كتاب عربي 21

دبلوماسية القمح التركية تختبر أطراف النزاع

علي باكير
1300x600
1300x600

وقّعت روسيا وأوكرانيا أمس اتفاقاً يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البلاد المُطلّة على البحر الأسود إلى السوق الدولية.

 

الاتفاق تمّ بوساطة تركية وبرعاية الأمم المتّحدة، ويُعد بمثابة انتصار دبلوماسي تاريخي لتركيا التي لم يسبق لها أن كانت في قلب معادلة الأمن الدولي مثل ما هي عليه اليوم. صحيح أنّ أنقرة حاولت في العام 2010 أن تلعب دوراً دبلوماسيا على المستوى الدولي عندما حقّقت خرقاً في المفاوضات النووية مع إيران من خلال ما عُرف باسم الاتفاق الثلاثي التركي ـ الإيراني ـ البرازيلي، إلاّ أنّه سرعان ما تمّ نسفه من قبل واشنطن.

اليوم، ومن خلال دبلوماسية القمح وأمن الغذاء العالمي، تثبت تركيا مرّة أخرى أنّها رقم صعب لا يمكن تجاوزه بسهولة. الاتفاق الذي تمّ توقيعه في إسطنبول في قصر دولمة بهجة التاريخي ما كان له أن يتم لولا العلاقات الشخصيّة للرئيس التركي مع المسؤولين في طرفي النزاع، وسياسة التوازنات الدقيقة التي إتّبعتها أنقرة تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا. وفي الوقت الذي يتساءل فيه كثيرون عن التنازلات التي تمّ تقديمها من قبل الأطراف المنخرطة في الاتفاق، يمكن القول إنّ مصلحة الطرفين بالإضافة إلى الضمانات التي تمّ تقديمها وإصرار تركيا على ضرورة التوصّل للاتفاق، كان لها الأثر الأكبر في تحقيق النتيجة المرجوّة.

مصلحة كل من روسيا وأوكرانيا إقتضت أيضا أن يتم تقديم تسهيلات، وإن حرص الطرفان على إظهار تمسّكهما بمواقفهما في الحرب الدائرة حالياً. أوكرانيا لديها مصلحة في نهاية المطاف في تصدير إنتاجها من الحبوب. وبوصفها رابع أو خامس أكبر مصدّر في العالم للقمح، فإن تصدير محصولها يؤمن لها أكثر من 3 مليارات دولار، ويؤكّد أهمّية كييف للأمن الغذائي العالمي، ويتيح لها القدرة على الصمود لفترة أطول. 

 

اليوم، ومن خلال دبلوماسية القمح وأمن الغذاء العالمي، تثبت تركيا مرّة أخرى أنّها رقم صعب لا يمكن تجاوزه بسهولة. الاتفاق الذي تمّ توقيعه في إسطنبول في قصر دولمة بهجة التاريخي ما كان له أن يتم لولا العلاقات الشخصيّة للرئيس التركي مع المسؤولين في طرفي النزاع، وسياسة التوازنات الدقيقة التي إتّبعتها أنقرة تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا.

 



أمّا بالنسبة إلى روسيا، فعلى الرغم من أنّها حاولت إستخدام سلاح الغذاء سابقاً للضغط على كييف والمجتمع الدولي، إلاّ أنّ توقيعها على الاتفاق يعني انّها تريدي ان تظهر انّها لاعب عقلاني وغير إنتحاري، وانّها ليست مسؤولة عن أزمة الغذاء والمجاعة المحتملة لملايين البشر. وفضلاً عن ذلك، فهي تحاول أيضاً الاستفادة من خلال تأمين إستثناءات مستقبلية لبعض الأنواع من صادراتها.

في جميع الأحوال، فإنّ التوصل إلى الاتفاق لم يكن سهلاً على الإطلاق. الجانب الأوكراني كانت لديه مخاوف تتعلق بإمكانية استغلال روسيا للوضع من خلال المطالبة برفع الألغام، أو مشاركة قوات روسية في عمليات التفتيش. وفي المقابل، فإنّ روسيا كانت لديها مخاوف تتعلق بإمكانية تحميل السفن الأوكرانية بالأسلحة بعد تفريغها لحمولاتها من القمح حول العالم والعودة بها إلى البلاد.

 

وبين هذه المخاوف وتلك، استطاعت تركيا أن تطرح حلولاً عملية من خلال منظومة تحقق من حمولات السفن، وطريق آمن عبر البحر الأسود، ومركز تحكّم مشترك يضم الأطراف الثلاثة بالإضافة إلى الأمم المتّحدة. 

مدّة الاتفاق أربعة أشهر قابلة للتمديد. الجانب الأوكراني أعرب عن أمله في العمل به في أسرع وقت مشيراً إلى أنّه قادر على البدء في تصدير الحبوب خلال عشرة أيام فقط. لكن العودة الفعلية لأوكرانيا الى السوق الدولية ستتطلب حوالي شهر. سيساعد الاتفاق من دون شك في كبح لجام تصاعد أسعار القمح والغذاء على المستوى الدولي، ويخفف من التضخّم المتفاقم أيضاً، لكنّه قد لا يحل الأزمة على المدى البعيد، إذ إنّ هذا الأمر يرتبط بعوامل أخرى من بينها مدى التزام الأطراف بتطبيق الاتفاق على المدى القصير، ومصير الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا على المدى الطويل.

هناك عدّة مؤشرات توحي بأن الفجوة بين الطرفين كبيرة، وأنّ عامل الثقة غير موجود، أهمّها أنّ الطرفين الروسي والأكراني لم يُوقّعا مع بعضهما البعض وإنما حصل ذلك بالوكالة من خلال الجانب التركي. علاوةً على ذلك، فإنّ قصر مُدّة الاتفاق تشير إلى أنّه سيكون بمثابة اختبار نوايا خاصّة أنّه سيظل بإمكان روسيا نظرياً أن تقوم بخرق الاتفاق متى ما تريد أو ربما إنهاؤه أو عدم تمديده، لكن ذلك سيعرّضها لضغوط أكبر من المجتمع الدولي في حال حصوله.

في المقابل، فإنّ نجاح الاتفاق وتطبيقه وتجديده سيكون بمثابة بارقة أمل لجميع الأطراف، كما أنّه قد يُشكّل نموذجاً يمكن البناء عليه دبلوماسيا لتحقيق خرق آخر في المفاوضات التي تديرها أنقرة أيضاً وتحاول من خلالها جمع رئيسي البلدين لخفض التصعيد وتحقيق وقف إطلاق نار والتمهيد لحل دبلوماسي للأزمة من خلال التفاوض. 

توازن القوى قد يفرض حالة من الشلل بين المهاجم والمدافع ويتطلب تدخل طرف ثالث لتوفير السلّم للمتخاصمين للنزول من أعلى الشجرة التي صعدوا إليها، لاسيما الجانب الروسي. وفي هذه الحالة، سيكون الجانب التركي حاضراً وورقته التفاوضية جاهزة. لكن حتى تلك الفترة، يجب أن يبقى التقييم موضوعياً وواقعياً في ما يتعلق بما هو أبعد من اتفاق الغذاء، إذ إنّ الصراع لا يزال قائماً، كما أنّ الأطراف المنخرطة لم تُبد حالة من الإنهاك بعد تدفعها إلى أخذ التفاوض بشكل جدّي بعين الاعتبار.

Twitter: @alibakeer


التعليقات (0)