قضايا وآراء

انتخابات قيس سعيد وفشل أوهام التأسيس الجديد

محمد الحمروني
عربي21
عربي21
نسبة المشاركة الهزيلة تأكيد لمشروعية منظومة الثورة

في الوقت الذي التزمت فيه الجهات الرسمية وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية الصمت ولم تعلق على نسب المشاركة المتدنية للغاية في الدور الثاني للانتخابات البرلمانية التي جرت في تونس يوم أمس الأحد 29 جانفي الجاري، دعت غالبية القوى السياسية والمدنية التونسية إلى ضرورة البناء على هذه النسب وترتيب ما يجب أن يترتب عنها من نتائج سياسية.

ومباشرة بعد الإعلان عن نسب المشاركة الأولية في الانتخابات والتي لم تتجاوز 11،3 في المائة - وهي تقريبا نفس نسب المشاركة في الدور الأول- دعت كل من جبهة الخلاص الوطني، أبرز التكتلات السياسية المعارضة لحكم قيس سعيد بقيادة حركة النهضة، إضافة إلى ما يسمي بالخماسي الذي يضم كلا من الحزب الجمهوري والتكتل من أجل العمل والحريات والتيار الديمقراطي وحزب العمال والقطب، إلى اعتبار البرلمان المنبثق عن هذه الانتخابات صوريا بلا صلاحيات تشريعية ولا رقابية وفاقدا للشرعية وعنوانا من عناوين الأزمة السياسية في البلاد.

وحملت هذه القوى، ما أسمتها بـ"سلطة الانقلاب"، المسؤولية القانونية والسياسية لما انجر عن هذه الانتخابات من إهدار للوقت والمال.

واعتبرت أن الرفض المدني السلمي لهذا "المسار المشوه نزع كل شرعية عن قيس سعيد ودكتاتوريته الرثة وطالبت بالوقف الفوري لهذا المسار وإلغاء كل القرارات والأوامر الاستثنائية وعلى رأسها الأمر 117 وكل ما ترتب عنها".

كما دعت هذه القوى كل مكونات المجتمع المدني والسياسي للتوحد حتى يكونوا في مستوى الرسالة القوية التي عبرت عنها الإرادة الشعبية من خلال المقاطعة الواسعة لهذه الانتخابات.

وفي هذا السياق دعا أحمد نجيب الشابي رئيس جبهة الخلاص الوطني مختلف الأحزاب والمنظمات الاجتماعية إلى توحيد موقفها من أجل "رحيل" الرئيس قيس سعيّد وتنظيم انتخابات مبكرة، وطالب الشابي الحركة السياسية والمدنية بأن تضع "اليد في اليد من أجل إحداث التغيير وهو رحيل قيس سعيّد والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة".

هذه المطالب التي عبرت عنها القوى السياسية التونسية سواء من خلال البيانات أو الندوات الصحافية، هي ترتيب للنتائج السياسية المباشرة لهذه المقاطعة الواسعة، ولكن دلالات هذه المقاطعة تبدو أعمق بكثير من مجرد الاستتباعات السياسية التي طالبت بها القوى السياسية.

فنسب المشاركة الهزيلة للغاية في هذه الانتخابات جعلت منها كما قال الشابي مسخا وفشلا ذريعا لقيس سعيد، وما يجب أن يرتب عنها من تداعيات أكبر بكثير من مجرد إلغاء الأوامر الاستثنائية أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة أو القبول بمبادرات الحوار كما يطالب بذلك اتحاد الشغل المركزية العمالية الأكبر في تونس.

نحن عمليا أمام نهاية منظومة 25 جويلية، والموقف الشعبي الواسع والجامع والحاسم يعني فشل خارطة الطريق التي أراد لها سعيد أن تكون مخرجا من الأزمة التي دخلتها البلاد بمفعول الانقلاب. وهي فشلت في كل محطاتها من الاستشارة الشعبية التي شهدت نسب مشاركة متدنية للغاية وشارك فيها نحو 534915 من جملة سبعة ملايين ناخب تقريبا، إلى الاستفتاء الذي لم تتجاوز نسب المشاركة فيه 11،3 بالمائة، وصولا إلى الانتخابات البرلمانية في دورتها الأولى والثانية والتي لم تتجاوز هي أيضا 11،3 بالمائة أيضا.

نحن أمام خط ثابت من المقاطعة الشعبية الواسعة لمشروع قيس سعيد، ومساره الذي طالما وصفه بالشعبي، ولكنه وفي مفارقة عجيبة، يسجل أضعف نسب مشاركة في تاريخ الانتخابات في تونس والعالم أيضا.

لذلك فإن ما حدث في هذه الانتخابات ليس مجرد عزوف أو حتى مقاطعة، إنه استفتاء على مشروعية قيس سعيد، ومدى القبول الشعبي له، وهو الذي طالما رفع شعار الشعب يريد، وجعل من هذه الإرادة الشعبية المزعومة مبررا لكل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها.

وتكرار هذه المقاطعة، في الدورتين (الأولى والثانية) وبنفس النسب تقريبا (90 في المائة) تأكيد على أن هذه المقاطعة واعية وراديكالية وغير مرتبطة ببعض الظروف مثل مباريات كأس العالم أو أحوال الطقس كما ادعت بعض الأصوات الداعمة لسعيد.

إننا أمام حكم بات، على درجتين (ابتدائيا واستئنافيا)، من محكمة الشعب، يقضي بنهاية منظومة 25 جويلية، ونزع كل شرعية عنها وعن إجراءاتها الاستثنائية، وهي التي أرادت أن تجعل من هذه الانتخابات بكل الهنات والنقائص والفضائح التي رافقتها، آخر محطات مشروع قيس سعيد للتأسيس الجديد.

فسعيد، ومنذ اعتلائه سدة الحكم، حاول التأسيس لشرعية جديدة، أراد لها أن تنسف أي شرعية لمنظومة الثورة، وبدأ الحديث حتى قبل انقلابه، عن الشرعية والمشروعية، وكان يريد التشكيك من خلال ذلك في شرعية منظومة الحكم التي كانت قائمة حينها.

الخطة كانت واضحة وتتمثل في ثلاث نقاط أساسية، وهي استبدال منظومة الثورة بمنظومة الانقلاب وإلغاء دستور الثورة لسنة 2014 واستبداله بدستور جديد، وإلغاء مجلس النواب المنتخب بطريقة شرعية، بمجلس لا لون ولا طعم ولا رائحة له.

لم يكن قيس سعيد معنيا بالمضامين العميقة لخطواته تلك، ولا مدى شرعيتها ولا مقبوليتها شعبيا، بقدر ما كان مشغولا بـ"المرور بقوة" حتى وإن كانت خطواته التي اتخذها ذات طابع شكلي فقط.. فلا يهم إن كان هذا الدستور الجديد جيدا أم لا أو محل إجماع من قبل التونسيين أم هو مرفوض من غالبيتهم العظمى، ولا يهم إن كان المجلس النيابي الجديد، ممثلا حقيقة للتونسيين ويعبر عن إرادتهم الحرة والنزيهة، ولا يهم إن كانت الانتخابات التي ستفرزه تحترم المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة، ولا يهم إن شارك التونسيون في تلك الانتخابات أم لا.. المهم أن يكون لدينا (من حيث الشكل) مجلس نيابي جديد يستطيع حسب قيس سعيد أن يحلّ محل المجلس المنتخب في انتخابات حرة ونزيهة بشهادة العالم كله.

وما لم يكن يتوقعه قيس سعيد هو أن مشروعه وخطواته تلك ومحاولته التأسيس لشرعية جديدة تنسف شرعية منظومة الثورة، ستفشل فشلا ذريعا حتى شكليا.

ونسبة المشاركة المتدنية جدا في هذه الانتخابات، لم تسقط شرعية ومشروعية منظومة 25 جويلية، فقط، بل هي أعلنت فشل هذه المنظومة في التأسيس لشرعية جديدة، وبالتالي فشلها في ضرب شرعية ومشروعية منظومة الثورة، وهذا هو الفشل الأكبر لقيس سعيد.

لأن المطلوب الأساسي من الانقلاب وهدفه الرئيسي، لم يكن افتكاك السلطة فقط، والهيمنة على مقاليد الأمور في البلاد، بل غلق قوس الثورة، ونسف كل شرعية للمنظومة التي حكمت العشرية الماضية، وذلك بتفكيك كل مؤسساتها وهيئاتها وإلغاء كل ما تحقق فيها من دستور وحرية وديمقراطية وتداول سلمي على السلطة.. وذلك لن يتأتى له إلا بالتأسيس لشرعية جديدة.

ومنظومة 25 جويلية تدرك جيدا أن نسبة المشاركة المتدنية جدا في الدور الأول من الانتخابات البرلمانية، لم تكن تعبيرا عن مقاطعة التونسيين لتلك الانتخابات فقط بل كانت في الجوهر استفتاء على مشروع قيس سعيد، وكل الخطوات الأحادية الانفرادية التي قام بها منذ 25 جويلية 2021.

ما يعني أن الرأي العام في الداخل والخارج مُجمع على فشل قيس سعيد في التأسيس لمشروعية جديدة، وهو ما يعني أيضا فشلا في غلق قوس الثورة، وهو ما جعل الكثير من القوى ومراكز النفوذ والصناديق الدولية ترفض التعامل معه ودعمه.

لذا فإن مظاهر الأزمة الاجتماعية من ارتفاع في الأسعار وندرة في الكثير من المواد واختلال التوازنات المالية، ما هي إلا نتيجة لأزمة أعمق تعيشها منظومة الانقلاب وهي الفشل في التأسيس لمشروع جديد.. عكس ما حدث بعد سقوط منظومة بن علي، إذ نجحت الثورة في الحصول على تأييد العالم كله، وحظيت باحترام وتقدير كبيرين واعتُبرت نموذجا واستثناء في العالم العربي، وهو ما سمح لها بأن تحظى بدعم مالي كبير إضافة إلى الدعم السياسي الواسع.

والثورة، نجحت في التأسيس لمشروعية جديدة، لأنها كانت بالأساس نتيجة هبة شعبية عارمة، أطاحت بمنظومة بن علي ودكتاتوريته القائمة على حكم فردي مطلق، وعلى القبضة الأمنية، والحكم بالحديد والنار.

كما نجحت في التأسيس لشرعية جديدة، عبر مجموعة من المحطات الانتخابية والدستورية الهامة، التي لم يشكك فيها أحد. ومثّل الإجماع الوطني على نزاهة تلك المحطات الانتخابية، إضافة إلى الدعم الدولي الذي تلقته بلادنا، اعترافا داخليا وخارجيا بشرعية منظومة الثورة التي نجحت بفضل تمشيها الديمقراطي في نسف مشروعية منظومة بن علي تماما.

ما نجحت فيه الثورة فشل فيه قيس سعيد، وفشله يعني دخول البلاد في أزمة سياسية حادة ستكون تداعياتها الاجتماعية كارثية على تونس بسبب رفض المجتمع الدولي التعاطي معه لأنه فشل في أن يقدم نموذجا للحكم يحترم الحد الأدنى من الحريات وحقوق الإنسان ويحافظ على مؤسسات الدولة ونواميسها. وما نراه من زحمة للمبادرات (بعضها بضوء أخضر خارجي) دليل على أن الانتخابات الأخيرة أسقطت آخر ورقات التوت عن منظومة قيس سعيد، التي بات الجميع يبحث عن بدائل لها.

الانتخابات الأخيرة مثلت وفق البعض صفعة قوية على وجه المنظومة الحاكمة التي يسميها التونسيون بالانقلاب فهل تكون هذه الصفعة كافية لجعل قيس سعيد والقائمين على هذه المنظومة يستفيقون من غفوتهم.. أم أنهم سيصرون على "المرور بقوة" والمضي في تهويماتهم وأوهامهم، واعتبار العشرة في المائة كافية لتأسيس مشروع وطني جديد وجمهورية جديدة، حتى ولو كفرت بها غالبية الشعب التونسي.
التعليقات (1)
متابع
الإثنين، 30-01-2023 07:00 م
نعم لم يعد لقيس سعيد من ملاذ سوى أن يترك البلد ويهرب، لعله ينجو من محاكمة تودعه السجن حتى آخر يوم في حياته.. أمام قيس سعيد طريقان لا ثالث لهما؛ فإما أن يستمر في هذيانه ويغالي في القمع والبطش، وإما أن ينسحب بهدوء، وفي الحالة الأولى فهو أيضا يعرض نفسه للخطر واحتمال نشوب ثورة أقوى وأشد من ثورة 2011، وفي الثانية فإنه سيخسر كل شيء، ويشار إليه كأفشل رئيس مر على تونس بل والعالم. نتمنى أن نسمع أخبارا طيبة قريبا بزوال هذا المريض الهش.