كتاب عربي 21

الحوار وطنياً!.. مفاهيم ملتبسة (9)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
تحدثنا في المقال السابق عن حوار مزعوم، وخوار زائف، وجماعة وطنية مأزومة، وقد أردنا بذلك أن نؤكد على أن للحوار شروطا أساسية، وأن توفر بيئة الحوار هي من أهم الشروط لفاعلية تلك العملية الحوارية، فإذا حملت البيئة متناقضات مثل تلك التي نشهدها في أرجاء الوطن، فإننا في حقيقة الأمر أمام خدعة كبرى ليس من هدفها الحفاظ على الوطن أو إعمال حقيقة المواطنة عبر الحوار، ذلك أن هذه الصفة التي تلحق بذلك الحوار "الوطني" إنما تشكل في ذاتها صفة مسكونة بشروط تجعل من ذلك الحوار "وطنياً".

أشرنا من قبل إلى معنى للوطنية التبست أموره وزيفت معانيه، إذ صار مفهوم الوطنية حكرا واحتكارا على فئة تطلقه على من شاءت وتنزعه عمن تريد، وفي كل الأحوال جعلت من نفسها قيّمة على المجتمع بأسره وبكافة طوائفه، ومكوناته، وجعلت الوطن محلا لمساومات على حقوق المواطنة، وصار كل من يتحدث عن السلطة بأي قدر من النقد إلى وصف الخيانة أقرب لديهم وعن وصف الوطنية أبعد كما يرى هؤلاء.

ذكرني هذا الأمر بكل تلك المقالات التي كتبتها إبان الثورة وبعدها؛ من ممارسات الاستقطاب الخطيرة التي شكلت أيضا بيئة مسممة بين قوى الجماعة الوطنية، سواء تمثلت في قوى اجتماعية أو قوى ثقافية فكرية أو قوى سياسية حزبية. انتهت هذه القوى الى حافة الحرب بالكلمات والتي استمرت في صورة حروب أهلية غير معلنة، وبدت الجماعة الوطنية في هذا تعاني من أمراض مزمنة أثرت على بنيانها كما أثرت على جوهر علاقاتها وشبكة العلاقات الاجتماعية فيها، فبدت بين أحوال الترهل وما بين الشد الخطير الذي قد يمزق أوصالها، وبات كل ذلك علامة على جماعة وطنية مأزومة لا يمكن لنخبتها، وهي تمارس ذلك الاقتتال أو تسير في كل مسالك الاستقطاب أن تقوم على عملية تغيير حقيقية.
صار مفهوم الوطنية حكرا واحتكارا على فئة تطلقه على من شاءت وتنزعه عمن تريد، وفي كل الأحوال جعلت من نفسها قيّمة على المجتمع بأسره وبكافة طوائفه، ومكوناته، وجعلت الوطن محلا لمساومات على حقوق المواطنة، وصار كل من يتحدث عن السلطة بأي قدر من النقد إلى وصف الخيانة أقرب لديهم

وفي غمرة هذا الاستقطاب ضاعت الثورة، وأصبح الانتقال أمرا صعبا وربما مستحيلا لافتقاد رؤية تغييرية تواكب هذه الحالة الثورية التي كانت، تضررت الثورة، وتضرر الثوار الحقيقيون؛ هذا الأمر مهد الطريق للانقلاب العسكري الذي شكل ردة حقيقية عن تلك الثورة وأهدافها.

بات الأمر في هذه الأجواء بعد أن أجمع القاصي والداني أن مصر سلطة ومجتمعا في موقف لا تحسد عليه، خاصة مع حالة مبرمجة وممنهجة لصناعة الكراهية أدت إلى انقسام شعب مصر إلى أكثر من شعب. في حالة الفرقة والتنازع تلك استطاع هؤلاء الانقلابيون أن يقوموا بكل ما من شأنه التحكم في مفاصل الدولة والمجتمع على حد سواء، واختطفت تلك العصابة مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، وورطت جميع مؤسسات الوطن في خدمة حالة الاستبداد القميء إن قضاء وإن إعلاما وإن مؤسسات مجتمع مدني أو برلمانا.. باتت جميعها تقوم بأدوار مخزية لا ترتبط بحقيقة وظائفها أو أدوارها في داخل المجتمعات والنهوض بأعباء تتعلق بالحفاظ على تلك الجماعة الوطنية آنا واستقبالا، وأنتج هذا خطاباً غلّف كل هذه الممارسات الخطيرة التي مست أعصاب المجتمع في الصميم. لم يجد المنقلب فرصة إلا وأهدر هذه الثورة التي قامت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير؛ مهوناً من شأنها ابتداء ثم مشوهاً لكل ما تعلق بتلك الثورة انتهاء.

وفي ظل هذه الأجواء المسمومة كان لا بد للمنقلب أن يحاول أن يضفي شرعنة على نظامه من خلال مقولات فجة عن الوطنية وعن مؤتمرات شباب مصطنعة التي أقامها هنا وهناك، وعن استراتيجية زائفة لحقوق الإنسان والمجتمع المدني قال إنه دبجها؛ لم تكن إلا عنوانا على الزيف ومحاولة الخروج من مأزق يتعلق ببعض الضغوط الخارجية، وكذا من تلك الأزمة الاقتصادية التي بدأت تلوح في الأفق.

تمخض كل ذلك عما أُسمي بالحوار.. رغم كل المآسي التي وقعت والمجازر التي ارتكبت، ومن سياسات خاطئة في الاقتراض والاستدانة ومشروعات هنا وهناك من غير أي دراسات جدوى؛ لم يكن من غرضها أن يرتقي بحال الإنسان المصري أو معاشه، لكنه أراد بدعوى الحوار أن يعقد اجتماعات في النهاية يبحث من خلالها عن شريك في هذا الفشل الذي طال هذه السياسات والتي اعترف بها النظام بعد إنكار، فها هو وزير المالية يقول بعد كل هذا -رغم أن الجميع قد بح صوته من أن تلك سياسات رعناء لا يمكن إلا أن تؤدي إلى أزمة اقتصادية طاحنة-: "لقد تعلمنا الدرس".

لكن كل ذلك لم يكن إقراراً بالأزمة، فها هو السيسي يقول: "أنا بس اللي اقدر اعرف ربنا ساعدنا قد إيه"، ومعقبا على ذلك بأنه يخشى أن "يجحد الناس فضل الله عليهم بأن غير لهم حياتهم في 3 يوليو".
عن أي فرصة سياسية يتحدث هؤلاء، وسياسات البطش على ما هي عليه، والموت في السجون جراء التعذيب أو الإهمال الطبي مستمر، والتضييق على المعتقلين في زنازينهم لا يزال يمارس من أجهزة السلطة الطاغية كطقس يومي لم يتغير؟!

إن هذا الخطاب المتناقض الذي يشكل مراوحة في المكان واتهامات متوالية بالخيانة وأجهزة لا زالت تقوم باعتقال معارضين جدد؛ إنما يعبر في حقيقة الأمر عن تلك الأزمة الخطيرة التي تحيط وتشكل بيئة غير مواتية لأي حوار مزعوم. لسنا من هؤلاء الذين يحبطون الذين يجدون في هذا الحوار فرصة، ولكن عن أي فرصة سياسية يتحدث هؤلاء، وسياسات البطش على ما هي عليه، والموت في السجون جراء التعذيب أو الإهمال الطبي مستمر، والتضييق على المعتقلين في زنازينهم لا يزال يمارس من أجهزة السلطة الطاغية كطقس يومي لم يتغير؟!

أي فرصة يمكن أن يولدها ذلك الحوار حول القضايا المصيرية التي تمس الدولة والمجتمع في ظل الشروط الغائبة؟! إن الأزمات البنيانية التي قام هؤلاء بتأزيمها أكثر فأكثر جعلت الأمر من الصعوبة أن تقترب منه على أي مستوى، أو محاولة فك عقده، فما نراه في الواقع ليس إلا تأزيما مستمرا.

أي بيئة للحوار تلك ولا يزال أهل الاستقطاب القديم والمقيم يتحدثون عن شروطهم الخاصة للحوار، من يدخله ومن لا يدخله؟ أي معنى لذلك الحوار الذي لا يناقش المسائل الحقيقية التي ترتبت على انقلاب كهذا؛ فأثرت على بنيان المجتمع وعلى شكل الدولة، ثم بعد ذلك وإمعاناً في التزييف والتزوير يتحدث هؤلاء عن حالة جديدة وجمهورية جديدة؟ ألا أيها الحالمون بكل ذلك أستطيع أن أعطيكم ألف مؤشر يؤكد أنه لا يمكن لحوار أن ينجح في ظل تلك الظروف وذلك السياق الذي يحمل كل تلك المتناقضات.
من صنع كل هذه الأزمات في المجتمع والدولة لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يدير حوارا لإنقاذ الدولة أو المجتمع، وإن أول شرط لنجاح هذا الحوار هو اختفاء المنقلب ذاته، وتراجع وانزواء تلك العصابة التي تدعمه والتي أضرت بالعباد والبلاد تحت مسميات زائفة ومفاهيم ملتبسة

كيف يمكننا أن نتحدث عن تغيير حقيقي في الحالة السياسية والاجتماعية والقيمية المأزومة والمستمرة منذ سنوات؟ حيث يمن علينا المنقلب بأننا جاحدون لفضل الله علينا أن أتانا بنظام حكم غيّر حياة المصريين في الثالث من تموز/ يوليو، فجثم على صدورهم وقد مارس إفقارهم، وامتص دماءهم من خلال جبايات ومكوس غير مقبولة وغير معقولة، وغلاء أحاط بالناس في معاشهم كل ذلك.

أيها الناس حتى نكون صادقين مع أنفسنا؛ إن من صنع كل هذه الأزمات في المجتمع والدولة لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يدير حوارا لإنقاذ الدولة أو المجتمع، وإن أول شرط لنجاح هذا الحوار هو اختفاء المنقلب ذاته، وتراجع وانزواء تلك العصابة التي تدعمه والتي أضرت بالعباد والبلاد تحت مسميات زائفة ومفاهيم ملتبسة؛ مارسوا فيها كل درجات التفريط في الوطن ومقدراته والخذلان للمواطن ومعاشه.

حتى يكون الحوار "وطنيا" لا بد وأن يشمل كل الوطن بقواه المجتمعية والسياسية، ولا بد أن يُصنّع في بيئة مواتية ليس فيها أن يقوم بإدارة ذلك الحوار عصابة الاستبداد المقيم.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الخميس، 07-07-2022 01:21 ص
*** لم يأخذ أي أحد بجدية مسألة الحوار تلك، حتى السيسي نفسه الذي دعا إليه غير مقتنع به، ولكنه لا يملك غير ذلك لمزيد من الإلهاء والاستمرار في تقديم الوعود الكاذبة لجماهير الشعب التي بدأت تعاني من جراء استبداده وفساده، وذلك لخداع الدهماء من الشعب المصري لمحاولة إطالة أمد بقاءه في كرسي الحكم، فحشد بالترغيب والترهيب زمرة ممن تبقى من مؤيديه المنتفعين من بقاءه على كرسي الحكم لتنظيم إجراءات حواره الشكلية، فالحوارات السياسية تكون في الدول المستقرة، والسيسي بلسانه قد أقر بأنه يحكم مصر باعتبارها شبه دولة، ورغم أن السيسي يعول على ذلك الحوار المزعوم من أجل إضفاء غطاء من الشرعية على قراراته التي اغرقت البلاد في الديون الأجنبية والمحلية، وللتنصل من انفراده بمشروعاته وصفقاته التي يشوبها الفساد، التي تم إسنادها بالأمر المباشر بأضعاف قيمتها لشركاءه، مقابل ما اقترفه هو وعصابته من عمولات وإتاوات فاحشة، وللتغطية على جرائمه وقمعه ليس فقط لمعارضيه، ولكن حتى بتنحيته لغالبية مؤيدي انقلابه، الذي قام بتصفيتهم خوفاُ منه ورعباُ من أن ينقلبوا عليه ويضحوا به كما فعل هو، ولينفرد دونهم بكل السلطة والمغانم، فقد انحصرت دائرة المنتفعين من الانقلاب، وبات الجميع يعد العدة لهجر سفينة السيسي الغارقة لامحالة، وحوار السيسي هذا رغم كل الجهد الذي تبذله زمرته لإعداد المسرح لتمثيل أدواره، لإكسابه مظهراً براقاُ كاذباُ، ستكون نتائجه وبالاً عليه هو نفسه، حيث سيكتشف الذين ما زالوا منخدعين بإفكه مدى خواءه، وأنه ليس إلا مسخ يروج لأوهام وطنيته المدعاة وسراب أنه سيغني الشعب المصري، وهو في الواقع لم يثري إلا نفسه ومجموعة قليلة من المحيطين به المنتفعين من بقاءه، على حساب إفقار غالبية أبناء الشعب المغلوبين على أمرهم، وللمتشككين في نهاية السيسي الجنرال المنقلب دجال العصر، نذكرهم بكيف كانت نهاية من قبله، فالملك فاروق انقلب عليه ضباطه الذين أقسموا يمين الولاء له واستولوا على أمواله وقاموا بنفيه وإذلاله، واللواء محمد نجيب أنقلب عليه ضباطه واعتقلوه ولفقوا له الاتهامات الباطلة، والمشير عامر دس له السم غيلة ناصر أعز وأقرب اصدقاءه، والمأفون ناصر هلك بعد أن هزم جيشه في سيناء هزيمة مزلة من الصهاينة، وأسروا جنوده واستولوا على أسلحة جيشه، ثم قامت عصابته الانقلابية بتصفيته كما فعل هو بأقرب اًصدقاءه، والسادات تم اغتياله وسط ضباط جيشه واطقم حراسته، ومبارك بعد أن عزله قادته، وضعوه في السجن أمام شعبه، وحكم عليه بأنه لص سرق أموال ومخصصات القصور الجمهورية، والبرادعي نائب رئيس الجمهورية قد هرب بعد أن وجهت له كل ما يهينه من إعلام الانقلاب، فلا يوجد إلا جاهل أو سفيه من يتصور أن السيسي الجنرال المنقلب الذي غدر برئيسه الشرعي وباع بلاده وضحى بشعبه ثمناُ لبقاءه على كرسي الحكم، ولن تكون نهايته أفضل ممن سبقوه، وسيدفع الشعب المصري المخدوع الذي صمت على جرائم العصابة الانقلابية ثمناُ فادحاُ لسكوتهم، والله أعلم.