أفكَار

جذور الحركة القومية العربية في العراق.. معطيات ومبادئ

سعد ناجي جواد: بدأت الأفكار القومية في العراق بالتبلور في بداية القرن الماضي، متأخرة نوعا ما عما كان يجري في بلاد الشام ومصر (فيسبوك)
سعد ناجي جواد: بدأت الأفكار القومية في العراق بالتبلور في بداية القرن الماضي، متأخرة نوعا ما عما كان يجري في بلاد الشام ومصر (فيسبوك)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم نبدأ عرض تاريخ التيار القومي في العراق، في ورقة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21" الأستاذ الدكتور سعد ناجي جواد، عن تاريخ القوميين في العراق وتوجهاتهم الرئيسية، ننشرها في حلقات.


المقدمة:

مرت مراحل تبلور الوعي القومي العربي الفطري، والذي تحول بعد ذلك إلى حركة قومية عربية واضحة المعالم بأربع مراحل:

المرحلة الأولى بدأت في نهاية القرن التاسع عشر، وتصاعدت بعد أن اعتمدت الدولة العثمانية سياسة التتريك في بداية القرن العشرين على يد حزب الاتحاد والترقي. هذه السياسة والإصرار عليها أثارت الشعور القومي الفطري لدى العرب التابعين للدولة العثمانية، وأهم وأول شريحة كانت مجموعة الضباط الذين كانوا إما جزءا من الجيش العثماني أو طلاباً في الكلية العسكرية العثمانية في إسطنبول. وأهمية هؤلاء الضباط تنبع من حقيقة أنهم أصبحوا فيما بعد نواة الجيش العربي في الثورة العربية (1916)، ومن ثم من مؤسسي الجيوش العربية الإقليمية. 

في هذه المرحلة أيضا بدأ الشباب الواعي وخاصة الذين درسوا في الجامعات الغربية وتأثروا بالأفكار القومية الأوروبية (في ألمانيا وإيطاليا) يكتبون ويثيرون الروح القومية لدى الناس. هذه الكتابات ظهرت بين كُتّاب مسيحيين، في سوريا ولبنان، وانتقلت جدواها إلى العراق ومصر.

هناك من يقول إن تجربة محمد علي في مصر، وبالذات تجربة ولده إبراهيم باشا، صاحب الكلمة المشهورة (جئت إلى مصر صبياً، ومن ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً)، وعمله على توحيد بلاد الشام مع مصر، كانت التجربة الأكثر إلهاما للوعي العربي، ولهذا أصرت بريطانيا، بالتعاون مع الدول الأوروبية الأخرى على وأدها قبل أن تتمدد في باقي دول المشرق العربي، ونجحت في ذلك.

كما أن هذه المرحلة شهدت وضع الأسس الفكرية لهذه الحركة من خلال أفكار وكتابات وأحاديث الشخصيات الإصلاحية التنويرية الأولى، مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا، ومن جاء من بعدهم من كُتّاب المشرق العربي الذين ركزوا على فكرة القومية العربية.

إن تجربة محمد علي في مصر، وبالذات تجربة ولده إبراهيم باشا، صاحب الكلمة المشهورة (جئت إلى مصر صبياً، ومن ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً)، وعمله على توحيد بلاد الشام مع مصر، كانت التجربة الأكثر إلهاما للوعي العربي
المرحلة الثانية بدأت مع بداية الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، وتكشف مخططات تهويد فلسطين من أجل منحها إلى الحركة الصهيونية، وخاصة من قبل بريطانيا الدولة التي أصدرت وعد بلفور وانتُدِبت كدولة مُستعمِرة لفلسطين. وبلغت هذه المرحلة أوجها في عامي 1947 ـ 1948. تميزت هذه المرحلة بظهور وعي قومي عربي عَبَرَ عن نفسه بحركات المقاومة المسلحة الشعبية في فلسطين وبين ضباط الجيوش العربية (المصرية والعراقية والسورية والأردنية) الذين كانوا يحاربون على أرضها عام 1948.

هذه المرحلة شهدت ظهور أو انتشار حركات ذات نزعة قومية في المشرق العربي أهمها حزب البعث في سوريا والعراق، وحزب الاستقلال في العراق، هذه الأحزاب والتحركات القومية استطاعت أن تحقق نجاحات على المستوى الشعبي وعلى حساب الحركة والأحزاب الشيوعية التي كانت، في السابق تتفوق عليها، وذلك بسبب مواقف الأحزاب الشيوعية المؤيدة لعملية تقسيم فلسطين.

المرحلة الثالثة والأهم جاءت بعد الثورة المصرية 1952، وبالتحديد بعد ظهور شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الملهمة (الكارزمية). لقد شكلت خطابات وأفكار وإنجازات عبد الناصر القومية والثورية أساساً للحركات التي بدأت تظهر بعد هذه الفترة في كل أرجاء الوطن العربي. ويمكن القول بأنه لم يحدث أن امتلك قائد عربي مثل قدرته على تحريك الجماهير العربية، والأهم قدرته على إحياء الاعتزاز بالانتماء القومي العربي، وهو لم ينجح في تثبيت هذا الوعي في داخل مصر فقط وإنما في كل الأقطار العربية. علما أن أفكاره الثورية التحررية وصلت إلى كل أرجاء أفريقيا وآسيا، وأصبحت القاهرة مقراً لكل حركات التحرر في القارتين، بل وحتى أمريكا اللاتينية. وأصبحت الحركة ومن ينتمي لها في كل الوطن العربي يُعرَفون بالقوميين العرب الناصريين.

المرحلة الرابعة بدأت بعد نكسة حزيران / يونيو 1967، صحيح أن أغلب الأحزاب والحركات والشخصيات القومية العربية لم تتخل عن تأييدها للرئيس عبد الناصر، إلا أن عددا غير قليل منها اتجه إلى الفكر الماركسي والإشتراكي أو اليساري الثوري المتطرف، وأصبحت أفكار النضال والمقاومة وتحرير فلسطين بالمقاومة المسلحة هي أساس عمل كل الحركات القومية في الوطن العربي.

الحركة القومية في العراق

بدأت الأفكار القومية في العراق بالتبلور في بداية القرن الماضي، متأخرة نوعا ما عما كان يجري في بلاد الشام ومصر، وذلك لأسباب تتعلق بضعف مستوى التعليم وقلة الانفتاح على التيارات الفكرية الخارجية. ولكن كون العراق موطن الشعر والشعراء فلقد لعبت الحركة الشعرية وخاصة قصائد محمد سعيد الحبوبي وعبد المحسن الكاظمي وعبد الغفار الأخرس وغيرهم، دورا كبيرا في تأجيج المشاعر الوطنية والقومية بدون وجود حركة فكرية منظمة. ثم جاءت ثورة العشرين (1920) لتكون مصدر إلهام جديدا للشعراء ودليلاً واضحاً على وجود الشعور القومي العربي بين الناس. في هذه المرحلة لم تكن سياسة التتريك وحدها هي من حَفَّز هذه المشاعر، وإنما محاولات بلاد فارس (إيران) لتصنيف أبناء العراق وخاصة وسطه وجنوبه، جزءا من إيران، كان لها دور في ذلك.

قبل وأثناء الاحتلال البريطاني للعراق (بدأ في البصرة عام 1914، ثم بغداد في 1917 واستُكمِلَ باحتلال كل المحافظات الشمالية عام 1918) تأرجح التفكير الوطني بين العروبية والعراقية. فمن ناحية أظهر أغلب الضباط الشباب الذين كانوا ضمن الجيش العثماني أو في الكلية العسكرية في إسطنبول نشاطات قومية عربية رافضة لسياسة التتريك، وهي النشاطات التي تسببت في طرد أغلبهم من الكلية العسكرية، ثم التحقوا بثورة الشريف حسين (1916)، ومن ثم بالجيش العربي الذي قاده الملك فيصل الأول، سواء عندما أصبح ملكا على سوريا (1920) أو العراق فيما بعد (1921).

في العراق تعرضت حملة الشعور أو الوعي القومي العربي إلى اضطهادين مختلفين، الأول من قبل السلطات العثمانية في البداية، والثاني من قبل الاحتلال البريطاني.
في تلك الفترة أيضا كان هناك توجه قومي إسلامي مبني على مزيج من التمسك بالدين الإسلامي لمواجهة (الغرب المسيحي الكافر) الممزوج بالاعتزاز بالقومية العربية، على أساس أن القرآن الكريم نزل عربياً. أصحاب هذا الاتجاه ظلوا متأرجحين بين مساندة الدولة العثمانية على أساس أنها سلطة مسلمة تحارب ضد دول أوروبية كافرة، وبين الانحياز إلى الجيش العربي الذي كان يحارب مع الجيش البريطاني ضد الجيش العثماني. ويمكن القول بشيء من الإيجاز إن أفكار القوميين ـ الإسلاميين في تلك الفترة انقسمت إلى قسمين قسم مع بقاء وإصلاح الدولة العثمانية المسلمة (في مصر بالذات) والقسم الآخر رافض للدولة العثمانية ويعمل على إسقاطها على أساس أن ذلك سينتج عنه بناء دولة عربية مستقلة (سوريا ولبنان والعراق). وهذا الشعور ازداد بعد مذابح جمال السفاح في سوريا ولبنان (1915 و1916).

في العراق تعرضت حملة الشعور أو الوعي القومي العربي إلى اضطهادين مختلفين، الأول من قبل السلطات العثمانية في البداية، والثاني من قبل الاحتلال البريطاني. وهذا الأخير استمر، ثم نجحت إدارات الاحتلال في النهاية في خلق فكر عراقي إقليمي لدى الطبقة الحاكمة، بدعوى أن العراق يتكون من قوميات وأديان ومذاهب مختلفة لا يمكن للفكر القومي أن يستوعبها. وهذا الكلام يمكن بأن يوصف بأنه كلمة حق يراد بها باطل، وذلك لسبب بسيط أن مدن العراق، وخاصة بغداد كانت تمثل نموذجاً ناجحا للتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود.

وكانت وجوه هذه المكونات تشترك في الاحتفالات والمناسبات الدينية التي يقيمها كل مكون وخاصة في بغداد، حيث أن الوجوه الدينية والمدنية الشيعية كانت تحضر الاحتفالات التي تقام في مرقدي الإمام عبد القادر الكيلاني والإمام أبو حنيفة النعمان، وبالمقابل كانت الوجوه السُنية تحضر المآتم التي يقيمها الشيعة بمناسبة استشهاد الإمام الحسين في الكاظمية، حيث مرقد الإمامين الكاظمين، (موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد). ونفس الشيء كانت الوجوه الإسلامية تقوم به تجاه الطائفتين المسيحية واليهودية، وكانت وجوه الطائفتين الأخيرتين تبادل المسلمين أفعالهم تلك.

والدليل الأهم الآخر هو عندما اندلعت ثورة العشرين (حزيران/ يونيو 1920) ضد الاحتلال البريطاني جاءها التأييد من كل المكونات. صحيح أن مادة الثورة كانوا عشائر وفلاحي الفرات الأوسط الشيعية، إلا أن عشائر سُنية وكردية سارعت للمشاركة فيها ودعمها. كما دعمتها بعض المراجع الدينية في كربلاء والنجف. وصحيح أيضا أن الجيش البريطاني الأقوى والمالك للأسلحة الأكثر فتكا قد نجح في إخماد هذه الثورة (تم استخدام حتى الأسلحة الكيمياوية ضد الثوار)، لكن الثورة نجحت في تكبيده خسائر جسيمة وبالتالي أفشلت الثورة فكرة بريطانيا المبنية على حكم العراق حكماً مباشراً، وإجبارها (بريطانيا) على اختيار ملك عربي وحكومة عراقية. وحتى مسألة اختيار الأمير فيصل ملكا للعراق جاءت لتثبت تعالي العراقيين على الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية والإقليمية. فلقد أيد العراقيون وعلى رأسهم رجال الدين الشيعة اختيار ملك سُني وأيد الأكراد اختيار ملك عربي وأيد السُنة اختيار ملك حجازي بدلا من المرشحين الآخرين من العراقيين.

ظهرت نشاطات تعمل لإخراج العراقيين من التفكير العراقي الوطني الضيق إلى التفكير القومي الأوسع. هذه الدعوات أو المحاولات بدأت على يد مجموعة من المدرسين العرب (سوريين وفلسطينيين ولبنانيين) قدموا للعمل في المدارس العراقية في عشرينيات وثلاثينيات، وحتى أربعينيات القرن الماضي، وانضم لهم بعض أقرانهم من العراقيين.
بعد اختيار الملك فيصل الأول، وكما ذكرنا أعلاه بدأ التفكير السياسي الحاكم يأخذ مسارا وشكلا عراقيا، تغلب على الفكر أو الاتجاه القومي العروبي، على الأقل في الجانب الحكومي الرسمي. طبعا هذا الكلام لا يعني أن الفكر العروبي في العراق قد انحسر، فأصحاب الفكر الأول هم عروبيون بالأساس، ولكن أحاديثهم بدأت تركز على العراق وعلى ضرورة خلق هوية عراقية وأهمية العمل على إشعار الجميع بأنهم عراقيون متساوون، وهي تعابير كان يشدد عليها الملك فيصل الأول ويوصي بها أركان حكمه. وهذا نهج شجعته إدارة الإنتداب البريطانية لأسباب معروفة. وفي فترة من الفترات وعندما واجهت الملك فيصل الأول مشاكل داخلية كتب مذكرة يشتكي فيها من عدم تبلور شعور عراقي جامع بين العراقيين، وأنهم كانوا مجاميع ذات تفكير قبلي وعشائري، وهذه المذكرة، التي يحلو لكثير من الكتاب الحاليين أن يستندوا إليها لترويج فكرة أن لا وجود لشعب عراقي، كُتِبَت في لحظة نفسية صعبة مر بها الملك، بدليل أن سياسته وسياسة من جاء معه ومن بعده نجحت في بناء هوية عراقية عروبية واضحة وعراق موحد امتلك جيشا موحدا وإدارة موحدة عصرية مرتكزة على نظام بني على فكرة الوحدة الوطنية الجامعة، وكل ذلك تكلل في أن يكون العراق أول دولة عربية تدخل عصبة الأمم 1932.

في مقابل هذا التوجه، ظهرت نشاطات تعمل لإخراج العراقيين من التفكير العراقي الوطني الضيق إلى التفكير القومي الأوسع. هذه الدعوات أو المحاولات بدأت على يد مجموعة من المدرسين العرب (سوريين وفلسطينيين ولبنانيين) قدموا للعمل في المدارس العراقية في عشرينيات وثلاثينيات، وحتى أربعينيات القرن الماضي، وانضم لهم بعض أقرانهم من العراقيين. واستطاعت هذه المجموعة كسب عدد لا بأس به من طلاب المدارس المتوسطة والثانوية، بل وحتى الكليات والمعاهد، وأحيت فيهم المشاعر القومية العربية.

وعندما تنبهت السلطات البريطانية للدور الذي كان يلعبه هؤلاء المدرسون العرب حثت الحكومة العراقية على ترحيلهم الواحد تلو الآخر. ولكن أقرانهم من العراقيين استمروا في نفس النهج واستطاعوا تحقيق بعض النجاحات. كما يجب عدم إغفال دور الملك الشاب غازي (1936 ـ 1939)، الذي خلف والده فيصل الأول، في إذكاء الروح الوطنية والعروبية من خلال الإذاعة الصغيرة التي أنشأها في قصره، والأهم تشكيله لمنظمة الفتوة التي ضمت عددا كبيرا من أبناء المدارس الذين تم تدريبهم تدريباً عسكريا على يد ضباط من الجيش العراقي، وفشلت تلك التجربة بسبب تدخل الإدارة البريطانية وسحب المدربين العسكريين، ثم توقفت بعد وفاة (اغتيال) الملك غازي المفاجئة.
التعليقات (0)