مقابلات

مصطفى بن جعفر: أدعو لإطلاق عملية تصحيح واسعة بتونس

بن جعفر: تغيير موازين القوى مهمّة لا يمكن لغير الأحزاب الاضطلاع بها- عربي21
بن جعفر: تغيير موازين القوى مهمّة لا يمكن لغير الأحزاب الاضطلاع بها- عربي21
دعا رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي، مصطفى بن جعفر، إلى "إطلاق عملية تصحيح واسعة تعيد التجربة على الجادّة، وتقطع مع منظومة التوافقات المغشوشة التي تبدو في ظاهرها ممارسة ديمقراطية، ولكن في باطنها سطو على إرادة الشعب وانحراف عن مطالبه وعن أهداف الثورة".

وقال في مقابلة خاصة ومطولة مع "عربي21" إن "الرهان على مواصلة التجربة الحاليّة، رغم ما يحفّ بها من غموض، وما تطرحه من نقاط تباين، يتأسس على غياب البديل وكأنه مكتوب علينا أن نعود إلى الفوضى التي سادت قبل 25 تموز/ يوليو 2021، وهذا بالطبع ما لن يقبله أغلبية أفراد الشعب التي فقدت الثقة في الطبقة السياسية التي مسكت بمقاليد الحكم بعد الثورة".

ولفت بن جعفر إلى أن ملامح "الجمهورية الجديدة" التي يدعو الرئيس قيس سعيّد إلى بنائها "ستتضح حسب ما ستفرزه الانتخابات القادمة، وطالما لم يقع الإفصاح عن تفاصيل القانون الانتخابي، وتقسيم الدوائر الانتخابية، فإن التكهن بالنتائج يكاد يكون مستحيلا".

وأكد رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي أن "الرئيس قيس سعيّد لم يفصح -إلى حدّ الآن- عن مشروعه بكل وضوح وبشكل يجعل الفاعلين السياسيين يتعاطون معه بالنقد أو بالتأييد".

ورأى أن "وضع الأحزاب التونسية وضع هش، حيث لا تستجيب للمعايير الجدية إلا قلّة قليلة، رغم العدد الرسمي الخيالي لأحزاب هي أقرب إلى دكاكين الوجبات السريعة لا تسمع لها صوتا إلا بحلول موعد الانتخابات"، بينما أكد أنه "لا يمكن الحديث عن ديمقراطية دون أحزاب، كما أنه لا يمكن الحديث عن أحزاب دون برامج وتنظيم داخلي ديمقراطي".

وشدّد بن جعفر على أن "تغيير موازين القوى مهمّة لا يمكن لغير الأحزاب الاضطلاع بها، أما سياسة الكراسي الشاغرة فهي، رغم قيمتها المبدئية، لن تزيد الشرخ إلا اتساعا وقد ننزلق نحو المجهول. الحل يكمن في استخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة والعمل على تعزيز الجبهة الداخلية قصد مجابهة الأوضاع المتأزمة".

وعبر "عربي21" وجّه بن جعفر رسالة إلى سعيّد، قائلا: "ما زلنا في تونس نخطو خطواتنا الأولى في بناء نظام ديمقراطي وتكريس دولة القانون، وليس من المفاجئ أن نمر بتعثرات تشكّك في سلامة المسار. ليس كل ما حصل خلال العشرية السابقة أسود، والإصلاح ضرورة وواجب شريطة ألا نلقي بالرضيع مع ماء الغسيل. ولا بد أن يكون رئيس الجمهورية فعلا رئيس كل التونسيين والتونسيات بدون تمييز".

وتاليا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":

العديد من القوى السياسية حذّرت من أن تونس مُقدمة على أزمة كبيرة تنذر بكل المخاطر بما في ذلك اختلال السلم الأهلي.. فهل يمكن أن تتعرض تونس لانهيار وفوضى؟

الوضع المتأزم ليس بجديد حيث إنه من المعلوم أن تونس تعيش منذ سنوات أزمة ذات خطورة متصاعدة في المالية العمومية مع ما ينجر عن ذلك على المستوى الاقتصادي والاجتماعي من توترات نتيجة تقاعس الحكومات المتتالية في مواجهة حقيقة الوضع وطرح ما يلزم من إصلاحات هيكلية لنموذج اقتصادي اجتماعي بلغ مداه.

الحكومة، التي يغلب عليها الطابع التكنوقراطي، هي حاليا في تفاوض داخلي مع الشركاء الاجتماعيين حول التدابير الضرورية العاجلة سعيا لتفادي الإضرار بالطبقة الكادحة وذوي الدخل المحدود، وهي كذلك في تفاوض خارجي مع المنظمات المالية المانحة، وخاصة صندوق النقد الدولي، بحثا عن الدعم الكفيل بتجاوز العجز في الميزانية ثم الانطلاق في الإصلاحات على المدى المتوسط والبعيد؛ فبالتالي تطور الأوضاع مرتبط بما ستسفر عنه هذه المفاوضات من نتائج. وبالطبع هنالك المتفائلون، وأنا منهم، وهم يراهنون على الخروج من الأزمة، وهنالك المتشائمون الذين يراهنون على الانهيار قصد استغلال تردي الوضع لتحقيق أهداف سياسية في الصراع القائم ضد الرئيس قيس سعيد والفريق الحكومي.

هذا الرهان الأخير خاطئ، لأنه لا يخدم الصالح العام، وهو في رأيي رهان خاسر، لأن التجربة الانتقالية مرت بأزمات لا تقل حدّة ودقّة، وعلى الرغم من ذلك فقد تمكنت تونس من تجاوزها بأخف الأضرار على غرار ما حصل في صائفة 2013 عندما طالبت شريحة من القوى السياسية المعارضة بحلّ المجلس الوطني التأسيسي واستقالة الحكومة، فكانت النتيجة في الأخير أن عاد الجميع إلى الحوار وحصلت المصادقة على الدستور التشاركي بما يشبه الإجماع، وقمنا بتنظيم انتخابات كرّست التداول السلمي على الحكم. ألا يؤكد كل ما حصل على قدرة التونسيين والتونسيات على إدارة الأزمات مهما كانت تعقيداتها؟

كيف تقارن بين "الدستور الجديد" و"دستور الثورة"؟ وهل هناك اختلافات جذرية بينهما؟

دستور 2014 هو دستور تشاركي، كرّس كل الحريات وحرص على التناغم مع المعايير الدولية إلى أبعد حد ممكن، ولو عُرض على الاستفتاء لنال تجاوبا منقطع النظير، ولكن الأغلبية الحاكمة منذ 2014 وضعته في الرفوف ولم تنجز ما أقره الدستور من مؤسسات دستورية مستقلة، وأخطر مثال على ذلك التلكؤ والتسويف في وضع المحكمة الدستورية، وما أدراك ما المحكمة الدستورية. لذلك فإني دائما ما كنت أقول: "نعيب دستورنا والعيب فينا، وما لدستورنا عيب سوانا".

طبعا هو عمل بشري قابل للتعديل، وقد كشفت الممارسة عن بعض الثغرات، خاصة في احترام وتطبيق النظام السياسي، وكان من الممكن مراجعة بعض الفصول، وهذا ما طالب به جلّ الأخصائيّين في القانون الدستوري، وهم يقرّون اليوم أن ما جاء به دستور 2022 يمثّل تراجعا في مجال الحريات، وتركيزا مفرطا للسلطة التنفيذية بين يدي الرئيس مع غياب المراقبة والمساءلة، إضافة إلى إلغاء الباب السابع الخاص باللامركزية، وهو من الأبواب الهامة التي حصل حولها إجماع.

الدستور، أيّ دستور، له رمزية متميزة، لكن ومثلما أكدته التجربة السلبية السابقة، تبقى العبرة بالممارسة، وسنحكم على الدستور الجديد الذي حاز المصادقة الشعبية بما سينعكس عنه من ممارسة بعد الخروج من مرحلة الاستثناء التي تمر بها البلاد.

الرئيس قيس سعيّد دعا إلى بناء "جمهورية جديدة" تخلص تونس مما وصفه بـ"عشرية الإخوان السوداء".. فكيف ترى ملامح هذه "الجمهورية الجديدة"؟

حسب علمي هذه العبارة لم تصدر عن الرئيس قيس سعيد، بل هي تنسب لأطراف سياسية بنت مشروعها منذ عقود على رفض الإسلام السياسي ومطاردته بشتّى الوسائل، بما فيها القمع والسجون والتعذيب وما إلى ذلك. وهذه الأطراف ما زالت على نفس النهج، ولم تعترف بما جاءت به الثورة، وليست منسجمة مع مبادئ الديمقراطية التي لا تتلاءم مع الإقصاء ولا تدير خلافاتها إلا حسب ما تمليه دولة القانون في إطار المساواة بين المواطنين والمواطنات بدون أي تمييز.

أما الجمهورية الجديدة فستتضح ملامحها حسب ما ستفرزه الانتخابات القادمة، وطالما لم يقع الإفصاح عن تفاصيل القانون الانتخابي، وتقسيم الدوائر الانتخابية، فإن التكهن بالنتائج يكاد يكون مستحيلا، خاصة أن طريقة الاقتراع ستكون حسب المتوقع على الأفراد لا على القائمات، وهي طريقة جديدة لم نختبرها ولم يتدرب عليها الناخب التونسي.

برأيكم، ما حقيقة موقف قيس سعيّد من النظام القديم، خاصة أنه أكد أكثر من مرة أنه لا مجال للعودة إلى الوراء؟

كنت شخصيا من المراهنين على الرئيس قيس سعيد، وعلى مسار 25 تموز/ يوليو، وما زلت أعتقد جازما أنه لا مجال للعودة إلى الوراء؛ فقد كانت تونس تعيش ديمقراطية شكلانيّة طغت عليها الحسابات السياسوية الزائلة. لم تقم الأغلبيات الحاكمة منذ 2014 باحترام الدستور، ولم تعمل على إرساء المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية التي تعتبر عمادا للأنظمة الديمقراطية، وازدادت الأمور تعفّنا إثر جائحة الكوفيد التي أُديرت أسوأ إدارة وقادت إلى آلاف الموتى؛ فكان من المحتّم إيقاف هذا النزيف وإعادة قطار المسار الانتقالي الديمقراطي على السكة الصحيحة، ولئن أختلف اليوم مع الرئيس قيس سعيّد في التمشي الذي توخّاه، إلا أنني أعتبر أن المجال لا يزال متاحا لإطلاق عملية تصحيح واسعة تعيد التجربة على الجادّة وتقطع مع منظومة التوافقات المغشوشة التي تبدو في ظاهرها ممارسة ديمقراطية، ولكن في باطنها سطو على إرادة الشعب وانحراف عن مطالبه وعن أهداف الثورة.

وعملية تصحيح المسار التي أدعو إليها ترتكز على مراجعة المناخ الانتخابي، وعدم الاكتفاء بسنّ قانون انتخابي جديد فحسب؛ فلا بدّ من سنّ قانون لسبر الآراء واستطلاعات الرأي، وتحديد دور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى تعزيز دور الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كي لا يقتصر دورها على الجانب الفنّي للعملية الانتخابية فقط، ولكي يصبح المسار القضائي والمسار الانتخابي منسجمين ومتزامنين.

كما أني أطالب بسنّ قانون لتنظيم الأحزاب وتمويلها لضمان مبدأ تكافؤ الفرص، فضلا عن ضرورة سنّ قانون آخر يهدف لوضع ميثاق أخلاقي للعمل السياسي.

إن الرهان على مواصلة التجربة الحاليّة، رغم ما يحفّ بها من غموض، وما تطرحه من نقاط تباين، يتأسس على غياب البديل وكأنه مكتوب علينا أن نعود إلى الفوضى التي سادت قبل 25 تموز/ يوليو 2021، وهذا بالطبع ما لن تقبله أغلبية أفراد الشعب التونسي التي فقدت الثقة في الطبقة السياسية التي مسكت بمقاليد الحكم بعد الثورة.

ما هو المشروع الحقيقي الذي يتبناه قيس سعيّد؟ وإلى أي مدى سينجح في تنفيذه؟

في الحقيقة لم يفصح الرئيس قيس سعيّد -إلى حدّ الآن- عن مشروعه بكل وضوح وبشكل يجعل الفاعلين السياسيين يتعاطون معه بالنقد أو بالتأييد، كل ما نعلمه اليوم هو أن الرئيس يبحث عن إرساء منظومة تقاوم الفساد، وتجعل المواطن في قلب صنع القرار انطلاقا من المحليات، وهو يطلق على هذا المفهوم "الشعب يريد".

ولكن العجيب في الأمر أن دستور 2022 تخلّى عن اللامركزية في حين أن الهدف منها هو نفس الهدف الذي يسعى له الرئيس قيس سعيد. في المقابل، تم إقرار مجلس للأقاليم والجهات في الدستور الجديد، والذي ينتظر أنه ينتخب بصفة غير مباشرة ليمثّل الجهات ويكون حلقة ربط بين السلطة والشعب. كل هذه الأفكار تبقى نظرية ما لم يصدر القانون المحدث لهذه المؤسسة وما لم يصغ قانون الانتخابات الجديد، وسنتفاعل مع كل هذه المعطيات في موضعها وفي أوانها.

البعض اعتبر دعوتك للمشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة التي دعا إليها قيس سعيّد، دعما لـ"الانقلاب" وخذلانا للثورة ولدستورها الذي كنت أحد الموقعين عليه.. ما ردكم؟

لقد تم انتخاب الرئيس قيس سعيد واختياره رئيسا للجمهورية بأغلبية ساحقة من منطلق نزاهته ونظافة يديه واستقامته ورفضه للفساد وللحسابات السياسوية التي ثار ضدها الشعب التونسي، وقد صوتت لفائدته جلّ القوى السياسية، بما فيها تلك التي تعارضه اليوم وتقدح في شرعيته، وما قام به في 25 تموز/ يوليو -وبدون الاستنقاص من قيمة الجدل القانوني الذي دار حول الفصل 80 وكيفية تأويله- هو عملية تصحيح للمسار، وإيقاف لنزيف العبث بالدستور وبمؤسسات الدولة، وفي مقدمتها البرلمان الذي أصبح، على الهواء وفي المباشر، ساحة للتهريج وللصفقات الحزبية والسياسية.

لست أدري مَن هم هؤلاء "البعض" الذين يوزّعون شهادة الوفاء للثورة، خاصة أنهم كانوا أول مَن انقلبوا على الدستور طوال خمس سنوات، إضافة إلى تحالفهم الانتهازي مع المناهضين للثورة، وحتى مع أعدائها.

شخصيا، لم أفوّت أي فرصة منذ سنة 2014 إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 للدعوة إلى التدارك وتطبيق الدستور واحترام المؤسسات، ولكنّ الأغلبيات الحاكمة منذ 2014 تنكّرت لكل هذه المطالب، وآثرت التوافق فيما بينها، وإجهاض التجربة الديمقراطية، وتقاعست في تفعيل بنود الدستور والمرور من التأسيس إلى المؤسسات؛ فهي التي خذلت الثورة وفقدت ثقة الشعب، حتى إن حركة النهضة التي تعتبر حركة مناصرة للثورة تحالفت مع مكونات سياسية لا تؤمن بالثورة - بل إن البعض منها قامت عليه الثورة - والشعب التونسي لا يزال يتذكّر "الخطّين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبدا".

المطلوب من هذا "البعض" أن يتواضع ويقوم بما يفرضه واجب الصدق والصراحة من نقد ذاتي، وأن يبحث عن الأسباب والمسبّبات الحقيقية التي جعلت الرئيس قيس سعيّد يحظى بتأييد شعبي واسع سواء في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية أو عند إعلانه لقرارات 25 تموز/ يوليو، وكذلك إبّان الاستفتاء على الدستور الجديد، والذي شهد تأييد أكثر من 2.5 مليون صوت أي ما يقارب عدد ناخبيه في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية 2019.

ثم أين كان هذا الحماس الفياض؟ وأين كانت كل هذه الأصوات التي تدافع اليوم عن الدستور وتعتبر أن ما يقوم به مصطفى بن جعفر هو خذلان لهذا النص عندما كان هذا الأخير يُداس صباحا مساء ويوم الأحد؟ وأين كانت هذه الأصوات عندما كانت الأغلبيات الحاكمة ترتع بكل سبيل دون حسيب ولا رقيب؟

هل سينجح قيس سعيّد في تمرير الانتخابات التشريعية مثلما حدث مع الاستفتاء على الدستور الجديد في ظل مقاطعة أحزاب المعارضة لهذه الانتخابات المرتقبة؟

التحدّي الحقيقي ليس في النجاح في تمرير الانتخابات التشريعية مهما كان الثمن، بل التحدي الحقيقي هو النأي بالبلاد عن الانقسام الذي يُهدّد السلم الأهلي، لذلك وجب التنبيه قبل فوات الأوان وقبل أن يزداد الانقسام حدّة وتكون انعكاساته وخيمة على مناعة البلاد وأمن شعبها.

ينبغي على الجميع أن يعي بخطورة ما قد تؤول إليه الأوضاع في حال واصل الخصوم السياسيون تصيّد الفرص والأخطاء التي يقوم بها الطرف المقابل. وعلى الرئيس أن يفتح باب الحوار، وأن يكون رئيسا لكل التونسيين والتونسيات، وعلى المعارضة أن تعترف بأخطائها، وأن تتواضع وتقوم بنقدها الذاتي قبل الشروع في صياغة بديل سياسي واجتماعي واقتصادي تعرضه على الناخبين والناخبات. إن "سياسة الكراسي الشاغرة" لا تسمن ولا تغني من جوع.

وبالتالي كيف تقيم أداء المعارضة؟ وهل انتهى عصر الأحزاب في تونس أم لا؟

لا يمكن الحديث عن ديمقراطية دون أحزاب، كما أنه لا يمكن الحديث عن أحزاب دون تنظيم داخلي ديمقراطي ومؤتمرات واجتماعات عامة وبرامج وتكوين وتأطير للمناضلين والمنخرطين؛ فالأحزاب باقية ما بقيت الديمقراطية. من أجل ذلك طالبت بإلحاح منذ سنوات بوضع قانون للأحزاب يضمن ديمومتها واستقلالية تمويلها وشفافية مصادره.

لا أنفي أن الديمقراطية التمثيلية تشهد تعثّرا في سائر بلدان العالم، ولئن كانت في حاجة إلى جرعة من الديمقراطية المباشرة أو التشاركيّة فلا بديل عنها، وتبقى الأحزاب السياسية والقوى المدنية والنقابات هي الهيكل الوسيط الوحيد القادر على لعب دور همزة الوصل بين المواطن والسلطة شريطة أن تستجيب هذه المكونات إلى معايير الديمقراطية السليمة، وتكون متناغمة مع صوت الشعب ومعبّرة عن انتظاراته ومستوعبة لمطالبه الحقيقية.

وضع الأحزاب وضع هش، حيث لا تستجيب للمعايير الجدية إلا قلّة قليلة، رغم العدد الرسمي "الخيالي" لأحزاب هي أقرب إلى دكاكين "الوجبات السريعة" لا تسمع لها صوتا إلا بحلول موعد الانتخابات، وقد حرصت القوى المهيمنة بإمكانياتها المادية على أن لا يتغيّر المشهد الحزبي بوصفها المستفيد الأول منه، وطالما تواصل الوضع على حاله فستبقى نيّة الإصلاح غائبة.

أمّا عن المعارضة، فليس من اليسير تقييم أدائها، حيث اختارت جلّ مكوناتها المقاطعة، واكتفت بتظاهرات احتجاجية، وتدخّلات في وسائل الإعلام. قد نجد لهذا الموقف مبرّرات متعدّدة ومقبولة إلا أنه يبقى موقفا سلبيا حيث لم يخدم تطوّر الأوضاع لصالح المعارضة التي ركّزت على أخطاء الرئيس والفريق الحاكم دون تقديم البديل المقنع والقادر على تعبئة الجماهير.

إن تغيير موازين القوى مهمّة لا يمكن لغير الأحزاب الاضطلاع بها، أما سياسة "الكراسي الشاغرة" فهي، رغم قيمتها المبدئية، لن تزيد الشرخ إلا اتساعا وقد ننزلق لا قدر الله نحو المجهول. الحل يكمن في استخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة والعمل على تعزيز الجبهة الداخلية قصد مجابهة الأوضاع المتأزمة، خاصة الاقتصادية والاجتماعية والمالية.

هل من المحتمل تكرار التحالف بين مختلف قوى المعارضة على غرار تجربة "حكم الترويكا" أم إن هذا مستبعد في الوقت الحالي؟

إن تجربة الترويكا جاءت في سياق تأسيسي لا يحتمل التقييمات الكلاسيكية للمشهد الذي فيه سلطة ومعارضة. كنّا نأمل آنذاك أن يكون جميع مَن قاوموا الاستبداد مشاركا في إدارة مرحلة انتقالية كان من المفروض أن تكون وجيزة كي نقوم بالمهمة الأساسية المتمثّلة في صياغة دستور جديد للبلاد، ولكن للأسف فإن البعض من رفقاء الدرب في النضال غلبت عليهم الاعتبارات الإيديولوجية، وربما بعض الرهانات الخاطئة، ورفضوا المشاركة إلى جانب حركة النهضة، رغم حصولها على شرعية الصندوق.. لا يمكن اليوم الحديث عن إعادة تجربة الترويكا، لأن المشهد مختلف، ولأن الذين رفضوا بالأمس المشاركة في الحكم مع الإسلام السياسي أصبحوا اليوم حلفاء معه في جبهة موحّدة.

هنالك لخبطة لم يزدها "الانقسام السلبي" إلا غموضا، وفي كل الحالات، ينبغي تجاوز أزمة الثقة التي تنخر الأجسام السياسية، ويمرّ ذلك عبر حتميّة القيام بنقد ذاتي قبل الحديث عن إمكانية التحالف، أما أن يتلخص المشروع البديل في العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021؛ فهذا ما رفضته ولفظته شرائح واسعة من الشعب التونسي ومجموعات هامة من الطيف السياسي.

كيف تتصور المشهد التونسي بعد إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة؟

لا يمكن التكهّن بالأوضاع ما بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، فذلك يبقى رهينة ما ستشهده الساحة العامة في قادم الأيام من تطورات وما ستقدم عليه السلطة والمعارضة من قرارات، إمّا أن يتزحزح الوضع نحو الانفتاح والتشارك في رسم مستقبل البلاد، أو يتمسك كل بموقفه فتتعمّق القطيعة ويستثمر كل طرف في أخطاء الطرف المقابل.

إنّ الخطر، كل الخطر، في أن تؤدي مقاطعة المؤسسات التمثيلية، مهما ستكون شرعيتها ومشروعيتها، إلى التعويل على الاحتجاج وتحويل الصراع إلى الشارع، وستكون انعكاساته وخيمة على البلاد والعباد، لذلك حذّرت، وأحذّر مرة أخرى، من مغبّة الإصرار على رفض الآخر، وأدعو الجميع إلى التعقّل وتحكيم لغة الحوار والتشاركية وتوفير الأطر المناسبة للنأي ببلادنا عن الانزلاق نحو المجهول.

رئيس جبهة الخلاص الوطني، أحمد نجيب الشابي، قال إن اتحاد الشغل وضع نفسه تحت قبة الانقلاب وهو يعتبر أن 25 تموز/ يوليو مثل فرصة للتخلص من خصم إيديولوجي (حركة النهضة) على حساب الديمقراطية.. ما تعقيبكم؟ وكيف تقرأ موقف الاتحاد من تطورات الأزمة التونسية؟

ليس لي من تعقيب في هذا الصدد، لكن من المفيد وضع هذا الموقف في إطار ما أسمّيه "الانقسام السلبي" بين مَن وضعوا أنفسهم في صف "الأخيار" ووضعوا كل مخالفيهم في صف "الأشرار". هكذا تنتفي أدنى شروط الحوار الجديّ والمثمر ويصبح الموقف قطعيّا ومطلقا أو لا يكون.

إن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس حزبا سياسيا وما ينبغي له أن يكون كذلك؛ فهو مؤسسة نقابية عمالية عريقة لعبت منذ الاستقلال دورا مهما في رسم السياسات العامة والضغط على السلطة لتحقيق مكاسب لمنظوريها وللطبقة الكادحة عموما، ولكن لا يمكن التعاطي معه على أساس أن ينخرط وجوبا في الصراعات السياسية وحتى "السياسوية"، كما أن الاتحاد العام قبّة جامعة لكل التونسيات والتونسيين، له من المصداقية والرمزية التاريخية ما سمح له في فترة دقيقة بلعب دور الوسيط عندما اتفق الجميع وعادوا إلى طاولة الحوار.

الحقيقة المؤسفة هي أن ضعف المكوّنات الحزبية، وغياب البديل والبرامج والعروض السياسية، تدفع الأحزاب إلى الاحتماء بالاتحاد ومطالبته بالقيام بمهام ليست من مشمولاته. على الأحزاب مراجعة هياكلها والتركيز على مهامها والإنصات للشعب والوقوف على مواطن ضعفها وإصلاح ما يمكن إصلاحه في أقرب الآجال كي لا تتجاوزها الأحداث مرة أخرى فتجد أنفسها في نفس الوضعية التي شهدناها خلال صياغة الدستور الجديد وعرضه على الاستفتاء، وتلجأ مرة أخرى إلى المقاطعة، لأن المشاركة مغامرة قد تكشف حقيقة موازين القوى.

كما أنه لا ينبغي أن ننسى أننا شاركنا في اللعبة السياسية في أحلك ظروف الاستبداد والقمع، ظروف لا يجوز مقارنتها بما نعيشه اليوم؛ ففي فترة الرئيس الراحل "بن علي" لم تكن لنا أدنى إمكانية للتعبير على مواقفنا، وكنّا نُطارد من طرف السلطة كلّما نظّمنا اجتماعا عاما، وكنّا نُلاحق كلّما قمنا بنشاط سياسي، فضلا عن أنه لم يكن لنا هيئة تعنى بتنظيم الانتخابات، بل كانت وزارة الداخلية هي مَن تدير الشأن الانتخابي، وكانت النتائج معلومة مسبقا. فحذاري من هذا التعفّف المبالغ فيه الذي ركّزت عليه المعارضة موقفها وبرّرت به مقاطعتها للاستحقاقات الانتخابية وانسحابها من ساحة الصراع الأكثر تلاؤما مع طبيعة رسالتها.

ما موقفكم من إصرار بعض قوى المعارضة على رفض أي تحالف أو تعاون مع حركة النهضة؟

سؤال يجب طرحه على قيادات النهضة لتجيب عليه بكل شجاعة مع توسيع السؤال إلى نقطة مرتبطة به، وهي: "لماذا خسرت النهضة في الانتخابات المتتالية ثلث ثم ثلثي المتعاطفين معها؟".

في حقيقة الأمر هنالك أزمة ثقة لا تنحصر في قيادات المعارضة، بل اتّسعت لتشمل عموم المواطنين والمواطنات نتيجة التقلبات التي شهدتها تحالفات النهضة من فترة إلى أخرى بعيدا عن المبدئيّة وخدمة الصالح العام؛ فلا بد للنهضة، وغيرها من المكونات السياسية، أن تسترجع ثقة المواطنين.

لقد جربت النهضة فترات متنوعة من الحكم، وقد يكون من المفيد لها أن تجرب موقع المعارضة فيتأكد المترددون من أنها حركة ديمقراطية بالفعل، وأن لها سلوكيات ثابتة.

من زاوية أخرى ليس من المفروض على المعارضة أن تتحالف مع النهضة؛ فالتعاون أو القبول بالمشاركة والتحالف مع أي مكوّن سياسي يخضع لقواعد بديهية، ومن أبرز هذه القواعد والشروط هو تقاطع المبادئ والبرامج، بحيث لا يمكن لحزب يساري اجتماعي أن يتحالف مع حزب يميني ليبرالي، لأنهما لا يملكان نفس المبادئ ولا يؤمنان بنفس الرؤى للمجتمع وكيفية إدارة شأنه العام. قد تشهد هذه القاعدة استثناء في فترات محدّدة كفترة التأسيس لدستور جديد مثلا، حيث إن الجميع معنيون بالمساهمة في صياغة الدستور، وهو بمثابة الميثاق المجتمعي الملزم، أو لمواجهة خطر خارجي داهم يُهدّد مناعة البلاد.. ولكن بصفة عامة، فإن التحالفات في الفترات العادية تخضع لمبدأ الرؤى المشتركة والبرامج المنسجمة والمتطابقة، فإن انتفت هذه الشروط انتفى التحالف أو أصبح، مثل ما حصل في التجربة التونسية منذ 2014، انتهازيا محضا.

هناك أقاويل ما بشأن وجود توتر داخلي وتململ مكتوم داخل المؤسسة العسكرية والأمنية مما يجري داخل البلاد.. فما مدى دقة ذلك؟ وهل سعيّد يحظى بدعم كبير جدا داخل هاتين المؤسستين؟

في الحقيقة لا أملك معطيات حول هذه الأقاويل، ولا أعير اهتماما للجهات التي تقف وراء الترويج لها. إن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة، وهو كذلك رئيس مجلس الأمن القومي، ومن التقاليد الراسخة لدى قواتنا الحاملة للسلاح منذ استقلال تونس هو طابعها الجمهوري وانضباطها وعدم انخراطها في الشأن السياسي ولا في الحملات التي تستهدف مؤسسات الدولة الشرعية.

لذلك، لا أعتقد أن هناك توتّرا ولا تململا داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية، وأفضل دليل لذلك النجاحات التي تحققها هاتان المؤسستان في مقاومة الإرهاب وتوفير الأمن العام في البلاد.

هل بدأ "العدّ التنازلي لانتهاء فترة حكم قيس سعيّد أم إنه سيكمل ولايته الدستورية حتى نهايتها؟

مثل هذا التصور لا يطرحه إلا مَن فاجأتهم موجة الرفض الشعبي لسياساتهم الخاطئة منذ العام 2014، ولم يجدوا من حلّ سوى إقناع بعضهم بعضا بـ"النصر القريب".

أما الأزمة المركبة التي نعيشها فهي أزمة حقيقية تحتاج إلى علاج متبصر. هناك المتفائلون، وأنا منهم، وهم يراهنون على عودة الرشد وإعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية والتمسك بأسلوب الحوار للخروج من الأزمة. وهناك المتشائمون الذين يهلّلون لكل زلة أو هفوة ويُضخّمونها حسب مقولة "الحبّة تصبح قبّة"، ويراهنون على الانهيار آملين أن يقود تردي الوضع الاجتماعي إلى الفوضى. وكما قلت سابقا، هذا الرهان خاطئ وخطير.

لو طلبنا منكم توجيه رسالة إلى الرئيس قيس سعيد، فماذا ستقول له فيها؟

ما زلنا في تونس نخطو خطواتنا الأولى في بناء نظام ديمقراطي وتكريس دولة القانون، وليس من المفاجئ أن نمر بتعثرات تشكّك في سلامة المسار. ليس كل ما حصل خلال العشرية السابقة أسود، والمشكل هو أن القيادات السياسية المهيمنة فوتت على البلاد فرصة وضع الأسس الصلبة لهذا البناء، لأنها انغمست في الصراع على الحكم بكل الأساليب المتاحة، شريفة كانت أم خبيثة، وأصبح للمال المشبوّه دور أساسي في تحديد نتائج الانتخابات وتركيبة مؤسساتنا التمثيلية. هكذا أصبحت ديمقراطيتنا الناشئة ديمقراطية شكليّة مكسبها الوحيد الذي لا نقاش فيه هو حريّة التعبير التي تغبطنا عليها كل الشعوب العربية والإسلامية. فالإصلاح إذن ضرورة وواجب شريطة ألا نلقي بالرضيع مع ماء الغسيل.

منذ عام 2011، وقع التركيز على الجانب السياسي الذي حقّقت فيه تونس مكاسب عديدة جعلت منها أيقونة، على غرار التعددية الحزبية، وحرية الرأي والإعلام والتعبير والتنظّم والتداول السلمي على السلطة، وغيرها من المكتسبات الديمقراطية، ولكن الحكومات المتعاقبة لم تعر الاهتمام اللازم للجانب الاقتصادي والاجتماعي، ولم تقم بالإصلاحات الكبرى، لأن أغلب هذه الحكومات لم تتشكّل حول برنامج سياسي اقتصادي واجتماعي، بل تكونت لأهداف انتهازية ولتقاسم غنيمة الحكم متناسية أن أحد أبرز شعارات الثورة هو: "شغل، حرية، كرامة وطنية".

المطلوب اليوم أن نستخلص الدرس من أخطاء العشرية الأولى، ونركز اهتماماتنا على المسألة الاقتصادية والاجتماعية وما تستوجب من إصلاحات دفع تأجيلها إلى الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، فهي أولوية الأولويات.

الشعب يريد تلبية حاجاته الملحة، وهي توفير أفضل الخدمات في التعليم والصحة والنقل مع المحافظة على المقدرة الشرائية، وإن أمكن الترفيع فيها.

إن إصلاح أوضاعنا ومواجهة التحديات المختلفة يتطلب تعزيز الجبهة الوطنية الداخلية فهي الضمان الأساسي لتعبئة كل الطاقات والكفاءات التي تزخر بها تونس في كل المجالات، وهي السدّ المنيع للتصدي للضغوطات الخارجية وتحسين ظروف التفاوض مع الدول والمنظمات المانحة؛ فالمطلوب تجسيم التشاركية، فلسفة وممارسة، فيكون رئيس الجمهورية فعلا رئيس جميع التونسيين والتونسيات بدون تمييز.
التعليقات (3)
من احفاد حنبعل
الثلاثاء، 13-09-2022 08:16 م
أغرب عن السياسة واترك البلاد ..
عماد
الثلاثاء، 13-09-2022 02:50 م
الصحفي يسأل البرجوازي بن جفر : "برأيكم، ما حقيقة موقف قيس سعيّد من النظام القديم، خاصة أنه أكد أكثر من مرة أنه لا مجال للعودة إلى الوراء؟" بن جعفر يراوغ ولا يجيب ! " ما هو المشروع الحقيقي الذي يتبناه قيس سعيّد؟ وإلى أي مدى سينجح في تنفيذه؟" الصحفي يعيد عليه السؤال بطريقة أخرى ويضيق عليه الخناق . فيجد بن جعفر نفسه مجبرا على الإعتراف بطريقة غير مباشرة بأنه يساند مشروع رئيس الإنقلاب ورئيس الثورة المضادة دون معرفة مشروع رئيسه فيقول :"في الحقيقة لم يفصح الرئيس قيس سعيّد -إلى حدّ الآن" عن مشروعه بكل وضوح... !!! تبا لك أيها البرجوازي الرخيص المساند للتعيس . تساند مشروع الإنقلابي رئيس الثورة المضادة دون معرفته ! بقية إجباته مراوغات . يقول بن جعفر متلا :" وأصبح للمال المشبوّه دور أساسي في تحديد نتائج الانتخابات وتركيبة مؤسساتنا التمثيلية" فنرد عليه الى الآن القضاء لم يعثر له على أثر !! علاوة على ذلك لماذا لا يوجه نداء لرئيس الإنقلاب مثلا عن الكشف عن الذي مول له حملته الانتخابية ؟
سيد احمد
الثلاثاء، 13-09-2022 01:09 م
حدث في بيت جارنا أن كلبا مسعورا انشب أنيابه في كتف ابن الجار حاولوا تخليص الولد بالرفق فلم يتركه الكلب و لم يتركه الكلب الا بعد ضربه على رأسه حتى مات الكلب هذه حادثة حقيقية و تنطبق على كل ديكتاتور لا يتصور أحدكم أن الرفق و المنطق يصلح مع الديكتاتور