كتب

هل ينهي الفقه المقارن الخلاف بين المذاهب؟ كتاب يجيب

هل يمكن أن يستوعب الفقه بسياجه المذهبي وآلياته المنهجية قضايا العصر؟
هل يمكن أن يستوعب الفقه بسياجه المذهبي وآلياته المنهجية قضايا العصر؟

عنوان الكتاب: "مباحث في الفقه المقارن"
المؤلف: د. محمد المدنيني
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص
الطبعة الأولى: 2022
عدد الصفحات: 120


بالرغم من أنّ الحضارة الإسلامية حضارة محافظة على التنوّع الإنساني وأنّ القرآن اعتبر الاختلاف علّة غائيّة لخلق النّاس، فإنّ المسارين العقدي والفقهي انتهيا في الغالب إلى مُحصّلة لافتة للانتباه وهي الاتجاه من الدين إلى المذهب والاتجاه العقدي من البنية الكلية إلى البنى الجزئية.

يؤكد الباحث في العقيدة واللسانيات العربية، الدكتور صالح الإعجيلي في كتابه: "العقيدة الإسلاميّة: البنية الكليّة والبنى الجزئيّة". هذه المُحصّلة الّتي تجعل من الضروري بمكان الدفع في اتجاه إنضاج هويّة المشابهة حيث البحث عن المشتركات، لا الركون إلى هويّة المطابقة حيث البحث عن الآخر في الذّات.
 
إنّ السياقين العقدي والفقهي المذكورين يجعلان من الأصلح للبلاد الإسلامية التي ترى الآخر شرطا لقيام هويتها الذاتية، سواء تعلق الأمر بالمجال العقدي أو الفقهي. وبما أنّ جهود العديد من المفكرين لفهم المسألة العقدية والدينية عموما في إطار تجديدي من مثل ما قام به طه عبد الرحمن في كتابه "العمل الديني والتجديد العقلي" وعبد الكريم سروج في كتابه "بسط التجربة النبويّة"، بقيت رهينة مستوى الظواهر التداولية والخطابية دون أن تغوص في البنية الأولية المجردة للعقيدة"، وكذلك باءت جهود التقريب المذهبي بين السنة والشيعة ومساعي توحيد المذاهب بالفشل، بل إنّ منزع الانتصار للمذهب والتعصّب للرأي ظلّ هو الغالب، فإنّه يبقى الأفضل تجديد النّظر في الفقه المقارن والاجتهاد في وضع تصنيف للدراسات الفقهية المقارنة، كما يذهب إلى ذلك الدكتور الباحث محمد المدنيني.

إنّ العمل على وضع تصنيف للدراسات الفقهية المقارنة يتجاوز"المأزق" المذهبي" يتطلّب الحفر للإجابة على الأسئلة التالية التي مثلت محور المبحث الثالث من الكتاب وهي: هل يمكن أن يستوعب الفقه بسياجه المذهبي وآلياته المنهجية قضايا العصر، ويقدر على الاستجابة لحاجة أهل زماننا في ظل التحوّلات التي تشهدها المجتمعات المعاصرة والتغيرات التي يشهدها عالمنا في مجال الاتصال والاقتصاد والطب والفن والسياسة...؟ وهل يكفيه لينهض بوظيفته في مجال التشريع بالاجتهاد في حدود المدوّنة القديمة وفي إطار أصوله ومناهجه أم لا بدّ من إحداث القطيعة المعرفيّة معه بظهور الفقه المقارن.

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "مباحث في الفقه المقارن" للدكتور الباحث محمد المدنيني، الصّادر حديثا عن مجمّع الأطرش للكتاب المختص والذي اجتهد مؤلفه في إثارة قضايا عديدة ذات علاقة بالمذهبية والمذاهب الفقهيّة والمراحل التي شهدها هذا الفقه المقارن في تطوراته وتقلباته متتبعا خطواته، مبرزا خصائص كلّ طور جديد.

وقد نوّه الدكتور إلياس دردور، أستاذ تعليم عال ورئيس قسم الشريعة والقانون بالمعهد العالي لأصول الدّين بجامعة الزيتونة وعضو اللجان الشرعية بهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلاميّة بالبحرين، بتناول المؤلف الجيّد للمقارنة في الدّراسات الفقهية في محاولة منه لتأصيل المنهج المقارن. والإبانة عمّا تميّز به الفقه المقارن موضوعا ومنهجا وضرب أمثلة من واقع الأسرة والمرأة وقضايا المعاملات الماليّة المعاصرة و"سلك في ذلك كله أحسن طريقة وكان غزير الفائدة عميم الإجادة وأظهر حسن التنسيق وجودة الاستنتاج في طرق علاقة المذهبية والفقه المقارن".

باكورة إنتاج علمي-بيداغوجي في "الفقه المقارن"

يؤكد الدكتور محمد المدنيني أنّ مؤلّفَه يهدف أوّلا إلى توفير مدوّنة علميّة للطلبة الجامعيين، تعطي صورة واضحة عن الفقه المقارن في ماهيته ومضامينه وأهدافه وطريقة تدريسه.
 
ويهدف هذا البحث ثانيا إلى أن يلفت أنظار الخبراء الجامعيين ومهندسي البرامج الى مزيد العناية بمجال المهارات إضافة إلى المكتسبات العلميّة للطالب، فالكتابات العلميّة لها دور في تكوين الطالب والارتقاء بمستواه العلمي، ولكنها لا تمكنه من تملّك القدرة على توظيف المعلومات واستثمارها في سياقات مختلفة، ولذلك يقتضي التجديد صرف النظر إلى هذا الجانب المهاري لتواكب المعاهد الشرعية ما يجري في المجال البيداغوجي من تطورات لها بالغ الأثر تعلّما وتعليما.

ويهدف هذا البحث ثالثا الى ان يكون باكورة انتاج علمي ـ بيداغوجي في "الفقه المقارن" يطّلع من خلاله الباحثون والدّارسون على محاولة اجتهادية جمعت في تدوينها للفقه المقارن بين الجانب العلمي والبيداغوجي، ويجد فيه طلبه العلم إضافات تعزّز ما تلقّوه في قاعة الدّرس.

ترابط العلوم الشرعيّة

يشير الدكتور محمد المدنيني إلى ترابط جليّ بين علوم شرعيّة ثلاثة: الفقه المقارن، علم الاختلاف وعلم الفقه، حيث خرج علم الاختلاف من رحم الفقه، ولازمه مدة من الزمن قبل أن يستوي علما قائم الذات وتتسع دائرة النظر فيه في الجانب المنهجي مع استقرار المذاهب الفقهية، وتنمو حركة التدوين الخاصّة بهذا العلم وينمو معها المنهج المستخدم في دراسة القضايا الخلافية دراسة مقارنة وتتعدد الجهات المهتمة بالنظر الفقهي من أئمّة مجتهدين داخل المذهب الواحد ثم من المذاهب الفقهية المعروفة ولكن ظلّ منزع الانتصار للمذهب والتعصب للرأي غالبا.
 
بنية الكتاب

بني كتاب "مباحث في الفقه المقارن" على تخطيط شمل مقدّمة وأربعة مباحث وخاتمة. تطرقت المقدّمة إلى السياق الذي تنزل فيه تناول الفقه المقارن بالدّراسة والتأليف وأهداف البحث وإشكاليته ومبرراتها والثمرات التي يجنيها الطالب من دراسته للفقه المقارن وتخصصه فيه. وشمل الكتاب أربعة مباحث: "جدل الفقه المقارن: جدل القديم والجديد" و"المقارنة في الدّراسات الفقهية" و"تمييز الفقه المقارن"، و" المذهبيّة الفقهيّة والفقه المقارن".

تناول المبحث الأول الفقه المقارن وما يثيره من قضايا ذات علاقة بالمذهبية والمذاهب الفقهية والأطوار التي شهدها هذا الفنّ وخصائص كل طور قبل أن يظهر فرعا من فروع العلم يبحث له عن موضع قدم في المحيط الجغرافي للعلوم الشرعيّة المعاصرة.

 

إنّ دراسة الفقه المقارن لا تمثّل خطرا على المذهب المالكي خصوصا ولا سائر المذاهب المشهورة عموما، ولا تعني أن يحل الفقه المقارن بديلا عن هذه المذاهب، بقدر ما ستعيد النّظر في تحديد العلاقة بينها وصياغة تصنيف جديد يحدّد أدوار كلّ علم ويحفظ للمذاهب قدرها،

 



وتضمن المبحث الثاني المعنون بـ"المقارنة في الدّراسات الفقهية" ثلاثة محاور ساعدت على التمييز الدقيق بين ثلاثة فروع من العلم يجمعها في الظاهر تداخل وخاصة علم الخلاف وعلم الاختلاف ولكن عند النظر يتبين أنّ التواصل بين علم الاختلاف والفقه المقارن هو أقوى من التواصل بين علم الخلاف والفقه المقارن.

فيما سعى الكاتب في المبحث الثالث من الكتاب المعنون بـ"تمييز الفقه المقارن" إلى الإجابة على أسئلة العصر ومدى حاجة أهل زماننا إلى الفقه المقارن في ظل التحوّلات التي تشهدها المجتمعات المعاصرة في مجال الاتصال والاقتصاد والطب والفن والسياسة ودوره في معاضدة الفقه المذهبي في معالجة مصالحهم الطارئة وتعقيداتها.

أمّا المبحث الرابع الذي يحمل عنوان: "المذهبية الفقهية والفقه المقارن" فقد تناول فيه المؤلف واقع تدريس الفقه المذهبي من حيث الطريقة، ثمّ طرح أسئلة التدريس المعروفة: لماذا ندرّس الفقه المقارن؟ وماذا ندرّس في الفقه المقارن؟ ثمّ كيف ندرّس الفقه المقارن؟

هل يتجاوز الفقه المقارن الفقه المذهبي؟

يكون من الأهمية بمكان الإشارة في البداية إلى ما حسمه محمد سعيد رمضان البوطي في مؤلفه "محاضرات في الفقه المقارن"، من كونه "لا مطمع في القضاء على الاختلاف بين المذاهب والخلاف بينها ولا سبيل إلى ما يسمّى بتوحيد المذاهب وضفرها في مذهب شامل واحد". ذلك أنّ الفقه المقارن هو الطريق إلى تقدير المذاهب الأربعة حقّ قدرها، والاقتناع بأنّ جميع المسائل الظنيّة من أمور الفقه، خاضعة للخلاف والنزاع، فلا مطمع في رفعها إلى مستوى اليقين والقطع.

في ذات السياق، تناول المؤلف الإجابة عن بعض الإشكاليات المنبثقة عن السؤال أعلاه. من ذلك: هل يمثل الفقه المقارن خطرا على المذاهب الفقهية وعلى الفقه المالكي على وجه الخصوص؟ وهل يعني درسه تجاوز هذه المذاهب وإحلاله بديلا عنها؟ وهل يعبّر رفض المبادرات التي تنحو إلى توسيع آفاق النظر في الدّرس الفقهي اعتمادا على المقارنة، وممارسة النقد على الإنتاج الفقهي عن مقاصد علمية وجيهة واعتبارات بيداغوجية معتبرة؟ أم أن الرفض تعلقا برواسب لها صلة بالسمات التاريخية والثقافية والنفسية التي طبعت شخصيّة سكان المغرب العربي في علاقتهم بالتنوع الفقهي والتعدد المذهبي؟ وما الإضافة التي يمكن أن يحققها ماجستير بحث "فن المناظرة في الفقه المقارن" في المجال العلمي والبيداغوجي والمنهجي والتواصلي؟

إنّ دراسة الفقه المقارن لا تمثّل خطرا على المذهب المالكي خصوصا ولا سائر المذاهب المشهورة عموما، ولا تعني أن يحل الفقه المقارن بديلا عن هذه المذاهب، بقدر ما ستعيد النّظر في تحديد العلاقة بينها وصياغة تصنيف جديد يحدّد أدوار كلّ علم ويحفظ للمذاهب قدرها، ولذلك فإنّ رفض هذه الدعوة لا يقوم على اعتبارات علميّة ومنهجيّة بقدر ما يؤكّد عمق تأثير السمات التاريخيّة والثقافيّة والنّفسية في شخصيّة سكان المغرب العربي بركونهم إلى الفقه المالكي ورفض كلّ شكل من أشكال التعدّد المذهبي.

وإنّ إحداث ماجستير بحث في فنّ المناظرة في الفقه المقارن سيجعل المسائل الخلافيّة الّتي تناولها الفقه القديم بالدّرس، أو طرأ عليها ما يقتضي إعادة النظر فيها في دائرة فقه الاختلاف، ويوجّه أنظار الباحثين إلى أن يختص الفقه المقارن بالقضايا المعاصرة الّتي لا نظير لها في الفقه القديم.
 
تعريف الفقه المقارن

لئن اقترن الفقه بالدين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من يُرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين" أي يُفهمه أحكام الشريعة الإسلاميّة أمرا ونهيا. كما يقول ابن تيمية "الفقه في الدّين: فهم معاني الأمر والنهي، ليستبصر الإنسان في دينه، ألا ترى قوله تعالى: "ليتفقهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون" (التوبة ـ الآية 122) فقَرَن الإنذار بالفقه، فدلّ على أنّ الفقه ما وزع عن محرّم، أو دعا إلى واجب، وخوّف النفوس مواقعهُ، المحظورة".

كما عرّف العلماء الفقه بأنّه: "العلم بالأحكام الشرعيّة، العمليّة، المستدل على أعيانها، بحيث لا يعلم كونها من الدّين بالضرورة. واصطلاحا تستخدم المقارنة في المجال الفقهي بين أقوال الفقهاء في المسائل الفرعيّة متناسبة مع وضعها اللغوي، فتكون "مقارنة الرأي بالرأي، مقابلته أو موازنته به، ليعرف مدى اتفاقهما أو اختلافهما، وأيّهما أقوى وأسدّ بالدّليل"، على حد تعبير الدكتور فتحي الدريني، في مؤلف كتابه "الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب".

وكان الدكتور الدريني قد عرّف الفقه المقارن بـ "تقرير آراء المذاهب الفقهية الإسلامية في مسألة معيّنة، بعد تحرير محلّ النّزاع فيها، مقرونة بأدلّتها، ووجوه الاستدلال من مناهج أصولية وخطط تشريعية وبيان منشأ الخلاف فيها، ثم مناقشة هذه الأدلّة أصوليّا، والموازنة بينها، وترجيح ما هو أقوى دليلا، أو أسلم منهجا، أو الإتيان برأي جديد، مدعّم بالدّليل الأرجح في نظر الباحث المجتهد".

معالجة القضايا بالمعهود المذهبي

تمّ تحديد اتجاهات تعريف الفقه المقارن في اتجاهات ثلاثة: اتجاه أوّل حصر دائرة الفقه المقارن في حدود المذاهب الفقهية واتجاه ثان يجمع بين ما طرحه الفقهاء القدامى وبين مدونة الفقه المذهبي واتجاه ثالث يهتم بدراسة القضايا المعاصرة التي لم يسبق أن نظر فيها الفقه القديم.

جعل الاتجاه الأوّل دائرة الفقه المقارن في حدود المذاهب الفقهية، وكأنّه التزم في معالجة القضايا بالمعهود المذهبي، واتجه في كتابته إلى عرض أدلّة الفقهاء وأقوالهم في المسائل المختلف فيها والإبانة عن الراجح من المرجوح من هذه الأقوال مقرونا بأدلّته وقواعده. ومن أبرز وجوه هذا الاتجاه: الدكتور الدريني الذي أفرد لموضوع الفقه المقارن مؤلّفا عالج فيه جملة من المسائل الفقهيّة من داخل المذاهب، تحت عنوان "الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب".

إنّ ما يميّز تعريف الفقه المقارن المعتمد من قبل الاتجاه الأوّل الذي يمثله الدكتور فتحي الدّريني، أنّه أدخل فيه الخطوات المنهجيّة التي يتبعها الباحث المجتهد عند دراسته الفقه المقارن ونظره في المسائل المختلف فيها بين المذاهب، وكذلك فعل أغلب من عرّف الفقه المقارن. ولا يتضمّن التعريف المعتمد من قبل الاتجاه الأول المذكور أي إشارة إلى إمكانيّة تناول الباحث المجتهد مسائل مستجدّة -جدّة علم الفقه المقارن- لم يصرف فقهاء المذاهب القديمة همّتهم لمعالجتها أو لم تكن ضمن الوقائع والمستجدّات التي طرأت في زمانهم.

من بين روّاد هذا الاتجاه الأوّل في الفقه المقارن نذكر كذلك حسن أحمد الخطيب الذي عرّف الفقه المقارن بقوله "نوع خاص من دراسة الفقه، ويراد به العلم بالأحكام الشرعيّة في مختلف الأنواع والأبواب من حيث معرفة آراء الأئمّة والفقهاء والعلماء، ومذاهبهم المتفقة أو المختلفة فيها، وبيان أدلّتهم وقواعدهم الأصولية ووجهات نظرهم التي كانت منشأ هذا الاختلاف مع سبر هذه الأدلّة وموازنة بعضها ببعض، واختيار أقربها إلى الحقّ وأولاها بالقبول". ويرى الدكتور محمد المدنيني أن هذا التعريف أدقّ من حيث إصابته لحقيقة الفقه المقارن ومكوّناته بالمقارنة مع تعريف الدكتور فتحي الدريني.

الجمع بين مدونة الفقه المذهبي وما طرحه الفقهاء القدامى

ينتهي الدكتور المدنيني إلى أن أصحاب الاتجاه الثاني عملوا في دراستهم للفقه للمسائل الفرعيّة في ضوء الفقه المقارن على الجمع بين ما طرحه الفقهاء القدامى وما تضمنته مدوّنة الفقه المذهبي من آراء وأقوال، فحافظوا بذلك على استمرارية المدارس الفقهية وحضورها في الفعل الاجتهادي المعاصر، وتصدّوا لما استجدّ من الوقائع والأحداث التي فرضتها التغيّرات التي شهدتها المعمورة ولم يكن للفقه القديم عهد بمثلها.

دراسة القضايا المعاصرة التي لم يسبق أن نظر فيها الفقه القديم

يؤكد الدكتور محمد المدنيني أنّه لا يوجد من استخلص حقيقة الفقه المقارن ومكوناته وخصائصه بالكيفية التي يظهر فيها متميّزا عن علم الاختلاف القديم موضوعا ومنهجا وغاية، ولكن باستقراء الدّراسات والبحوث المعاصرة يظهر أنّه أخذ في التشكّل شيئا فشيئا، وسيأتي الوقت الذي يستوي فيه الفقه المقارن بثوب جديد يخلّصه من الارتباط القسري بعلم الاختلاف بحكم تطوّر العلوم في مناهجها ومواضيعها. ويشير د.المدنيني إلى أن المبحث الثالث يهتم بدراسة القضايا المعاصرة التي لم يسبق أن نظر فيها الفقه القديم أو نظر فيها، ولكن طرأ جديد في صورتها أو في صفتها، اقتضى التفاعل معها والتصدّي لإيجاد الأجوبة المناسبة لها خارج أسوار فقه المذاهب المشهورة.

الفقه المقارن علم جديد

يؤكد الدكتور المدنيني على جدّة الفقه المقارن، وأنه منشأة شديدة التراكميّة وأنّ مساره سيرورة متّصلة مستمرّة بلا انقطاع ولا انفصال وأن العلماء يعملون جيلا بعد جيل على توسيع المعرفة العلميّة بشكل منتظم من حيث النظر العلمي ومن حيث الدقّة والبعد المنهجي، وأنّه بمجرّد أن يضيف أحد العلماء جديدا إلى نظريّة علميّة ما، حتّى يصبح ذلك الجديد جزءا لا يتجزّأ منها، ولن يكون عمله العلمي هو نفس عمل سلفه.

 

إنشاء علم الاختلاف مرحلة أساسية تعبّر عن النضج العلمي والمنهجي الذي بلغه القدامى في حدود ظروفهم التاريخية وأوضاعهم الحضاريّة. ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن ينحصر اجتهاد من جاء بعدهم في الحدود التي رسموها والأهداف التي ضبطوها، وأن لا يبذلوا ما في وسعهم من أجل التطوير والإضافة ويبقى قصدهم إلى الاعتكاف فيما أشاده القدامى..

 



في هذا السياق، ينوّه المؤلف بما ذكره إمام الحرمين أبو المعالي الجويني عن هذه الحقيقية في ميدان العلوم، إذ يقول "السابق وإن كان له حقّ الوضع والتأسيس والتأصيل فللمتأخّر الناقد حق التتميم والتكميل وكلّ موضوع على الافتتاح قد يتطرّق إلى مبادئه بعض التثبيج (الاضطراب)، ثمّ يتدرّج المتأخّر إلى التهذيب والتكميل، فيكون المتأخّر أحقّ أن يتّبع لجمعه المذاهب إلى ما حصّل السابق تأصيله، وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم".

صلة الفقه المقارن بعلم الاختلاف

لقد استجاب الفقهاء القدامى لمقتضيات زمانهم وتفاعلوا مع مستجدّات واقعهم، فأنشأوا العلوم الشرعية ذات الأبعاد الوظيفية العلمية ووضعوا لها مناهجها الخاصة بها. ومن هذه العلوم الشرعيّة علم الاختلاف الذي بذل فيه أصحابه جهودا من حيث المنهج المتبع في دراسة المسائل الفرعيّة المختلف فيها، أو في الغاية إلى درك القول الصّائب المستند إلى قوّة الأدلّة بدل الانتصار للمذهب أو الإمام كما هو معهود في علم الخلاف.

في ذات الإطار يشير المؤلف إلى أن إنشاء علم الاختلاف مرحلة أساسية تعبّر عن النضج العلمي والمنهجي الذي بلغه القدامى في حدود ظروفهم التاريخية وأوضاعهم الحضاريّة. ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن ينحصر اجتهاد من جاء بعدهم في الحدود التي رسموها والأهداف التي ضبطوها، وأن لا يبذلوا ما في وسعهم من أجل التطوير والإضافة ويبقى قصدهم إلى الاعتكاف فيما أشاده القدامى، بل لهم بحسب قول إمام الحرمين حق الممارسة النقديّة المنهجيّة وذلك بإعمال الموازنة في أعمال المتقدّمين بين الإيجابيات والابتكارات وبين السلبيات والأخلال، فلا ينسون تقدير جهود السابقين التاسيسية، ولا ينكرون جليل ما أفادوه في علم الاختلاف.

تقدّم الفقه المقارن في العصر الحديث

يؤكد الدكتور المدنيني ما شهده الفقه المقارن في العصر الحديث من تقدّم في الآراء والأقوال الخاضعة للمقارنة ليشمل بالإضافة إلى المذاهب الفقهية المشهورة المذاهب الشيعية (الإمامية والزيدية) والمذهب الإباضي والظاهري ويعنى بما تصدره الهيئات الشرعية والمجامع الفقهية واللجان العلمية من قرارات وفتاوى في النوازل والمستجدات المالية والاقتصادية والقوانين الوضعية. كما تقدّم الفقه المقارن أشواطا معتبرة في منهج دراسة قضايا الفقه الخلافيّة بحيث أصبح النظر فيها منبنيا على خطوات منهجيّة متواضع عليها بين الباحثين والدّارسين، وهادفا إلى إدراك القول الصائب المتميّز بقوة أدلّته، ومتجاوزا لمنطق الغلبة والانتصار للمذاهب.


التعليقات (0)