مقابلات

وزير تونسي سابق لـ "عربي21": إنقاذ بلادنا من أزمتها ممكن

حاتم بن سالم: انهيار التعليم وراء انهيار المجتمع والدولة
حاتم بن سالم: انهيار التعليم وراء انهيار المجتمع والدولة

حاتم بن سالم خبير دولي في القانون وهو سياسي ودبلوماسي مخضرم تولى حقائب دبلوماسية عديدة منذ 1996 في أفريقيا وتركيا وجنيف. ودخل حكومة محمد الغنوشي في 2003 وزير دولة للخارجية (كاتب دولة) فوزيرا للتربية في 2008.

بعد انتخاب الباجي قائد السبسي رئيسا أواخر 2014 عينه وزيرا مستشارا مكلفا بالإدارة العامة للدراسات الاستراتيجية ثم وزيرا للتربية عام 2017 في عهد حكومة يوسف الشاهد. غادر الحكومة مطلع 2020 لكنه ظل شخصية سياسية لها حضور وطني ودولي.

الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى حاتم بن سالم وأجرى معه الحوار التالي خصيصا لـ "عربي21"، حول رؤيته للأزمة التونسية بأبعادها الداخلية والخارجية والمتغيرات في ليبيا وبلدان شمال أفريقيا وفي أوروبا الشريك الرئيسي للدول العربية منذ التدخل الروسي في أوكرانيا وتزايد الدور الأمريكي والأطلسي:

س ـ أستاذ حاتم بن سالم .. عاد ملف الهجرة غير القانونية مجددا إلى السطح في تونس بعد تعاقب حالات غرق مراكب المهاجرين غير النظاميين بينهم حوالي مائة ماتوا غرقا في يوم واحد.. فيما تتحدث مصادر أوروبية عن وصول أكثر من ألف مهاجر عربي وأفريقي إلى جنوب إيطاليا قادمين إليها من السواحل التونسية..

 

كيف تنظر إلى هذا الملف الإنساني الاجتماعي الأمني السياسي الذي تابعته عن قرب عندما كنت في الحكومة وما تزال تتابعه مع مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية؟



 ـ هذا الملف مهم جدا بالنسبة لتونس ودول ضفتي البحر الأبيض المتوسط.. تونس لم تعد مجرد بلد عبور المهاجرين العرب والأفارقة بل أصبحت كذلك بلد استقبال..

وأقولها بصراحة: إذا أردنا بناء ديبلوماسية ناجعة وتأكيد مكانة دولنا في المنطقة وفي العالم، علينا أولا أن نفهم أن ملف الهجرة يجب أن يكون من أبرز ملفات التفاوض خاصة مع الاتحاد الأوروبي خدمة لمصالحنا ومصالحهم..

هذا الملف لا يمكن أن يفض إذا لم تكن لدينا أرضية تفاهم وحوار كاملة مع الاتحاد الأوروبي الذي ينفق سنويا مئات ملايين اليوروهات على عملية "فرونتاكس" (Frontex) أي الوكالة الأوروبية لحماية الحدود والسواحل التي تأسست في تشرين الأول (أكتوبر) 2016..

هذا البرنامج الأوروبي هو بالأساس عملية أمنية وعسكرية.. لكن الجميع يعرف أن حل معضلات ملف الهجرة ليس بالضرورة أمنيا وعسكريا، لذلك علينا أن ننجح في إقناع شركائنا الأوروبيين بأن هذا الملف تنموي واقتصادي سياسي وليس أمنيا فقط..

الحل تنموي في سياق التنمية المتضامنة بين بلدان الشمال والجنوب.. والاتحاد الأوروبي يدرك ذلك لأننا تفاوضنا معه مطولا في هذا السياق..

اليوم الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى يد عاملة كبيرة، في المقابل تزايدت طلبات الهجرة من بلدان جنوب المتوسط.. يجب أن نتوصل إلى "توازن" بين العرض والطلب على اليد العاملة وفق ما يخدم مصالح دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط..

"الهجرة الانتقائية"

س ـ عمليا وجدت اتفاقات سابقة مع بعض الدول الأوروبية بينها فرنسا، منها اتفاقية "الهجرة الانتقائية" التي أبرمت بين تونس وباريس في عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وتسمح لما لا يقل عن 9 آلاف شاب لديهم شهادة مهنية بالهجرة القانونية ضمن عقود واضحة.. لكن يبدو أن تونس تفوت فرصة التمتع بهذا "الامتياز" ولا تقدم سنويا 9 آلاف تتوفر فيهم الشروط.. رغم ضغط معضلات البطالة والهجرة..

 

واليوم تطلب ألمانيا ودول أوروبية عديدة مهاجرين.. فهل يمكن أن يكون مثل هذا الحل، أي الهجرة الانتقائية حسب الملفات بديلا عن الهجرة غير القانونية التي تتسبب في غرق مئات من المهاجرين سنويا؟


 ـ هذه الاتفاقات مهمة لكنها لن تحل المشكل وحدها.. وهي ليست "البديل" عن مفاوضات جدية مع الاتحاد الأوروبي يسفر عن تفاهمات لها بعد استراتيجي يمتد عشرين عاما مثلا..

أقترح شخصيا إيجاد آليات مثل وكالة أوروبية متوسطية للتشغيل.. أي آليات تمكن المهاجر جنوب المتوسطي والصحراوي من أن يتدرب في مراكز تدريب مهني ويتعلم لغة البلاد التي سوف يهاجر إليها.. ويتعلم مهنة مطلوبة في بلدان الشمال وفي بلاده ويمكن أن تكون من بين مجالات التنمية في بلدان جنوب المتوسط..

هذا التكوين يجب أن يكون بتمويل وتأطير تقني من الاتحاد الأوروبي.. خاصة إذا كان في قطاعات استراتيجية مثل الإلكترونيك والاتصالات وصيانة التجهيزات الطبية..

ويكون الأوروبيون مكونين ومدربين يتولون بدورهم تدريب الشباب في دول الجنوب..

الهدف هو خلق حركية تضمن للمهاجر الهجرة معززا مكرما وهو يتقن مهنة ولغة البلد المستضيف وثقافته.. ولا يضطر إلى الهجرة وهو يفكر في بيع المخدرات والانحراف وتكون الحصيلة أن آلاف التونسيين والعرب والأفارقة يتعرضون لاحقا للإيقاف والسجن والتتبعات في المحاكم الأوروبية بتهم التورط في جرائم مختلفة..

المطلوب علاقة شفافة على أسس صحيحة تساعد على الهجرة المنظمة وتنمية ضفتي البحر المتوسط مع تطمينات لكل الأطراف.. وعدم الوقوع في فخ اختزال تناول ملف الهجرة تناولا أمنيا بحتا..

ضعف مستوى خريجي جامعات الدولة


س ـ يلاحظ أن عشرات الآلاف من خريجي الجامعات الخاصة مطلوبون في الأسواق التونسية والأوروبية والعالمية خلافا لغالبية خريجي المدارس والجامعات التابعة للدولة.. لماذا؟ هل الخلل في التكوين؟


ـ  الطلب موجود وطنيا ودوليا.. بما في ذلك على خريجي بعض كليات الطب والهندسة.. هذه مسؤولية دول مثل تونس لأننا لم نحسن الاستفادة من خريجي الجامعات..

س ـ لماذا؟


 ـ لأن الدولة تخلت عن دورها في التشغيل والتنمية.. لذلك فإن الإصلاح يكون داخليا أولا.. والهجرة يمكن أن تكون فرصة وليست مشكلا.. لأن الأطباء والمهندسين والخبراء والتقنيين المهاجرين يمكن أن يعودوا إلى تونس وقد اكتسبوا خبرة مهمة يفيدون بها بلدهم.. هم سفراء في الخارج وليسوا ضحايا..

غياب سياسة بديلة

س ـ لكن تونس بدورها اعتمدت حلولا أمنية قبل ثورة 2011 وبعدها.. وقد فرضت منذ مدة طويلة عقوبات صارمة على المهاجرين غير القانونيين والمهربين تصل إلى السجن عشرين عاما.. لكن الظاهرة متواصلة وعدد الغرقى في البحر في ارتفاع.. مثلما وقع مؤخرا.. أكثر من مائة قتيل في يوم واحد.. لماذا؟


 ـ السبب غياب سياسة بديلة وخيارات استراتيجية في هذا المجال.. الحل يبدأ بإصلاح مؤسسات الدولة والإدارة التونسية من الداخل وإعادة ترتيب أولوياتها حتى تقوم بدورها الوطني كمؤسسة جاذبة وطرف يلعب دورا مركزيا في معالجة ملفات البلاد الوطنية..

ولا بد من إصلاح التعليم ليلعب مجددا دوره الوطني كمصعد اجتماعي ومؤطر وضامن لتنمية الموارد البشرية..

هناك أولويات لا بد من وضعها في كل مخطط تنمية وهي التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والتغطية الاجتماعية.. حاليا ليس هناك "مخطط تنمية" لكن لا بد أن تكون لسياسات الدولة هذه الأولويات التي أثبتت أنها كانت رهانا صحيحا منذ أكثر من ستين عاما..

تراجع الرهان على التعليم وعلى التنمية الاجتماعية والأمن أدى إلى التسيب والفوضى.. والحل يكون بعودة الدولة القوية التي لديها استراتيجية.. الدولة التي تكون قادرة على تعبئة الموارد المالية وهي موجودة على مستوى وطني وعلى مستوى دولي..

ما ينقص البلاد ليس الأموال وفرص التمويل الداخلية والخارجية ولكن الرؤيا والاستراتيجية.. بما يضمن للبلاد فرص تنمية أفضل مما هو موجود ومما وجد سابقا.. فتح الآفاق مهم جدا.. وهو يبدأ بإعادة الاعتبار للتعليم وتطوير التكوين المهني..

لذلك أقول مجددا: إن إخراج البلاد من كل أزماتها الحالية ممكن بما في ذلك أزماتها المالية والاقتصادية والأمنية والسياسية..

تخفيف الضرائب ورقمنة الإدارة

س ـ هل من اقتراحات عملية لإخراج البلاد من أزمتها؟


عمليا هناك قرارات عاجلة مطلوبة على رأسها تخفيف ورقمنة الإدارة.. نظام الضرائب في تونس موروث عن نظام الجباية الفرنسية منذ النصف الأول من القرن الماضي.. ولم تشهد البلاد أبدا إصلاحا جديا وجريئا لنظام الضرائب..

السياسة الجبائية الحالية تشجع على الفساد والرشوة والتهرب الضريبي.. فلنتعلم من أمثلة سنغافورة وماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية حيث نسب الضرائب المنخفضة ساهمت في ترفيع موارد الدولة من مداخيل الجباية..

فلنتفق على نسب جباية غير قابلة للنقاش والتسامح لكنها معقولة.. مثلا تكون بـ 5 بالمائة في عدة قطاعات.. بما يؤدي إلى زيادة مداخيل الدولة لأن مئات آلاف التجار وأصحاب "التراخيص" ("الباتيندات") والمتعاملين مع "القطاع الموازي" و"السوق السوداء" سوف يقومون بتسوية وضعيتهم وسيدفعون الضرائب.. لأن النسب أصبحت معقولة..

وفي نفس الوقت لا يقع التسامح مع المتهربين من الضرائب ويقع التعامل معهم بحزم..

بالنسبة لاسترجاع أموال الدولة لا بد من خطوات عملية.. مثلا هناك الحاسبات الذكية التي تسجل كل المعاملات.. بما يضمن أن الاقتطاع للمالية العمومية يقع بصفة آلية في نفس اليوم وألا تؤجل العملية لمدة أشهر وسنوات بسبب الآليات المعتمدة حاليا..

المطلوب إصلاح جذري يضمن المساواة في دفع الضرائب مع إعطاء فرصة للجميع ليقوموا بتسوية وضعيتهم..

اليوم الدولة تحصل على حوالي 40 مليار دينار من الجباية.. يمكن أن يتضاعف الرقم إذا وقع الإصلاح الجبائي وتصبح الدولة غير مستحقة للدعم المالي الأجنبي.. وصندوق النقد..

رجال دولة وخبراء حقيقيون

س ـ ما هو المطلوب لنحقق هذا؟

 

  ـ المطلوب رجالات دولة وخبراء حقيقيون أي كفاءات.. التجارة الموازية لا بد من إدماجها.. وتحرير التوريد لكن مع إجبار المواطن والتاجر على تسديد الضرائب.. وهذا ممكن عندما نطالب بتسديد معلوم عادي ومعقول..

من أراد أن يستورد سيارة أو مكيفا أو غير ذلك له ذلك.. لكن الأداء يكون معقولا وليس 150 بالمائة من قيمتها.. مع احتمال تضخيم تلك القيمة.. مثلما هو الأمر الآن..

في هذا الحالة ستربح الدولة الأموال الطائلة التي تنفقها على مصالح المراقبة الحدودية والجمركية من سيارات وطائرات عمودية.. الخ

الشرط الوحيد أن الدولة تستخلص معالميها فورا وبشفافية ونسب معقولة وقابلة للتنفيذ..

فشل النظام التربوي

س ـ ألا تعتبر أن لجوء الشباب إلى الحلول اليائسة والهجرة عبر قوارب الموت ناجم عن فشل النظام التربوي والمنظومة الثقافية الإعلامية؟


  ـ فعلا، أي نجاح أو فشل في المجتمع وفي البلاد سببه نجاح النظام التربوي أو فشله..

اليوم أولوية الأولويات هي الإصلاح الجذري للنظام التربوي.. وهو يحتاج لرصد إمكانيات مادية وبشرية هائلة وعلى مراحل لأنه لا يمكن أن يكون شاملا ونهائيا.. بل بالتدرج.. ولدينا كفاءات تونسية قادرة على أن تغير وجه التربية في البلاد لكن الإرادة السياسية منعدمة.. منذ عشرين عاما..

انهيار التربية والتعليم تسبب في انهيار المجتمع والاقتصاد ومالية الدولة والقطاع الخاص..

لكن الإصلاح التربوي لا يكون عبر إحداث مزيد من المجالس والهيئات العليا.. هذه خطوات بيروقراطية ولن تحقق أي نتيجة إيجابية..

المطلوب إرجاع دور المعلمين العليا ومعاهد ترشيح المعلمين.. لأن الخلل اليوم كبير جدا في قطاع التربية والتعليم ليس فقط بين التلاميذ والطلاب ولكن نسبة كبيرة من رجال التعليم يحتاجون بدورهم تكوينا وتأهيلا ورسكلة.. بدعم من مكونين من الداخل والخارج..

الأزمة الاقتصادية

س ـ وماذا عن الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تمر بها البلاد، هل يمكن للديبلوماسية الناجحة أن تساهم في إيجاد حلول وموارد مالية فورية للدولة؟


 ـ الديبلوماسية بشكل عام والديبلوماسية الاقتصادية يمكن أن تساهما في معالجة المعضلات الاقتصادية الاجتماعية للبلاد..

وحتى نقنع الآخر بدعمنا لا بد من فتح الآفاق للمستثمرين التونسيين وتوفير مناخ أعمال مناسب بدءا من إلغاء البيروقراطية وتبسيط الإجراءات والآجال لأن التعامل مع الإدارة التونسية والقضاء اليوم مرهق للمستثمر التونسي والأجنبي..

كما يجب إصلاح القضاء عبر مقاربة جديدة تبدأ برقمنة المحاكم وأرشيفها وكل المعطيات فيها.. وعدم الكشف عن اسم المتقاضي مثلما هو معمول به في أمريكا حيث لا يعرف القاضي من هو الشخص الذي يحاكم..

خلافات تونس والرباط والجزائر

س ـ بصفتك الحكومية والديبلوماسية حضرت عديد القمم العربية والعالمية، هل تعتقد أن تونس والرباط والجزائر قادرة على تجاوز خلافاتها الحالية التي تعمقت بعد استقبال رئيس جبهة البوليساريو إبراهيم غالي في تونس بمراسم رئيس دولة؟


هل يمكن أن يساهم ذلك في إنجاح القمة العربية التي تعقد بالجزائر في مرحلة تشهد فيها العلاقات العربية والدولية أزمات بالجملة لا سيما بعد التدخل الروسي في أوكرانيا؟


 ـ القمة العربية يمكن أن تكون فرصة للمصالحة بين تونس والمغرب والجزائر وكل الدول العربية إذا توفرت الإرادة السياسية والديبلوماسية الناجعة..

من مصلحة تونس والمغرب والجزائر وبقية العواصم تجاوز الأزمات الحالية.. وتونس يمكن أن تلعب دورا أكبر إذا احترمت ثوابت الديبلوماسية التونسية منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة وبينها الحياد الإيجابي..

أتمنى حضور الملك محمد السادس شخصيا على رأس الوفد المغربي المشارك في قمة الجزائر..

وأتمنى أن تنجح القمة في المصادقة على جدول أعمالها الثري بما في ذلك تعيين أمين عام جديد لاتحاد المغرب العربي يساهم في تفعيل العمل المغاربي المشترك..


التعليقات (1)
ابو يوسف
الثلاثاء، 20-09-2022 05:31 م
الحل ممكن والارادة السياسية منعدمة منذ 20 عاما...والشعب المطحون يدفع الفواتير