في فكر الدكتور العثماني مند نهاية الثمانينيات، ودارت مختلف كتاباته حول هذا الموضوع، إذ حاول أن يجعل منه السند التأصيلي لنظراته السياسية، بل جعله منطلقا لطرح بعض أفكاره الجريئة، والتي وصلت حد حصر دور الدين في مجال السياسة في القيم الناظمة، وإنكار وجود أي نص تفصيلي يؤطر المجال العام.

ستحاول هذه الورقة، أن تتابع أطروحة الدكتور سعد الدين العثماني، من خلال أدبياته المختلفة، وذلك باحترام عنصر اطرادها في الزمن، مع تتبع تطورها والجديد الذي جاءت فيه في سياق تراكمي.

مسار من البحث في نظرية التصرفات

عادة ما تطرح صعوبات كثيرة عند الخوض في حفريات فكرة أو اجتهاد تقدم به أحد رموز أو مفكري الحركات الإصلاحية. لكن، بالنسبة إلى الدكتور سعد الدين العثماني، فقد أعفى الباحثين عن مسار تشكل أطروحة التصرفات النبوية السياسية عنده، من خلال الإشارة إلى جنينياتها الأولى، فتحدث عن خمس محطات أساسية، ابتدأت بمقالته "السنة والفقه المقاصدي"، التي كتبها في مجلة الفرقان في ثلاث حلقات (1988)، ثم كتابه "المنهج الوسط في التعامل مع السنة" الذي صدر سنة (2010)، ثم "جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية" (2013)، فكتابه "الدين والسياسة: تمييز لا فصل" (2015) وكتاب "الدولة الإسلامية: المفهوم والإمكان"، إلى أن اكتملت الأطروحة في كتابه الأخير: "التصرفات النبوية السياسية".
 
التصرفات النبوية والتقدير المصلحي

تتعرض مقالة: "السنة والفقه المقاصدي"، لأقسام تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وتركز بشكل خاص على تصرفاته بالإمامة، وكونها تصدر من الرسول بصفته رئيس الدولة، الذي يبني قراراته على محض المصلحة العامة، وأنها ليست سنة تشريعية توجب الاقتداء بها، وإنما الذي ينبغي الإفادة فيه منها هو التمسك بالمنهج الذي يحكمها.

 



ويشرح العثماني بعض لوازم هذا المنهج، فيرى أن من مقتضياته، أن يتم إعادة النظر في فهم السنة، وأنه ليس كل ما ورد فيها من تصرفاته عليه السلام واجبة الاتباع، بل منها التصرفات السياسية (بالإمامة)، التي ينبغي فيها الالتزام بالمنهج لا بالأحكام، وأن عدم الالتزام بتصرفات الرسول بالإمامة مراعاة لمقاصدها ليس خروجا عن السنة ومخالفة للرسول، بل هو عين التزام السنة، وأن الواجب على كل جهة مكلفة بالتشريع والتسيير، الاجتهاد في تلك التصرفات، لتحقيق مقاصد الشرع، ببدائل مناسبة ومكافئة.

المنهج الوسط في التعامل مع السنة

لا تقدم البداية الثانية، أي كتابه "المنهج الوسط في التعامل مع السنة" أي جديد يذكر على مستوى تطوير الأطروحة، فضمنه، تم إعادة التأكيد على أنه ليس كل تصرف سنة، وإن كانت كل سنة تصرفا نبويا، فضلا عن إعادة التذكير بأقسام تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها على ثلاثة أقسام: تصرفات في الدين أوحيت إليه وكلف بتبليغها، وتصرفات في الدين اجتهد فيها الرسول، لكن الوحي سدده فيها، وتصرفات في أمور الدنيا، ليست بوحي، ولم يتكلف الوحي بتسديدها. 

 



التطور الوحيد الذي قدمه هذا الكتاب، يتعلق بالخلاصة التي انتهى إليها، سواء في مقالاته الثلاث أو في هذا الكتاب، أي تنوع التصرفات، وأنها ليست في مستوى واحد، من حيث دلالتها التشريعية، فقد نبه العثماني إلى الأثر الذي يترتب عن إعادة فهم السنة، باستحضار تنوع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عدم تحصيل الوعي بهذه المستويات، يترتب عنه انتشار الفهم الحرفي والظاهري، وفتح باب الغلو والتشدد والتطرف.

جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية

في المحطة الثالثة، أي كتابه: "جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية"، ليس ثمة من جديد على مستوى تطوير الأطروحة، سوى ما كان من محاولة تأصيلها داخل المنظومة الأصولية والمذهبية المالكية المغربية، إذ حاول أن يؤصل لتعدد مستويات تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، والصفة الاجتهادية لتصرفاته بالإمامة، والتمسك بالمنهج المؤطر لهذه التصرفات، لا الجمود على الأحكام الجزئية الواردة فيها، وذلك من خلال اجتهادات الإمام مالك ابتداء، ثم تنظيرات  الفقهاء والأصوليين المالكية، فتوقف الكتاب على نماذج وشواهد تبين عمل مالك بما يخالف الحكم الجزئي الوارد في الحديث، التزاما منه بمنهج فهم تصرفاته عليه السلام بالإمامة، فاستدل باجتهاد الإمام مالك في تحديد الأسعار وحكم سلب القتيل في الحرب، وإحياء الأرض الموات، والنهي عن الانتعال قائما، ودعوته هند بنت أبي عتبة لأخذ ما يكفيها وولدها من مال أبي سفيان بسبب شحه، ومعانقة القادم من السفر. 

وتوقف العثماني على توجيه الإمام مالك للأحاديث النبوية، وعدم حملها على التشريع، فحملها الإمام مالك في هذه النوازل المختلفة، إما على النظر والتقدير المصلحي، أو الفتوى الموجهة لشخص دون آخر، أو التصرف الخاص بشخص معين لا يتعداه لغيره.

 



ولم يتوقف العثماني في جهده التأصيلي على اجتهادات مالك فقط، وإنما مد التأصيل لجهود المالكية في تطوير النظر المنهجي في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، واختلاف المقامات التي تصدر عنه، وأثر ذلك في التعامل مع السنة النبوية، مذكرا بجهود ابن عبد البر وأبي العباس القرطبي في بيان التصرفات الإرشادية وتحديد سماتها وأمثلتها، وجهود القاضي عياض وشهاب الدين القرافي، في تصنيف التصرفات النبوية والتمييز بين أنواعها.

وبالإضافة إلى ما استثمره من خلاصات معرفية، تتعلق بجهود المالكية وكيفية اعتنائهم بتطوير منهجية النظر إلى تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أعاد التذكير بالخلاصتين الواردتين في كتابه "المنهج الوسط"، والمتعلقتين بترشيد فهم السنة النبوية، وسد الباب على الفهم الظاهري والحرفي المفضي إلى التطرف والغلو والتشدد.

الدين والسياسة تمييز لا فصل

في المحطة الرابعة، أي كتابه، "الدين والسياسة، تمييز لا فصل"، ربما اتضح المقصود أكثر بهذا التأسيس الأصولي المنهجي، الذي انطلق من التمييز بين تصرفات الرسول عليه الصلاة والسلام. ومع أن المضمون لم يتغير، وبقي مركزا على تصنيف هذه التصرفات، وبيان جهود العلماء (وبشكل خاص الإمام القرافي) في وضع ضوابط للتمييز بينها، وما يترتب عن ذلك من التمييز داخل هذه التصرفات بين ما له حكم السنة التشريعية، وما لا يدخل تحت مسماها وحكمها. فرغم استعادة هذا المضمون، إلا أنه أضاف إلى الخلاصات السابقة المستثمرة منه، خلاصات أخرى، هي أقرب ما تكون لحقل الممارسة السياسية منها للحقل المعرفي المعني بفهم السنة.
 
وتظهر هذه الخلاصة المركزية في مقدمة كتابه، فهو يعلن أن القصد من استثمار الإرث الأصولي في مجال التمييز بين تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وبشكل خاص تصرفاته السياسية (بالإمامة)، التأسيس لممارسة سياسية "تنطلق من قاعد شرعية إسلامية صلبة، وتمتاح من مبادئ ومقاصدها، وتستجيب، في الوقت نفسه، لتحديات النهضة والإصلاح في العالم المعاصر".
 
في هذه المحطة، بقي عرض التصرفات النبوية وتصنيفها وبيان مقاماتها مستمرا بالطريقة ذاتها، غير أن ما تغير هو المقاصد المرتبة عن ذلك، وبشكل أساسي، قصد تطوير التجربة السياسية للمسلمين، والخروج من المآزق والانسدادات التي تكبل الكثير، وتمنع من الانطلاقة في التجاوب والتفاعل مع التجربة السياسية المعاصرة. 

يشعر العثماني، في هذه المحطة، بنوع من الحرج في تمييزه بين الدين والدنيا، أو بين التشريع الديني والنظر المصلحي في أمور الدنيا، فيشعر كما ولو كان مناقضا لمفهوم شمول الإسلام، قريبا من الأطروحة العلمانية، فيرفع الحرج بالتمييز بين النظرة الإسلامية الشاملة للعلاقة بين الديني والدنيا، وبين العلاقة الكنسية التي ورثها التصور الغربي، وبإضفاء معنيين على الدين، معنى خاص، يستعمل في النصوص الدينية بمعنى المعتقد والتعبد الديني، ومعنى عام، يشمل جميع أوجه نشاط المسلم، وجميع الأعمال التي يأتيها بما فيها ممارسته السياسية.

يرتب الخلاصات على هذا النظر، فيرى أن التمييز بين الدين والسياسة، يزيل القداسة عن الممارسة السياسية، ويمنع احتكارها باسم الدين، ويخرجها من ساحة اشتغال الفقه المعني باستنباط الحكم من النص، وجعلها مبنية على أساس المصالح المشروعة، كما يساعد هذا التمييز في تطوير الفكر السياسي، وفي التأصيل لمدنية الدولة، واستنادها على الاجتهاد البشري في قراراتها.

 



وهكذا ينتهي العثماني، في المحطة الرابعة، إلى نسف النموذج السلطاني للدولة، وأنه ليس الصورة المثلى لها، وإنما المطلوب إبداع نموذج يتوافق مع العصر، ومع احتياجات المجتمع، ويستفيد من التجارب الديمقراطية، ويؤطر العلاقة بين الدين والسياسة على قاعدة التمييز، وليس الوصل ولا الفصل، بالشكل الذي يكون فيه الدين حاضرا بقوة في الفضاء العام، كمبادئ موجهة وقائدة وروح دافعة للأمة، وليس كأحكام أو سلطة دينية تهيمن على الممارسة السياسية. 

كما ينتهي في الآن ذاته، إلى استبعاد كل النماذج التاريخية للحكم، سواء نسبت للرسول أو للخلفاء الراشدين، معللا ذلك بكونها تجارب نسبية، مرتبطة بظروفها وزمانها، ومصالحها التي كانت مرعية في ذلك العصر، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن الإفادة فيه من هذه النماذج، هو المنهج العام الذي كان يرعى به المصالح والمقاصد، وأسلوب التعاطي مع الواقع المتغير.

ويدخل ضمن مترتبات هذا النظر، التأصيل لعدم التعارض بين الإسلام والديمقراطية، وإمكان الإفادة منها، بشرط ملاءمتها مع المقومات الدينية للأمة، ما دامت الديمقراطية شكلا حديثا من أشكال تسيير الحكم، وما دام الإسلام لم يتضمن شكلا محددا لتدبيره.

أطروحة التصرفات النبوية تؤصل لمدنية الدولة

في المحطة الخامسة (الدولة الإسلامية، المفهوم والإمكان)، قام العثماني بعرض منتوجه الأصولي الخاص بتصنيف التصرفات النبوية وتمييز مقاماتها بكل تفاصيله، معيدا التأكيد على أهميتها في إحداث تغييرات جوهرية في بنية التعامل مع الأحاديث النبوية، وتوفير أداة منهجية لتجديد الفقه السياسي، والتأسيس لمدنية الدولة، وإخراج السلطة الدينية من دائرة الاشتغال بالقضايا السياسية التي مرجعها إلى السلطة السياسية، وتأطير مساحة الفعل السياسي بالاجتهاد والتقدير المصلحي، لا بالنظر في النصوص واستثمار الأحكام منها، وإبعاد الفقه من حقل السياسة، وعدم تحميله مسؤولية تقديم أجوبة عن قضايا السياسة، وقصر وظيفته في هذا المجال على تأطير النقاش بالإحالة إلى المنطلقات والمبادئ والمقاصد.

لا تختلف المحطة الخامسة كثيرا عن سابقاتها، سوى أن ما يميزها هو تخريج النتائج أكثر من عرض المنتوج الأصولي. فضمنه، أعاد التذكير بأربعة أصول حاكمة للنظرة الشرعية للمجال السياسي: اعتبار السياسة من العاديات، وليس من أمور الدين، وأن النظر إلى السياسة متروك للاجتهاد البشري، وليس للنظر الديني، وأن الأصل في السياسة النظر للحكم والمقاصد، ثم اجتهادية التصرفات السياسية النبوية.

يرتب عن هذه الأصول الأربعة نتائج عدة، منها إخراج المجال السياسي من مجال التعبد، وإناطته بالنظر والتقدير المصلحي، والتأسيس بذلك لمفهوم مدنية الدولة، ومنها أن البحث عن أسئلة شكل الدولة ومدة ولاية الحاكم، أو كيفية تعيينه، أو كيفية انتقال السلطة، أو كيفية تنظيم الشورى، أو الولاية العامة للمرأة، ينبغي النظر إليها من خارج النظر الفقهي، لأنها قضايا دنيوية، وأنه يمكن الإفادة في ذلك من الحكمة الإنسانية، والخبرة التي توفرها تجارب الدول الديمقراطية.

وتبقى النتيجة الكبرى التي رتبها العثماني على الإسهام الأصولي الذي استند إليه، هو نسف مقولة الدولة الإسلامية. فقد أصل طويلا لفكرة التمييز بين الدين والدنيا، وبين التشريع الديني والتشريع الدنيوي، وبين السياسة وبين مرجعية النظام القانوني، وبين الأمة السياسية والأمة الدينية، ليقرر في الأخير جملة خلاصات، تتعلق بمقولة الدولة الإسلامية، منها أن الادعاء بوجود نظام سياسي في الإسلام محدد الشكل يجافي الحقيقة، وأن مفهوم الدولة، بالمعنى الحديث، غير موجود في التاريخ الإسلامي، ولا الإنساني قبل العصر الحديث، وأن التجارب التي تم توارثها عن المسلمين في شكل ممارساتهم للحكم (نموذج الخلافة)، ليست إلا محاولة لفهم وتطبيق المبادئ الإسلامية المؤطرة للمجال السياسي، وأنها لذلك، ليست ملزمة للأمة، لأنها تجارب تاريخية محكومة بسياقاتها وظروفها.

وهكذا، يستثمر العثماني نظرية التصرفات النبوية السياسية، في نسف فكرة إقامة الدولة الإسلامية وذلك من جهتين، الأولى، من خلال تبني نظرية التمييز بين الديني والسياسي، والثانية، من خلال إبعاد الفقه أو النص من تأطير المجال السياسي، إلا من جهة المبادئ والقيم والمقاصد الحاكمة.


التعليقات (2)
محمد
الثلاثاء، 14-12-2021 06:22 م
ايها ا''لمملوك '' ،لقد دخلت مزبلة التاريخ ، بتوقيعك اتفاقية التصهين، بامر من سيدك الذي يملكك عليكم ان تخجلوا من فعلكم توارى افضل .
متابع
الثلاثاء، 14-12-2021 01:44 م
صحيح الاحساس و الغيره نعمه لأن لو كانت لدى هذا التافه ما خرج للناس ثم من يقرأ لمتصهين كتب بالشريعه ؟