كتب

شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام.. قراءة في كتاب

منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي بدأت مشاركة المرأة في الإيمان بالدين الجديد
منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي بدأت مشاركة المرأة في الإيمان بالدين الجديد

الكتاب: "شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام"
المؤلف: د. محمد عمارة
الناشر: سلسلة دراسات إسلامية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة


يتناول هذا الكتاب بعض الموضوعات التي أثارت كثيراً من الجدل بين الناس في الفترة الأخيرة، خاصة تولية المرأة منصب القاضي، وحاول الرد على شبهات واتهامات الآخرين حول حقوق ومكانة المرأة في المجتمع الإسلامي.

يقول المؤلف: يوم انتقال رسول الله (ص)، إلى الرفيق الأعلى (11هـ /632م)، كان تعداد الأمة التي دخلت الدين الجديد وانخرطت في رعية الدولة الوليدة 124 ألفا من المسلمين والمسلمات، وعندما رصد علماء التراجم والطبقات أسماء الأعلام والصفوة والنخبة التي تربت في مدرسة النبوة، وتميز عطاؤها في مختلف ميادين العطاء، رصدوا أسماء نحو ثمانية آلاف من صفوة الصفوة، فكان من بينهم أكثر من ألف من النساء، أي أن التحرير الإسلامي للمرأة قد دفع إلى مراكز الريادة والقيادة أكثر من واحدة من بين كل ثمانية من الصفوة والنخبة، إبان ثورة التحرير الإسلامي، في أقل من ربع قرن من الزمان، وهي أعلى نسبة للريادات النسائية في أي ثورة من ثورات التحرير أو نهضة من النهضات.

وإذا كانت رياح الجاهلية قد أعادت بعض التقاليد والعادات التي سبقت وسادت مجتمعات ما قبل الإسلام، فإن هذه التقاليد الراكدة لم تستطع غلبة إنجازات التحرير الإسلامي للمرأة، فقد ظلت روح هذا التحرير وثمراته ملحوظة حتى في عصور التراجع الحضاري الذي أصاب العالم الإسلامي.

لقد بدأ الإسلام في طور شريعته الخاتمة والخالدة بالوحي في غار حراء، ومنذ اللحظة الأولى لنزول الوحي بدأت مشاركة المرأة في الإيمان بالدين الجديد، وفي الدعوة إليه والدفاع عنه، والتضحية في سبيله.

بدأت الأمة والجماعة المؤمنة بامرأة، بخديجة بنت خويلد (68 ـ 3ق.هـ/ 556 ـ 620م) رضي الله عنها، وظلت الأمة الإسلامية الجديدة متجسدة في هذه المرأة حتى بدأت دائرة الإيمان بالدين الجديد تضم السابقين والسابقات إلى الإسلام، فآمنت رقية بنت رسول الله مع أمها خديجة، وظلت حياة السيدة خديجة سلسلة من المشاركات الخاصة والعامة في الدعوة الإسلامية إلى أن جاءها اليقين، حتى سمى الرسول (ص) عام موتها بـ "عام الحزن"، الحزن العام، وليس فقط الحزن الخاص.

وكانت سمية، أم عمار بن ياسر في طليعة الشهادة والشهداء في الإسلام، بها بدأت المشاركة الدامية بالروح والحياة في سبيل نصرة الدين الجديد.

وشاركت المرأة المسلمة في الهجرة إلى الحبشة سنة 5 ق.هـ، وهي هجرتان، كان فيهما ثماني عشرة امرأة، مع ثلاثة وثمانون رجلاً. 

وشاركت في مقاومة العزل والحصار الاقتصادي والاجتماعي اللذين فرضهما الشرك على المؤمنين ومن ناصرهم في شعب بني هاشم ثلاث سنوات، تحملت المرأة فيها ما تحمله الرجال، بل ربما أكثر، بحكم مسئوليتها عن المعاش وعن الصغار.

وإذا كان تأسيس الدولة الإسلامية الأولى هو قمة المشاركة في العمل السياسي والدستوري العام، فقد شاركت المرأة المسلمة في بيعة العقبة التي كانت بمثابة "الجمعية العمومية لعقد تأسيس الدولة الإسلامية"، فمن بين الخمسة والسبعين الذي عقدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقد تأسيس هذه الدولة، كانت هناك امرأتان، هما: أم عمارة، نسيبة بنت كعب الأنصارية، وأم منيع، أسماء بنت عمرو بن عدي الأنصارية.

بايعت المرأة على الدخول في الإسلام كما بايع الرجال، ثم اشتركت مع الرجال يوم الحديبية في البيعة تحت الشجرة على "الحرب والقتال".

وإذا كان حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، قد مثل بداية التحول العظيم للدعوة الإسلامية، عندما أصبحت فيه القلة المستضعفة "أمة" و"مجتمعاً"، فلقد شاركت المرأة في هذا العمل العام، عندما أئتمنت أسماء بنت أبي بكر وأختها عائشة على هذا السر الذي توقف على حفظه وصيانته مستقبل الإسلام وأمته، وعندما شاركت أسماء في التخطيط والتنفيذ لهذا الحدث المحوري العظيم.
 
وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، التي بايعت على الدخول في الإسلام قبل الهجرة، وبايعت على تأسيس الدولة الإسلامية مع الرجال في "العقبة"، وبايعت مع الرجال بيعة الرضوان تحت الشجرة (عام الحديبية سنة 6 هـ)، تقاتل قتال الأبطال في غزوة أحد، عندما انهزم المسلمون ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العدد القليل الذي يعد على الأصابع، لقد صمدت أم عمارة، ومعها ضمن من صمد زوجها وولداها، وكانت رسالتها يومئذ حماية رسول الله، حتى لقد افتدته عندما هجم ابن قميئة يريد طعنه، فتلقت الطعنة في كتفها فداء للرسول عليه الصلاة والسلام، ولقد كان الرسول من فرط شجاعتها وصمودها يطلب من الفارين أن يتركوا لها دروعهم وأسلحتهم، ويطلب من ابنها أن يربط جراحها كي لا تنزف دماؤها، ويقول إعجاباً وتعجباً من شجاعتها: "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة، ما التفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني، لمقام نسيبة بنت كعب يوم أحد خير من مقام فلان وفلان من الرجال".

ويقول المؤلف في (صفحة 70): "يكفي أن يتصفح المتصفح بعض العناوين لأبواب من كتب صحيح البخاري ليرى حقائق مشاركة النساء للرجال في مختلف ميادين العمل العام، هذه المشاركات تشهد عليها عناوين مثل:

ـ باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء
ـ باب جهاد النساء
ـ باب غزو المرأة في البحر
ـ باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال
ـ باب بيعة النساء.. إلخ.. إلخ

إنها بعض من أبواب من كتب صحيح البخاري، تمثل في الحقيقة أبواب كتاب التحرير الإسلامي للمرأة، قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.

خمس شبهات حول النموذج الإسلامي لتحرير المرأة:

1 ـ الشبهة الأولى: ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر

يزعم دعاة المساواة بين المرأة والرجل أن الإسلام ظلم المرأة وتعدى على حقوقها المالية، إذ جعل نصيبها في الميراث نصف نصيب الذكر، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، ويزعمون أن ذلك انتقاصاً من أهلية المرأة وجعلها نصف إنسان.

يفند د. عمارة هذا الزعم، فيقول في (صفحة 96): "التمايز في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة، في فلسفة الفقه الإسلامي، إنما تحكمه ثلاثة معايير:

أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكراً كان أو أنثى وبين المورث المتوفي، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.

ثانيهما: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها، فبنت المتوفي ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى ـ وترث البنت أكثر من الجد، حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، فتنفرد البنت بنصف الميراث.

 

هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل، وبذلك تسقط الشبهة الأولى من الشبهات المثارة حول أهلية المرأة كما قررها الإسلام.

 



وثالثهما: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى، لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى، لذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، فقالت الآية الكريمة: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، ولم يقل: يوصيكم الله في عموم الوارثين، والحكمة في هذا التفاوت، في هذه الحالة بالذات، هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى ـ هي زوجته مع أولادها، بينما الأنثى الوارثة أخت الذكر، إعالتها مع أولادها فريضة على الذكر الآخر المقترن بها.

والاستقراء لحالات ومسائل الميراث يقول لنا:

1 ـ إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2 ـ هناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً.
3 ـ وهناك حالات عشر أو تزيد، ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4 ـ وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.

أي أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل، وبذلك تسقط الشبهة الأولى من الشبهات المثارة حول أهلية المرأة كما قررها الإسلام.

2 ـ الشبهة الثانية: شهادة المرأة نصف شهادة الرجل

مصدر الشبهة التي حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)، هو الخلط بين "الشهادة" وبين "الإشهاد" الذي تتحدث عنه الآية الكريمة، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معياراً لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها، وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة بصرف النظر عن جنس الشاهد، أما آية سورة البقرة التي قالت "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، فإنها تتحدث عن أمر آخر غير "الشهادة" أمام القضاء، تتحدث عن "الإشهاد" الذي يقوم به صاحب "الدين" للاستيثاق من الحفاظ على دينه، فالآية موجهة لصاحب الحق ـ الدين ـ وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع، بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق، ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدين، وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط إلى دائن خاص، وفي حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية، فهو دين إلى أجل مسمى، ولابد من كتابته، ولابد من عدالة الكاتب... والإشهاد لابد أن يكون من رجلين من المؤمنين، أو رجل وامرأتين من المؤمنين، وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة... وليست هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة ولا في المبايعات.

3 ـ الشبهة الثالثة: النساء ناقصات عقل ودين

المصدر الحقيقي لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة، التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وهي عادات وتقاليد جاهلية حرر الإسلام المرأة منها، لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية، في عصور التراجع الحضاري.

فبعد أن بلغ التحرير الإسلامي للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه:

ـ طليعة الإيمان بالإسلام، والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام.
ـ وطليعة شهداء الإسلام، كما جسدتها شهادة سمية بنت خباط، أم عمار بن ياسر.
ـ وطليعة المشاركة في العمل العام، السياسي منه، والشورى، والفقهي، والدعوي، والأدبي، والاجتماعي، بل والقتالي، كما تجسدت في كوكبة النخبة والصفوة النسائية التي تربت في مدرسة النبوة.

بعد أن بلغ التحرير الإسلامي للمرأة هذه الآفاق، حاولت العادات والتقاليد إعادتها إلى أسر الأغلال، حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى:

ـ أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: إلى مخدع الزوجية، أو إلى القبر الذي تدفن فيه.. فهي عورة لا يسترها إلا القبر!.
ـ وشوراها شؤم يجب اجتنابها.

والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد، التي سادت أوساطاً ملحوظة ومؤثرة في حياتنا الاجتماعية، إبان مرحلة التراجع الحضاري، هي التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعي لقيم التخلف والانحطاط التي سادت.

لقد كان الحظ الأوفر في هذا المقام للتفسير الخاطئ الذي ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال: يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن...".

يقول الكاتب في (صفحة 127): "ذلكم هو الحديث الذي اتخذ تفسيره المغلوط ولا يزال "غطاءً شرعياً" للعادات والتقاليد التي تنتقص من أهلية المرأة، الأمر الذي يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث، بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات، وذلك من خلال نظرات في "متن" الحديث ومضمونه، فالذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام، ففي رواية الحديث شك من الراوي حول مناسبة قوله، هل كان ذلك في عيد الأضحى أم في عيد الفطر؟، وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.. كما أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء، ولا يشرع شريعة دائمة ولا عامة في مطلق النساء، فهو يتحدث عن "واقع"، والحديث عن الواقع القابل للتغير والتطور شئ، والتشريع "للثوابت" شيء آخر.

فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب"، رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والإمام أحمد، فهو يصف "واقعاً"، ولا يشرع لتأبيد الجهل بالكتابة والحساب، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة "القراءة" ، "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، ولأن الرسول (ص) الذي وصف "واقع" الأمية الكتابية والحسابية، هو الذي غير هذا الواقع، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء، وذلك امتثالاً لأمر ربه، في القرآن الكريم، الذي علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب"، فوصف "الواقع" كما نقول مثلاً: "نحن مجتمعات متخلفة"، لا يعني شرعنة هذا "الواقع" ولا تأييده، فضلاً عن تأبيده، بأي حال من الأحوال.

 

المسلمون مجمعون على أن الإسلام قد سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة، وولاية وسلطاناً على أموالها، ملكاً وتنمية واستثماراً وإنفاقاً، مثلها في ذلك مثل الرجل سواء بسواء،

 



وإذا كان العقل في الإسلام هو مناط التكليف، فإن المساواة بين النساء والرجال في التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوي الشريف، هي تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام في المساواة بين النساء والرجال في التكليف، ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال، ولكانت تكاليفهن في الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال، لكنها "الرخصة" التي يؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات، كما يؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف.

وأخيراً، هل يعقل عاقل، وهل يجوز في أي منطق، أن يعهد الإسلام، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية، صناعة الإنسان، ورعاية الأسرة، وصياغة مستقبل الأمة، إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبي، الذي ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام، ورسوله الكريم، الذي حرر المرأة تحريره للرجل؟!.

وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهي "بعضكم من بعض"، في قوله تعالى: "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض"، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضاً من الرجل، وكيف حد من طغيان الرجل فجعله بعضاً من المرأة، وليس في الإمكان ما يؤدى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التي تفيض بها طبيعة الرجل والمرأة، والتي تتجلى في حياتهما المشتركة، دون تفاضل وسلطان "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن".

4 ـ الشبهة الرابعة: ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة

المسلمون مجمعون على أن الإسلام قد سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة، وولاية وسلطاناً على أموالها، ملكاً وتنمية واستثماراً وإنفاقاً، مثلها في ذلك مثل الرجل سواء بسواء، والولاية المالية والاقتصادية من أفعل الولايات والسلطات في المجتمعات الإنسانية، على مر تاريخ تلك المجتمعات، وفي استثمار الأموال ولاية وسلطان يتجاوز الإطار الخاص إلى النطاق العام.

والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية على نفسها، تؤسس لها حرية وسلطاناً في شئون زواجها، عندما يتقدم إليها الراغبون في الاقتران بها، وسلطانها في هذا يعلو سلطان وليها الخاص والولي العام لأمر أمة الإسلام.

والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية ورعاية وسلطاناً في بيت زوجها، وفي تربية أبنائها، وهي ولاية نص على تميزها بها وفيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

لكن قطاعاً من الفقهاء قد وقف بالولايات المباحة والمفتوحة ميادينها أمام المرأة عند "الولايات الخاصة"، واختاروا حجب المرأة عن "الولايات العامة"، التي تلي فيها أمر غيرها من الناس، خارج الأسرة وشئونها، مستندين على الفهم المغلوط للحديث النبوي الشريف: "ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة"، وقد وردت لهذا الحديث روايات متعددة، منها: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، و"لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"، وإذا كانت صحة الحديث من حيث الرواية هي حقيقة لا شبهة فيها، فإن إغفال مناسبة ورود هذا الحديث يجعل "الدراية" بمعناه الحقيقي مخالفة للاستدلال به على تحريم ولاية المرأة للعمل العام.

ذلك أن ملابسات قول الرسول (ص) لهذا الحديث تقول: إن نفراً قد قدموا من بلاد فارس إلى المدينة المنورة، فسألهم رسول الله: من يلي أمر فارس؟، قال أحدهم: امرأة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

 

لقد تحدث القرآن الكريم عن ملكة سبأ وهي امرأة، فأثنى عليها وعلى ولايتها للولاية العامة، لأنها كانت تحكم بالمؤسسة الشورية، لا بالولاية الفردية

 



فملابسات ورود الحديث تجعله نبوءة سياسية بزوال ملك فارس وهي نبوءة قد تحققت بعد ذلك بسنوات أكثر منه تشريعاً عاماً يحرم ولاية المرأة للعمل السياسي العام.

لقد تحدث القرآن الكريم عن ملكة سبأ وهي امرأة، فأثنى عليها وعلى ولايتها للولاية العامة، لأنها كانت تحكم بالمؤسسة الشورية، لا بالولاية الفردية، "قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون"، وذم القرآن الكريم فرعون مصر وهو رجل، لأنه انفرد بسلطان الولاية العامة وسلطة صنع القرار "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، فلم تكن العبرة بالذكورة أو الأنوثة في الولاية العامة، وإنما كانت العبرة بكون هذه الولاية "مؤسسة شورية"، أم "سلطاناً فردياً مطلقاً؟".

أما ولاية المرأة للقضاء، والتي يثيرها البعض كشبهة على اكتمال أهلية المرأة في الرؤية الإسلامية، فإن إزالة هذه الشبهة يمكن أن تتحقق بالتأكيد على عدد من النقاط:

أولها ـ أن ما لدينا في تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء هو "فكر إسلامي" و"اجتهادات فقهية"، فالقرآن الكريم لم يعرض لهذه القضية، كما لم تعرض لها السنة النبوية، لأن القضية لم تكن مطروحة على الحياة الاجتماعية والواقع العملي لمجتمع صدر الإسلام، فليس لدينا فيها نصوص دينية أصلاً، ومن ثم فإنها من مسائل الاجتهاد.

ثم أن هذه القضية من "مسائل المعاملات" وليست من "شعائر العبادات"، والمعاملات تحكمها المقاصد الشرعية وتحقيق المصالح الشرعية، ويكفي في "المعاملات" ألا تخالف ما ورد في النص، لا أن يكون قد ورد فيها نص.

وثانيهما ـ أن اجتهادات الفقهاء القدماء حول تولي المرأة لمنصب القضاء هي اجتهادات متعددة ومختلفة باختلاف وتعدد مذاهبهم واجتهاداتهم في هذه المسألة.

وثالثهما ـ أن جريان العادة في العصور الإسلامية السابقة على عدم ولاية المرأة لمنصب القضاء لا يعني "تحريم" الدين لولايتها هذا المنصب، فدعوة المرأة للقتال، وانخراطها في معاركه هو مما لم تجر به "العادة" في العصور الإسلامية السابقة، ولم يعن ذلك تحريم اشتراك المرأة في الحرب والجهاد عند الحاجة والاستطاعة، وهي قد مارست هذا القتال بالفعل وشاركت في معاركه في عصر النبوة والخلافة الراشدة، من غزوة أحد إلى موقعة اليمامة ضد مسليمة الكذاب.

رابعهما ـ أن الفقهاء الذين أجازوا قضاء المرأة في كل القضايا، مثل الإمام محمد بن جرير الطبري (224 ـ 310هـ/ 839ـ 923م)، قد حكموا بذلك لقياسهم القضاء على "الفتيا"، فالمسلمون قد أجمعوا على جواز تولي المرأة منصب الإفتاء الديني ـ أي التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو من أخطر المناصب الدينية، وفي توليها للإفتاء سنة عملية مارستها نساء كثيرات من أمهات المؤمنين وغيرهن.

وخامسهما ـ أن شرط "الذكورة" في القاضي، هو واحد من الشروط التي اختلف فيها الفقهاء، حيث اشترطه البعض في بعض القضايا دون البعض الآخر، وليس فيه إجماع، كما أنه ليس فيه نصوص دينية تمنع أو تقيد اجتهادات المجتهدين.

وسادسهما ـ أن منصب القضاء وولايته قد أصابها هي الأخرى ما أصاب الولايات السياسية والتشريعية والتنفيذية من تطور انتقل بها من "الولاية الفردية"، إلى "ولاية المؤسسة"، فلم تعد ولاية رجل أو ولاية امرأة، وإنما أصبح الرجل جزءاً من المؤسسة والمجموع، وأصبحت المرأة جزءاً من المؤسسة والمجموع.  


التعليقات (1)
بدرالدين فضل
السبت، 09-04-2022 11:52 ص
اللهم دمر أمريكا واليهود كلهم

خبر عاجل