قضايا وآراء

تركيا بين المطرقة الروسية وسندان الناتو

محمد عماد صابر
1300x600
1300x600
الحقيقة التاريخية تقول إن موقع تركيا الجغرافي منذ النشأة جعلها دائما محاصرة بين روسيا والغرب، وأن أسوأ اللحظات في التاريخ التركي القديم كانت تحدث حين يجتمع الطرفان وتتحد جهودهم. فمعظم ممتلكات الدولة العثمانية في وسط آسيا وفى القوقاز فقدت في صراع مع الروس، وكذلك ممتلكاتها في وسط أوروبا والبلقان ضاعت أيضاً في صراع مع أوروبا، وبدعم من روسيا.

لقد خاضت تركيا القديمة (الخلافة العثمانية) صراعا مريراً مع روسيا والغرب طوال أربعة قرون منذ القرن السادس عشر، انتهت بالحرب العالمية الأولى، والتي أسفرت عن سقوط الخلافة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها وفرض شروط مذلة على الجانب التركي، مقابل السماح للأتراك بإقامة دولتهم في شبه جزيرة الأناضول مع مساحة صغيرة في أوروبا تقع فيها مدينة إسطنبول، فيما يعرف بتركيا الحديثة. كل ذلك كان مصحوبا بإجراءات عديدة تقطع ما بين تركيا وما بين العالم الإسلامي. والمتأمل للخريطة التركية يجد أن تركيا محاصرة فعليا من الشمال والشرق من الجانب الروسي وحلفائه، ومن الغرب عبر أوروبا، ولا يوجد لها متنفس إلا عبر الجنوب براً من خلال سوريا وشمال العراق، أو بحرا عبر مصر والشمال الأفريقي.

تركيا الحديثة والحرب الباردة

ولهذا فإن تركيا الحديثة المنشأة بعد معاهدة لوزان المذلة، آثرت أن تقف على الحياد أثناء الحرب العالمية الثانية خوفا من تبعاتها. ولكن بانتهاء الحرب ومع صعود القوة الروسية ونجاح الاتحاد السوفييتي في الاستيلاء على دول أوروبا الشرقية، وما تبع ذلك من انقسام أوروبا إلى شرقي تابع للروس وغربي يدور في الفلك الأمريكي، ونشوء الصراع الدامي الذي بدأ بين روسيا الشيوعية والغرب، ونذر الحرب التي بدأت تلوح في الأفق.. أدرك الأتراك أن روسيا (الاتحاد السوفييتي) وحلفاءها باتوا يحيطون بتركيا إحاطة السوار بالمعصم، وأن السقوط في قبضة الروسي بدا وشيكا بل وحتميا.
المتأمل للخريطة التركية يجد أن تركيا محاصرة فعليا من الشمال والشرق من الجانب الروسي وحلفائه، ومن الغرب عبر أوروبا، ولا يوجد لها متنفس إلا عبر الجنوب براً من خلال سوريا وشمال العراق، أو بحرا عبر مصر والشمال الأفريقي

ولذا وبمجرد أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء تحالف غربي عسكري تحت اسم حلف الناتو في عام 1949، سارعت تركيا للدخول في الحلف كي تتمتع بالحماية الأمريكية والغربية عبر المظلة النووية، وفى الوقت ذاته وجد الغرب في تركيا موقعاً متقدماً تطل منه على الروسي، وتراقبه..

وفي ظل الحرب الباردة التي نشبت بين الاتحاد السوفييتي ممثلا في حلف وارسو وبين الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في حلف الناتو، طوال حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات، اتخذت تركيا موقعا متميزاً في التحالف الغربي، متمتعة بالحماية العسكرية لحلف الناتو عبر قواعده العسكرية في تركيا وعبر اتفاقيات عديدة للتعاون العسكري، وكذلك من خلال جيشها الضخم الذي يعتبر الجيش الثاني في حلف الناتو من حيث العدد بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

ولكن في الوقت ذاته فقد حرصت تركيا على ألا تستفز الجانب الروسي أبداً، لعلمها أن أي حرب ستدور بين روسيا والغرب، وتشترك فيها تركيا، ستكون تركيا أول من يكتوي بنارها، ولهذا حرصت تركيا على وجود علاقات سياسية واقتصادية جيدة مع الجانب الروسي. وجاءت حقبة التسعينات، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وتحلله وانتهاء حلف وارسو، بدأ الصعود الغربي الأمريكي، وفي ظل الضعف الروسي بدأ حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في الاتساع شرقا مستحوذاً على الفضاء الحيوي والحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية. وكان الروس يراقبون كل ذلك عاجزين عن الفعل، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة وانهيار سياسي.

الصعود التركي.. أردوغان وحزب العدالة والتنمية

بدأ الصعود التركي مع استلام أردوغان وحزب العدالة والتنمية لمقاليد الحكم. لقد بدا الصعود الاقتصادي التركي ملهماً لجميع القوى الإقليمية في المنطقة، واعتمدت تركيا سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار، ورافق هذا الصعود الاقتصادي صعودا سياسيا وعسكريا ففرض حضورا إقليميا متميزا، ومكانة أكبر في التحالف الغربي.. ولكن مع نشوب ثورات الربيع العربي، وإجهاضها من خلال التحالف الإقليمي الإسرائيلي بدعم غربي واضح، أصبحت التجربة التركية في مرمى النيران من الجميع. وقد ظهر حصاد ذلك في المحاولة الانقلابية في 2016، والتي كان هدفها إعادة تركيا إلى حالة الضعف والعزلة التي كانت تعيشها منذ معاهدة لوزان المذلة..
مع نشوب ثورات الربيع العربي، وإجهاضها من خلال التحالف الإقليمي الإسرائيلي بدعم غربي واضح، أصبحت التجربة التركية في مرمى النيران من الجميع. وقد ظهر حصاد ذلك في المحاولة الانقلابية في 2016، والتي كان هدفها إعادة تركيا إلى حالة الضعف والعزلة التي كانت تعيشها منذ معاهدة لوزان المذلة

ومع الصعود الروسي الجديد، بدأ الاحتكاك الروسي التركي يعود لواجهة الأحداث، فروسيا تحاول استعادة نفوذها القديم وتزاحمها وتنافسها تركيا كقوة إقليمية صاعدة. بدأ الصدام في الملف السوري والذي كانت ذروته إسقاط طائرة روسية من قبل الجانب التركي، الأمر الذي اضطر أردوغان للتراجع والاعتذار عن هذا الخطأ للجانب الروسي خوفا من اشتعال الموقف، ثم تكرر الاحتكاك بين الروسي والتركي في آسيا الوسطى، وفي مشكلة كارباخ بين أذربيجان وأرمينيا، وفى الملف الليبي.

وفي كل هذه التقاطعات حرص الجانبان الروسي والتركي على تجنب الصدام العسكري المباشر وعلى الحفاظ على علاقاتهم الاقتصادية المتميزة، وعلى إيجاد قدر من التفاهم، فالروسي يعرف أن الصدام مع التركي سيكون مؤلما وليس مثل حروب المليشيات في سوريا وليبيا ووسط آسيا، والتركي يعرف أن روسيا قوة نووية وأن الصدام معها تكلفته ستكون باهظة جدا ولا يمكن تحملها.

الغزو الروسي لأوكرانيا

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليقلب الطاولة ويعيد خلط جميع الأوراق الدولية، فلقد أظهرت تلك الحرب طموح بوتين ورغبته الجامحة في استعادة النفوذ السوفيتي القديم مهما كان الثمن، الأمر الذي بدا مقلقا للجميع وعلى رأسهم تركيا كدولة جوار.. وفي الوقت ذاته ألقت الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الغربي بثقلهما كاملا في مواجهة الروسي عسكريا واقتصاديا في معركة تكسير عظام، وعلى تركيا أن تشارك باعتبارها عضواً رئيسياً فاعلا في الناتو.
المرجح مع ازدياد اشتعال الصراع بين روسيا والغرب واتساع نطاقه وطول أمده، أن يطالب التحالف الغربي تركيا بتحديد مواقفها والإسهام الفاعل في هذا الصراع باعتبارها عضوا رئيسيا في حلف الناتو وحتى تتمتع بالحماية الغربية، فمن أراد أن يجنى العسل عليه أن يتحمل لدغات النحل

حاولت تركيا حتى الآن ولا زالت أن تلعب دور الوسيط في الأزمة الروسية الأوكرانية، وأن تشارك بقدر محدود في العقوبات بالدرجة التي لا تجعلها شريكا أساسيا في الصراع الدائر، حتى لا تتأثر مصالحها الاقتصادية مع الروسي في الوقت الذي تعاني فيه تركيا من أزمات اقتصادية عنيفة، يمكن أن تعصف باستقرار النظام السياسي بأكمله.. ولكن المرجح مع ازدياد اشتعال الصراع بين روسيا والغرب واتساع نطاقه وطول أمده، أن يطالب التحالف الغربي تركيا بتحديد مواقفها والإسهام الفاعل في هذا الصراع باعتبارها عضوا رئيسيا في حلف الناتو وحتى تتمتع بالحماية الغربية، فمن أراد أن يجنى العسل عليه أن يتحمل لدغات النحل..

والآن الجولات الأمريكية في شرق آسيا وفى منطقة الشرق الأوسط وفي كل بقاع العالم تجري على قدم وساق لتجميع الحلفاء، والاطمئنان لدعمهم للأمريكي في هذا الصراع الدولي العنيف وتوزيع الأدوار. فعلى الجميع أن يشارك، ولا بد أن يأتي الدور على تركيا كي تدفع الاستحقاق المطلوب منها.

وهنا تجد تركيا نفسها محاصرة بين المطرقة الروسية والسندان الغربي، فهل تستطيع تركيا أن تنجو من هذا الصراع العالمي بأقل الخسائر، وأن تجني العسل دون أن تلدغ من النحل؟!
التعليقات (0)