مقالات مختارة

بعيدا عن المغرب… محاولة لفهم الغضب الجزائري من إسبانيا

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

أسال التوتر الدبلوماسي بين الجزائر وإسبانيا حبرا كثيرا. بين مَن رأى أن الحدّة الجزائرية لم تكن ضرورية وأنها ستضر بمصالح الجزائر مثلما تضر بإسبانيا، وقائل إن الموقف كان يتطلب تلك الصرامة والشدّة، جرت نقاشات كثيرة في مدريد والجزائر، وحتى بروكسل.


سأضع جانبا حقيقة أن هذا التشدد نابع أيضا من خلفية التوتر الحاد والمزمن مع المغرب والذي بات أحد محددات عمل الدبلوماسية الجزائرية.


تستطيع الجزائر اليوم أن تدّعي أن «العلاج بالصدمة» أثمر ومكَّنها من تسجيل هدف التعادل في مرمى مدريد، ما يمنحها قليلا من الشعور بالسعادة والرضى الداخلي، حتى وإن لم يُعِد مدريد عن اعترافها بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية.


صدمة إسبانيا اليوم من تعطيل الجزائر معاهدة الصداقة والمعاملات التجارية معها، لا تساويها إلا صدمة الجزائر في آذار (مارس) الماضي غداة إعلان الحكومة الإسبانية موقفها من موضوع الحكم الذاتي. هناك فرق شكلي قد يستحق التنويه إليه، هو أن الجزائر فوجئت بالتحوّل الإسباني بينما كان على مدريد أن تتوقع الرد الجزائري القاسي بعد إشارات غضب استمرت عدة أسابيع.


مهما قيل عن تراجع الدبلوماسية الجزائرية في السنوات الأخيرة، تستحق الأزمة مع إسبانيا أن يُنظر إليها على أنها محطة لافتة سيحفظها تاريخ علاقات البلدين ودول الجوار.


هذا الموقف الذي فاجأ كثيرين ليس وليد صدفة، بل يحتاج إلى إدراجه ضمن تطورات قريبة وبعيدة تحكمت في العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية خلال العقدين الماضيين. يمكن تفسير التشدد الجزائري بأنه جزء من توجه دبلوماسي جديد مدفوع بمعطيَين اثنين: وصول عبد المجيد تبون إلى الرئاسة محليا، وتغييرات في تفاصيل علاقات دول جنوب الكرة الأرضية مع دول الضفة الشمالية، خارجيا.


مؤكد أن تبون يريد ترك بصمته الدبلوماسية. برزت هذه الرغبة فور وصوله للرئاسة ودفعت الأوساط السياسية والإعلامية الجزائرية إلى تبنّي خطاب يروّج لمقولة أن الجزائر ستستعيد مكانتها الدولية وتأثيرها في صناعة القرار الإقليمي. (الكلام ذاته تردد بقوة عند وصول بوتفليقة إلى الحكم في 1999 بعد سنوات عجاف كادت الجزائر أن تُمحى خلالها من الخارطة الدبلوماسية. لكن سرعان ما اتضح أن المخلوع كان مسكونا بنرجسيته وحبه لذاته أكثر من أيِّ شيء آخر).


الشهور التي تلت تولي تبون الرئاسة أعقبتها محاولات محتشمة لوضع الجزائر مجددا على خارطة دبلوماسية المنطقة، فكان الصراع في ليبيا مربع البداية. لكن المحاولات لم تثمر لأنها كانت محتشمة ومرتبكة تقريبا، إضافة إلى أن مياها كثيرة كانت قد جرت تحت الجسور في غياب الجزائر، ولم يكن من السهل ترميم الأضرار واستدراك ما فات.


احتاج الأمر إلى تصعيد وصرامة أكبر تجلَّيَا في التخلي عن حياد أصبح عبئا، واتخاذ موقف أكثر جرأة من الحرب الأهلية في ليبيا، منحاز لطرابلس بوضوح.


تجلى التحوّل الجزائري أيضا في حديث تبون في روما عن مناقشة الوضع في تونس مع الرئيس الإيطالي واتفاقهما على «وجوب مساعدتها على تجاوز أزمتها». خروج آخر عن الحياد، وتطور في الموقف من بلد هو الأقرب إلى الجزائر على الإطلاق. 


التفسير الآخر الذي يجب أن يُساق في محاولة فهم الموقف الجزائري من إسبانيا، يتمثل في التحولات العميقة التي شهدتها العلاقات الدولية في العقدين الماضيين. أبرز عناوين هذه التحولات أن الدول «الصغرى»، في مقدمتها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم تعد تخشى القوى الكبرى، وامتلكت شجاعة خوض المواجهة معها. مواقف وتطورات لم تكن بمثل هذا الانتشار قبل عقدين أو ثلاثة. مثلا: إيران تخوض صراعا طويلا ومريرا مع نصف الكرة الأرضية الشمالي بلا خوف أو كلل. ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، رفض الرد على اتصالات الرئيس بايدن، وفرضَ شروطا لتسوية العلاقة معه. القذافي مارس مثل هذه اللعبة ونجح في العديد من المرات. الإمارات تضغط على الدول الغربية حتى داخل أراضيها وفي شؤونها الخاصة. عبد الفتاح السيسي ابتز إيطاليا، ونجح، في موضوع الطالب جوليو ريجيني فكان أنَّ روما دفنت قضيته قبل القاهرة. المغرب لوى ذراع إسبانيا بالحشيش وبإطلاق قوافل المهاجرين على سبتة ومليلية. ألمانيا تتمرد عن تقاليدها وتخصص تمويلا غير مسبوق للتسلح. الدول الإسكندنافية فقدت الشعور بالأمان في حيادها المسالم. اليابان أصبحت أكثر حضورا في بؤر التوتر عبر العالم. دول الاتحاد السوفييتي السابق ستدفع الغالي والنفيس لتأمن ما تراه شرا يضمره لها الجار الأكبر.


هناك نقاط ضعف فرضت على الحكومات الغربية هذه «التنازلات». الإرهاب، الهجرة والاقتصاد بتفرعاته (طاقة، صفقات، أسلحة.. إلخ). المفارقة أن كل دولة عربية أو إفريقية تمتلك على الأقل ورقة من هذه الأوراق الثلاث تضغط بها لتحقيق مآرب من الغرب أو شراء صمته. ولحسن حظ دول الجنوب أن هذا الغرب يخشى الإرهاب وترعبه الهجرة وأنهكته المتاعب الاقتصادية الداخلية، بسبب انعكاسات هذه الخلطة على اتجاهات الناخبين ومزاج دافعي الضرائب.


أيضا، يعيش الغرب، وللأسباب ذاتها، خلافات تُقسّم صفوفه ككتلة تبدو من الخارج متجانسة ومتحدة. إيطاليا قفزت إلى الغاز الجزائري ما أن شعرت بوجود مشكلة بين إسبانيا والجزائر. المجر ودول أخرى ترفض إلى اليوم مجاراة الاتحاد الأوروبي في حربه الاقتصادية على روسيا. فرنسا وألمانيا غازلتا مصر لتعويض صفقات إيطالية عندما اشتدت أزمة جوليو ريجيني. بريطانيا وأمريكا وأستراليا «ذبحت» فرنسا في صفقة الغواصات النووية المعروفة بـ»أوكوص» صيف 2021 بعد ساعات من اتصالات بين كبار قادة البلدان الأربع.. وهناك حالات مشابهة وستكون.


بردِّها على إسبانيا تكون الجزائر قد التحقت بنادي الضاغطين. لكن خطوتها لم تكن سلسة تماما، إذ أن بيان المقاطعة التجارية لإسبانيا صدر عن جمعية مغمورة تمثل المصارف وليس عن جهة حكومية رسمية. ثم تلاه نصف تراجع يفيد أن العلاقات التجارية لن تتأثر. (لكن) الأخرى هي أن الفرق بين الجزائر والآخرين، أن دولا مثل السعودية والإمارات ومصر تنتمي أصلا إلى المحفل الغربي، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. الجزائر دخيلة على هذا المحفل وفي الوقت ذاته تحاول أن تُبعد عن نفسها شبهة الانتماء للمحور الروسي.


كل هذا يجعل من التوجه الجزائري الجديد، إذا ما استمر، مغامرة قد تكون مكلفة يجب الاستعداد لعواقبها المحتملة، قريبة المدى والبعيدة.

 

(القدس العربي)

1
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 21-06-2022 03:47 م
*** دون الدخول في تفاصيل ما ذكره الكاتب في مقالته، فالواقع أن غالبية العرب بما في ذلك واسعي الاطلاع منهم، لا يفهمون سبب الحماسة الزائدة من جانب الحكومات الجزائرية المتعاقبة على ما يسمونه بحق تقرير المصير للشعب الصحراوي، وإصرار حكام الجزائر عليه، وهم الذين لم يعترفوا في أي يوم بحق الشعب الجزائري نفسه في تقرير مصيره واختيار من يحكمه، إلى درجة تصعيد الأمور على خلفية تلك القضية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب جارتها الشقيقة في 24 اغسطس 2021 ، ثم استمرار التصعيد ضد إسبانيا على خلفية اعتراف مدريد بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية، والغريب أن الكاتب يصف تلك القطيعة الاقتصادية والسياسية التي تضر الجزائر بلا شك بكونها انتصاراُ للدبلوماسية الجزائرية الجديدة لرئيسه تبون، ولكن وجه الغرابة يتزايد عندما يقول الكاتب بأن "عبد الفتاح السيسي ابتز إيطاليا، ونجح، في موضوع الطالب جوليو ريجيني"، فما هو وجه النجاح في قتل طالب اجنبي في معتقلات نظام السيسي بعد تعذيبه في اقبيتها ثم إلقاء جثته المشوهة في الشارع، ثم استبسال السيسي في حماية ضباطه المجرمين القتلة بتلفيق التهمة لغيرهم !!!، ومن الذي ابتز الآخر؟ فالسيسي اغدق على حكومة روما التي لا تهتم لا بريجيني ولا بأمه ولا بأبيه، ولكن هدفها هو الاستيلاء على المليارات من السيسي مقابل صفقات اسلحة بأضعاف قيمتها، ومقابل تنازله عن المليارات لحقوق مصر في حقولها البحرية، واغراق السيسي مصر في الديون التي تهدد باحتلالها الفعلي ورهن بلاده للوفاء بديونه المتراكمة، وتلك إشادة من الكاتب الجزائري اللوذعي بالسيسي، لم يجرؤ على القول بمثلها أشد أبواق الدعاية الانقلابية السيساوية تدجيلاُ.