مقالات مختارة

لغة العلم في عصرنا الحالي

محمد زهران
1300x600
1300x600

لماذا لا يقتنع الأهل والشباب بأهمية اللغة العربية فى عصرنا الحالى؟ إذا تكلمت مع أى أسرة من التى تفخر بأن أولادها يتكلمون الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية بطلاقة لكنهم للأسف ضعفاء جدا فى اللغة العربية وسألتهم لماذا يهملون العربية ستجد إجابة «واقعية» (أو لنقل برجماتية): اللغة الأجنبية ستؤهل الطالب المتخرج للعمل فى شركة متعددة الجنسيات ذات مرتبات عالية ونحن فى عصر يحتاج إلى المادة، موضوع الهوية والانتماء وما شابه لا يمكن قياسها مثلما نقيس المرتب من شركة كبيرة.

 

مقالنا اليوم عن اللغة وأهميتها وعلى الأخص لغة العلم وهى حاليا اللغة الإنجليزية. لكن ما أهمية لغة معينة (بخلاف المرتب المرتفع)؟


هل تؤثر اللغة على طريقة التفكير؟ لا توجد إجابة قاطعة على هذا السؤال لكن هناك أبحاثا كثيرة تشير إلى أن الإجابة هى بنعم، أنت تفكر بلغتك الأم وهناك كلمات فى لغات معينة قد لا تجب مثلها فى لغات أخرى والعكس لذلك على الأقل نستطيع أن نقول إن اللغة تجعلك تفكر وترى العالم بطريقة مختلفة عمن يتكلم بلغة أخرى لأن اللغة هى وعاء الثقافة ورؤيتك للعالم من حولك تتأثر جدا بثقافتك وبالتالى بلغتك، علماء اللغويات عندهم فرضية تسمى النسبية اللغوية (Linguistic Relativity) تقول إن بنية اللغة تؤثر على رؤية العالم. اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب لكنها إحدى وسائل بناء الثقافة، أى إنك لا تستطيع فصل اللغة وثقافة الشعب التى يتكلم بها، انظر مثلا إلى الأمثلة الشعبية لدولة ما أو وسائل السخرية و«الألش»، كل هذه الأشياء ما هى إلا تفاعل اللغة مع الثقافة، لذلك كله وحتى يُثبت العكس سنفترض أن اللغة تؤثر على طريقة التفكير وكلما كانت اللغة قوية كانت ذلك أفضل. لكن ما معنى لغة قوية؟


أفضلية لغة على أخرى مسألة معقدة جدا، مثلا هل عدد الكلمات دليل على أفضلية لغة على أخرى؟ ولماذا؟ وكيف نحصر عدد الكلمات؟ هل هى جزور الكلمات فقط أم تركيباتها أيضا؟ أم أن قدرة اللغة على الوصف هى التى تحدد أفضلية لغة على أخرى؟ وكيف نقيس ذلك؟ لا تظن أننا بصدد الإجابة عن كل تلك الأسئلة لكننا نطرحها حتى يرى القارئ الكريم بنفسه أننا لا نستطيع أن نقول بسهولة إن تلك اللغة أفضل من غيرها. وحتى إذا سلمنا بهذا وقلنا إن اللغة العربية مثلا هى الأغنى فى الكلمات والتركيبات وكانت لغة العلم فى القرون الوسطى فلماذا هى الآن ليست لغة العلم؟


الموضوع له أبعاد أخرى غير قوة اللغة، العلم فى عصرنا هذا الذى أصبح فيه العالم قرية صغيرة يحتاج إلى لغة تتمتع بعدة صفات: أولا يجب أن تدعمها دول الصف الأول فى البحث العلمى فى هذا العصر، ثانيا أن تكون اللغة الأولى أو الثانية لعدد كبير من الناس، قد يكون من يتكلمون الصينية (الماندرين) أكثر من الذين يتكلمون الإنجليزية لكن الإنجليزية هى اللغة الثانية لأغلب دول العالم، ثالثا أن تكون لغة سهلة التعلم. لكل هذه الصفات أصبحت الإنجليزية هى لغة العلم بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هل معنى هذا أن من لا يجيدون الإنجليزية بطلاقة أصبح محكوما عليهم بالجهل؟


هنا تأتى أهمية الترجمة، الترجمة تتيح لك التعرف على المخزون المعرفى للعالم بلغتك الأم، فى الفروع الأدبية مثل الشعر مثلا الترجمة قد تُفقد النص الأصلى بعض بريقه، هذا لا يحدث مع العلم لذلك ترجمة المعارف البشرية إلى العربية تساعد من لا يتكلمون الإنجليزية بطلاقة على معرفة مستجدات العلم من ناحية وعلى إجادة التفكير العلمى من ناحية أخرى، وهذه الميزة الثانية مهمة للشخص فى جميع مناحى الحياة. لكن الترجمة لا تغنى عن تأليف كتب علمية موجهة للعامة لأن الكاتب المصرى مثلا يستطيع الوصول للقارئ المصرى أفضل من الكاتب الأجنبى. من يمتهن البحث العلمى ومن يعمل فى الصناعة عليه تعلم الإنجليزية بطلاقة لأنها مجال عمله ولن يستطيع الانتظار حتى تصدر ترجمة كتاب أو بحث ما.


لا تظن أننى أريد أن أقول للقارئ الكريم أن يهمل اللغة الأجنبية، وجود لغتين أفضل من واحدة، إذا كانت اللغة تجعلك ترى العالم وتتفاعل معه بطريقة معينة فإن وجود أكثر من لغة يجعل عندك أكثر من رؤية وبالتالى رؤيتك وثقافتك ستكون أكثر عمقا ناهيك عن قدرتك على الاطلاع على ثقافات مختلفة بلغتها الأصلية.


تعلم اللغة العربية للأجيال الجديدة عندنا مهم ليس فقط لأسباب متعلقة بالهوية والدين لكنها تجعل الشخص أقرب لثقافة بلده مما يزيد من قربه منها وسهولة تواصله مع أقرانه.

 

(الشروق المصرية)

0
التعليقات (0)