أفكَار

تداعيات التأميم النيو ليبرالي للديمقراطية الغربية.. رأي نقدي

هيثم مناع: لقد ضربت هيمنة الأنموذج النيوليبرالي عبر الأطلسي أهم مكتسبات الدولة الاجتماعية الديمقراطية الأوروبية
هيثم مناع: لقد ضربت هيمنة الأنموذج النيوليبرالي عبر الأطلسي أهم مكتسبات الدولة الاجتماعية الديمقراطية الأوروبية

قبل 35 عاما، توقف المفكر الحقوقي الراحل محمد السيد سعيد (1950-2009) عند التأصل المتنامي لما سماه روبرت جيلبن Robert Gilpin وقتئذ : corpo-rate State بالقول: "هذه الدولة التي تنكر فعليا الخصائص الليبرالية القديمة رغم استمرار الأسس القانونية للانتخاب العام والحكم التمثيلي. فالتنافس على سلطة الدولة لم يعد ـ مثلما لم يعد التنافس في الأسواق الاقتصادية- تنافسا حرا. بل تتدخل فيه عوامل الاحتكار المالي والقوة التنظيمية والدعائية. لم يعد المواطن الذي يقوم بالمشاركة في الانتخابات العامة قادرا على تكوين وجهة نظر مستقلة بنفسه، بل هو خاضع لمؤسسات عملاقة تشكله نفسيا وإيديولوجيا. وبالتالي تكون النتيجة النفي المتزايد للفرد والفردية، وتصبح الجماعة المنظمة والمؤسسة corporation هي الوحدة الأساسية، وبالتالي يحسم الصراع حول السلطة السياسية نتيجة التحالفات والصراعات بين مؤسسات عملاقة من بينها مؤسسات الأعمال". (الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية، ص71).
 
لم يكن جدار برلين قد سقط يومئذ، ولكن العولمة النيوليبرالية كانت قد قطعت أشواطا تعدت بها الإطار التقليدي لمختلف النظريات الاقتصادية الكلاسيكية. فقد فتحت الشركات المتعددة الجنسيات والقواعد المتسارعة الإنغراس للمنظومة العالمية الباب أمام ثلاثية (الربح ـ النمو المتسارع ـ السيطرة). وبدأت بالتداول، على الأقل، في حلقات العصف الذهني الاقتصادية، تعابير مثل احتكار القلة Oligopoly، حكم القلة Oligarchy، جماعات الضغط (اللوبيات) المالية والتجارية والأعمال.. وفي حفلة المصادرات غير التاريخية، كان من الضروري التأكيد على أن هذه السيرورة النيو ليبرالية المعولمة، هي الديمقراطية في شكلها الأرقى.

 

أمكن للنظم السياسية الغربية الاستمرار، رغم توقفها عن التقدم، بل وتفريغ كل ما يجري الحديث عنه من ضرورة نفض المؤسسات الهرمة من معناه ومبناه. فالخطر ليس في تعفن المؤسسات وهرم السياسات والتفاوت الهائل بين عالمي الأغنياء والفقراء، الخطر الأساسي هو في التوتاليتارية العائدة في ثوب روسي بوتيني، وشيوعي صيني، وإرهاب إسلامي معاد بالسليقة لهذا الغرب الجميل..

 



تكوّن من تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو كل ما يسمح للعولمة النيو ليبرالية بالإنتشار في عموم القارة الأوروبية، ولم يحتج الأمر لطول وقت، لنشوء الأوليغارشيات الجديدة في شرقي أوربة والاتحاد الروسي. وضع الانتساب السريع لدول أوربة الشرقية حدا لولادة فيدرالية أوروبية سياسو ـ اقتصادية، ولم تعد أوروبا التنوير أو حركات التغيير مرجعا لمن يطمح بالمشاركة في بناء المنظومة العالمية World  ـ System، حتى التقاليد الحزبية والنقابية والمدنية التي كانت وراء الجمع بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية والمدنية، تراجعت أمام هذا الطوفان عبر الأطلسي، الذي سطّح الوعي السياسي والمدني وحمل تاءات ثلاثة جعلت من كل من يقاومها يسارو-إسلاميislamo-gauchiste ، متطرف قومي، أو شيوعي في طور الإنقراض: تدنيس الوعي، تهميش قوة العمل البشري وتحقير المختلف. 

وبذلك، أمكن للنظم السياسية الغربية الاستمرار، رغم توقفها عن التقدم، بل وتفريغ كل ما يجري الحديث عنه من ضرورة نفض المؤسسات الهرمة من معناه ومبناه. فالخطر ليس في تعفن المؤسسات وهرم السياسات والتفاوت الهائل بين عالمي الأغنياء والفقراء، الخطر الأساسي هو في التوتاليتارية العائدة في ثوب روسي بوتيني، وشيوعي صيني، وإرهاب إسلامي معاد بالسليقة لهذا الغرب الجميل (حسب الترتيب الجديد للمفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو 2022 ـ 2030).
 
لم تكن هذه السيرورة غائبة عن أكثر المثقفين العرب نباهة وأكثرهم تهميشا في السوق المعرفية، الدكتور محمد حافظ يعقوب حاول في كتابه "العطب والدلالة" (1997) التعرض للإفتراق والالتحاق في الأوضاع العربية مع التراجع الديمقراطي، نشرت الدكتورة فيوليت داغر مع عشرين باحثا سوريا كتاب "الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا" (2001)، جرى التأكيد في الجزء الثاني من موسوعة "الإمعان في حقوق الإنسان" (2003) على موضوعة الإحتواء العالمي والإمبريالية والعدل، وحقوق الإنسان في منظمة التجارة العالمية والعولمة... صدر كتابي "الولايات المتحدة الأمريكية وحقوق الإنسان (2003) في خمس طبعات، خصص الدكتور منصف المرزوقي أهم ما في كتابه "عن أية ديمقراطية يتحدثون" (2005) لتوضيح كيف صادرت الليبرالية مفهوم الحرية كما صادرت الشيوعية مفهوم العدالة فضاعت الحرية هنا والعدالة هناك وصولا للقول: "شتان بين الدولة الديمقراطية والدولة الليبرالية". ومع تباشير الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 كتبت وقتئذ: "لا أجد حرجا في التذكير بالأبعاد الثلاثة للهيمنة الليبرالية. بعد أن ذكّر ارتجاف بورصات العالم، نتيجة "جنوح جشع" لبعض المصارف، كل الذين جعلوا من السوق ربهم الأعلى، بأن الليبرالية فقدت دورها التقدمي منذ عقود. وأن إعادة اجترارها بتعابير "جديدة" كان لتأصيل السمات الأساسية للبربرية المعاصرة أي: ربانية السوق، الإثراء غير المتكافئ، وفرملة التقدم الحقوق إنساني العالمي".

 

لم يعد في أوروبا أسماء وشخصيات سياسية، كذلك حال النقابات والأحزاب السياسية.. لقد ضربت هيمنة الأنموذج النيوليبرالي عبر الأطلسي أهم مكتسبات الدولة الاجتماعية الديمقراطية الأوروبية، تصعد للسطح ثم تغيب أحزاب وبرامج غازية وذئاب شابة لإدارة أزمات مزمنة، ثمة سيطرة شبه تامة على تعبيرات السلطة الرابعة التي يملكها حفنة من الأثرياء، وتتم عملية التوجيه والتخدير السياسي والثقافي بشكل يسمح لكل الشعارات الشعبوية والعنصرية بالتنامي..

 


  
لم نكن وحدنا في هذه المواجهة، فقد خاض معنا خيرة المفكرين النقديين هذه المعركة، من يوجين هابرماس إلى إيمانويل وارلستين وجيمس بول ونعوم شومسكي وأندريه غونتر فرانك وسمير أمين.
  
كذلك حاول أكثر أبناء المنظومة نفسها ذكاءا، مد الجسور بين المنظومة العالمية وما تقوم عمليا بسحقه، أي الدولة الاجتماعية والتنمية وحماية البيئة. تأتي في هذا النطاق محاولات توماس كاروثرز المبكرة لتوثيق هذا التوتر في مقالته "الديمقراطية وحقوق الإنسان: حلفاء سياسيون أم خصوم"، حيث لاحظ كاروثرز أنه "حسب التعريف فإن تعزيز الديمقراطية يستلزم تعزيز حقوق الإنسان، والعكس صحيح وهو أن تعزيز حقوق الإنسان هو شكل من أشكال الترويج للديمقراطية". ولكن نظراً لتنوع واختلاف الأسباب السياسية والعقائدية، كان هذان الاتجاهان على طرفي نقيض. 

ففي حين تتابع منظمات حقوق الإنسان بناء منظومة قانونية عالمية لحماية الحقوق الأساسية الخمسة، تسمرت الديمقراطية الغربية في إيديولوجية سياسية وضعت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية خارج حساباتها. بريان آتود، الذي رأس لست سنوات USAID اعتقد أن بإمكان البرنامج الأمريكي التوفيق بين حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية... لا أدري إن كان الخبير الأمريكي على علم بمواقف الإدارات المتعاقبة منذ الثمانينيات من النضال الحقوقي للدفاع عن الحق في التنمية للدول الأكثر فقرا وتهميشا، إلا أنه بالتأكيد، أعلن عن شراكة في واشنطن بين حقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية لم تر يوما النور. تُجمع تقارير التنمية العالمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ مطلع القرن، على استمرار "وجود عدم مساواة في الحصول على الموارد وفي توزيع الطاقة داخل الدول وفيما بينها". وكما يخلص أحدها: "ما لم يتم القضاء على ظاهرة عدم المساواة هذه، فلن تترجم أول مباديء إعلان الألفية [المعتمد من الأمم المتحدة في عام 2001، ومنه مشتق الأهداف الإنمائية للألفية وهي الالتزام بالعدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان] إلى تقدم في التنمية البشرية".

ليلة الانتخابات السويدية الأخيرة، لم تتحدث محطة إخبارية واحدة عن هذا الحدث، فالمغفور لها الملكة إليزابيث احتلت كامل نشرة الأخبار. أما مخاطر الإنزياح الإيطالي نحو اليمين المتطرف فقلة من المحللين من يتعرض له. بدأت الملكة رئاستها للكومنولث والمملكة المتحدة بونستون تشرشل رئيسا للوزراء.. فمع من كانت نهاية جلوسها على العرش؟ لم يعد في أوروبا أسماء وشخصيات سياسية، كذلك حال النقابات والأحزاب السياسية.. لقد ضربت هيمنة الأنموذج النيوليبرالي عبر الأطلسي أهم مكتسبات الدولة الاجتماعية الديمقراطية الأوروبية، تصعد للسطح ثم تغيب أحزاب وبرامج غازية وذئاب شابة لإدارة أزمات مزمنة، ثمة سيطرة شبه تامة على تعبيرات السلطة الرابعة التي يملكها حفنة من الأثرياء، وتتم عملية التوجيه والتخدير السياسي والثقافي بشكل يسمح لكل الشعارات الشعبوية والعنصرية بالتنامي. هل هو فقر دم الكفاءات أم ضرورة لاستمرار المنظومة النيو ليبرالية العالمية؟ ما زال جيلنا يذكر كيف تمت إزاحة وزير الخارجية دومينيك دوفيلبان الذي ألقى خطاب الرئيس الفرنسي شيراك في مجلس الأمن في وجه كولن باول من المشهد السياسي الفرنسي... أين هو الآن؟ 

بعد موقفها الرافض لتقديم أية مساعدة عسكرية لأوكرانيا، يوم كانت وزيرة للدفاع في بلادها (ألمانيا)، من أجل السلام الأوروبي، كادت فاندر لاين أن تغيب عن المشهد السياسي، وعندما فهمت الدرس، أصبحت اليوم، وقبل المستشار الألماني الجديد، من أهم الشخصيات الأوروبية، وليس فقط الألمانية، المدافعة عن "انتصار أوكراني على العدوان الإمبريالي الروسي"، ولو شكل ذلك تغييبا لدور أوروبي في الخرائط القادمة لعالم متعدد الأقطاب، ليست الديمقراطية، للأسف، على جدول أعماله الأساسية!   


التعليقات (0)